الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - الزهد |
ما أشبه الليلة بالبارحة.. فالمتأمل في واقع كثير من بلاد المسلمين اليوم -خاصة تلك الدول أو المدن التي وسّع الله عليها- وَجَدَ آثار هذا الترف، وكأنه في أندلسٍ أخرى تنتظر السقوط! تأملوا في انتشار الأغاني! والتفنن في نشرها، وتصويرها، وتسويقها بأساليب عجيبة، لا تكتفي بمجرد الغناء، بل صار وسيلة لتسويق الفجور والخنا! وأما الخمر، فإن انتشارها في الناس في هذه السنوات، أمرٌ يدعو إلى الخوف والقلق، والإحصاءات والأرقام التي تذكرها هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيء محزن، وما خفي عليها ربما كان أعظم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
ففي يوم من أيام المدينة العابقة بأنفاس محمد -صلى الله عليه وسلم-.. وبينما هو جالسٌ في غرفةٍ من الغرف، يدخل عليه عمر بن الخطاب، فيفجأه ما رأى! فيقول: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع على حصير، فجلست؛ فأدنى عليه إزارَه وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه الشريف، يقول عمر: فنظرتُ ببصري في خزانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قَرَظاً في ناحية الغرفة (والقرظ: ورق السَّلَم الذي يدبغ به الجلد). وإذا جلد لم يُدبغ، قال: فابتدرتُ عيناي.
قال: «ما يبكيكَ يا ابن الخطاب»؟ قلت: يا نبي الله! وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى؟! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار! وأنت رسول الله وصفوته، وهذه خزانتك؟! فقال: «يا ابن الخطاب! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا»؟ (البخاري ح (4913) مسلم ح (1479) واللفظ له).
صلى الله وسلم على سيد الزهاد.. الذين عرفوا حقيقة الدنيا؛ فأيقنوا أنها دار ممر لا دار مقرٍّ، سفرها قصير، وأيامها محدودة، دار نصب وكبد، آمالها آلام، وصفوها أكدار، فهي ما بين نقمة نازلة، أو نعمة زائلة، "فخيرها يسير، وعيشها قصير، وإقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، ولذاتها فانية، وتبعاتها باقية"( أدب الدنيا والدين، ص: 110).
هكذا .. يحجب اللهُ نعيم الدنيا عن خيرة خلقه وأحبهم إليه، وهكذا هم عامةُ أنبيائه ورسله، إلا من أراد الله أن يُقتدى به في مُلْكِه ومملكته؛ ليعرف الصالحون كيف تكون الدنيا باليد لا بالقلب.
وفي مقابل ذلك: فإن الله -تعالى- علّق قلوبَ أوليائه بالآخرة، فأيقنوا أن من عمل لها أحرزها والدنيا، ومن آثر الدنيا حُرِمها والآخرة.
عباد الله! ولم تكن قصة عمر السابقة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وحيدة، بل لها عشرات الأمثلة، التي سرتْ آثارُ تلك التربية النبوية على أصحابه الكرام، منهم عمر الفاروق، الذي بلغ به زهدُه وعدمُ تعلقه بالدنيا أن خطب الناس يوماً -وهو خليفة المسلمين - وثوبه مرقّع، وخطبهم يوماً وبطنه يقرقر من الجوع.
أيها المسلمون: لقد تنوعّت أساليبُ القرآن والسنة في بيان حقيقة الدارين، وكيفية التعامل معهما، وكشفت عن صورٍ كثيرة، وقصص منوّعة عن أفرادٍ وأمم خُدعوا بالدنيا، وعن أقوام آثروا الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، فأفلحوا وأنجحوا.
ومن أساليب القرآن في حديثه عن المغترين بهذه الدار: حديثه عن المترفين، فقد ذكر القرآنُ الترفَ والمترفين صراحةً في ثمانية مواضع، فلم يمدحهم قط، بل ذمّهم، ولعنهم، وخسف بهم، وأصلاهم النار وبئس المصير! تحدث عنهم جماعات وأفراداً!
من الذي يقرأ القرآن ولا يمرّ به خبر قارون، ذلك التاجر المترف! الذي خُسِفَ به، ولم ينتفع بنصح ناصح، ولا زجر واعظ!
ومن الذي يقرأ القرآن، ولا يمر به حديثه عن المترفين الذين استدرجوا - دولاً وأفراداً - فصار العقاب لهم بالمرصاد؟! (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 11 - 13]، (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)[هود: 116].
أما المترفين: فـ(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ)[الواقعة: 41 - 45].
وأما شواهد التاريخ على سوء عاقبة المترفين في الدنيا فكثيرة جداً، ولعل من أبزر الأمثلة المحزنة سقوط الأندلس، فإن جمعاً من الباحثين - الذين درسوا تاريخ بلاد الأندلس - ذكروا أن انتشار الترف كان أحد أهم أسباب سقوطها بيد النصارى!
يقول أحد الباحثين: "إن الخلاعة والمجون كانتا من مظاهر انحراف المسلمين عن منهج الله، وكان لهما أثر واضح في سقوط الأندلس! فلقد انتشر عند مسلمي الأندلس في عصر ملوك الطوائف كثيرٌ من الأمراض الخُلقية، كالمجون والخلاعة والطرب، وشربِ الخمر، والاستغراق في الملذات الجسدية، والإكثار من الجواري والنساء، ومن ذلك: أنه ورد على حاكم قرطبة - حاضرة المسلمين في ذلك الوقت - في يوم واحد فقط، كتابان من اثنين من ملوك الطوائف أحدهما: يطلب جارية تضرب على العود، والآخر: يطلب جارية زامرة!
وأما شرب الخمر فصار أمراً لا غرابة فيه في ذلك العصر (ولعل القارئ لدواوين الشعر في ذلك الوقت يدرك كيف أن وصف الخمرة والتغني بها كان أمراً مألوفاً عند كثير من شعراء ذلك العصر)، فصار كثير من الناس يقضون لياليهم أيقاظاً يجتمعون على الكؤوس حتى الصباح!
أما الغناء والطرب، فلقد كان له نصيبه الوافر، فكيف ينتشر الخمر ولا ينتشر الغناء والطرب؟! فلقد كانوا يتفاخرون بكثرة آلاتها ومجيديها حيث يقولون : عند فلان عودان وثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك.
وذكر الإمام ابنُ حزم أنه في ذلك العصر قد عظم البلاء؛ فهان القبيح، ورقّ الدين، حتى رضي الإنسان بالفضائح والقبائح مقابل وصوله إلى مراده وشهوته، وهكذا غرق أولئك القوم في مستنقع الفحش والرذيلة، وفي عالم الترف والبطر"ا.هـ(مستفاد من بحث للدكتور حمد السحيباني عدد (48) من مجلة البيان).
ما أشبه الليلة بالبارحة .. فالمتأمل في واقع كثير من بلاد المسلمين اليوم -خاصة تلك الدول أو المدن التي وسّع الله عليها- وَجَدَ آثار هذا الترف، وكأنه في أندلسٍ أخرى تنتظر السقوط!
تأملوا في انتشار الأغاني! والتفنن في نشرها، وتصويرها، وتسويقها بأساليب عجيبة، لا تكتفي بمجرد الغناء، بل صار وسيلة لتسويق الفجور والخنا!
وأما الخمر، فإن انتشارها في الناس في هذه السنوات، أمرٌ يدعو إلى الخوف والقلق، والإحصاءات والأرقام التي تذكرها هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيء محزن، وما خفي عليها ربما كان أعظم.
ومن زار بعضَ الدول العربية والإسلامية أدرك حقيقة ما أقول، فإن المسلم لتأخذه الدهشة حين يعلم أن الخمر متاحة في أكثر الفنادق، والعياذ بالله!!
وأما انتشار الربا في كثير من البنوك فشيء لا يحتاج إلى بيّنة وبرهنة! أتدرون ما الربا؟ إنه حرب لله ورسوله!
فعلى الأمة جميعاً إن أرادت البقاء، والسلامة من العقوبات، وجريان سنن الله عليها؛ أن تعود إلى ربها، وأن تستعمل ما رزقها الله في طاعته، وأن تحذر من مخالفة أمره، فلقد قال الله -عقب قصة المترف المتكبر قارون-: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا)[القصص: 78]؟
وقال عقب قصة دولة سبأ المترفة، التي بطرت نعمة الله: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور)[سبأ: 16، 17].
إنها السنن يا عباد الله! التي لا تحابي أحداً، ولا تستثني شخصاً ولا دولة ولا أمة: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاق)[غافر: 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...، أما بعد:
فإن للترف آثاراً سيئة على الأفراد والأمم، ومن ذلك:
1- الغفلة عن الله والدار الآخرة، والتشبث بالدنيا، فلقد قال -تعالى- عن قومٍ ردّوا على نبيهم: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)[المؤمنون: 33].
2- وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)[سبأ: 34، 35]، ويكفي أن الترف يُلبس صاحبَه عارَ الغفلة، فلا يثوب ولا يرجع إلا إذا وقع العذاب: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)[المؤمنون: 64].
3- أن الترف في الغالب ملازمٌ للكبر -الذي هو بطر الحق وغمط الناس-: وهذا ما قاله قارون حينما نُصِح بأن يحذر من الطغيان الذي يعيشه: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78].
4- ومع انتشار الترف يشيع الفسوق المؤدي إلى حلول العقوبة: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء: 16]، وفي سقوط الأندلس عبرة وأي عبرة.
5- أنه قد يكون سبباً في استدراج دُولٍ ومدن بأكملها لتأخذه جزاء ظلمها! كما سبقت الإشارة إليه آنفاً.
أيها المسلمون!
إن الحديث عن الترف، لا يعني طلب ترك النعمة، ولا التباعد عنها، بل نقول كما قال الله: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)[سبأ: 15]، فإن المترَف المذموم، هو الذي أبطرتْه النعمة وسعة المعيشة(تفسير الرازي (18/ 409)، وليس الذي يتمتع بنعمة الله على طاعته.
وإذا أردتَ أن تعرف هل أنت من المترفين المذمومين أم لا..انظر كيف حالك مع أوامر الله ونواهيه؟ وانظر هل أنت ممن قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له»( مسلم ح(2999).
وإذا أردتَ معرفة دواء الترف فاعرف حقيقة الدنيا، وإياك والاغترار بها، وتأمل في هذه الوصية التي تختصر علاج الترف والتعلّق بالدنيا، تلك الوصية النبوية العظيمة التي أوصى بها عبدَالله بن عمر رضي الله عنهما فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل"( البخاري ح(6416).
والمعنى: كن كالغريب عن بلده، لا يستكثر من الأمور التي تُثقل ظهرَه إذا أراد الرجوع إلى وطنه الأصلي.. الجنّة!
فحيّ على جنات عدن فإنها | منازلك الأولى وفيها المخيم |
ولكننا سبى العدو، فهل ترى | نعود إلى أوطاننا ونسلَّم؟ |
اللهم ارزقنا الزهد في الدنيا، والتعلّق بالآخرة، اللهم اجعل الدنيا بأيدينا لا في قلوبنا، واجعلنا ممن استعان بنعمك على طاعتك.. اللهم لا تجعلنا من (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)[إبراهيم: 28].