الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
من شدائد ذلك اليوم أنَّ الناس يوم البعث يوم القيام من القبور يقفون عطاشًا اشتد بهم العطش واشتدت بهم الحاجة إلى الماء في أمرٍ وشدة لم يسبق لهم نظيرها،.. وبينا العباد يوم القيامة في عرصات يوم القيامة وقد اشتد بهم عطشهم وعظم خطبهم إذا في عرصات القيامة حوضٌ مورود ألا ما أهنأه، ألا ما أجمله، ألا ما أعظم هناءة من شرب منه، شربةً في عطش شديد وحاجة ماسة لا يظمأ العبد بعدها أبدًا، فإذا شرب الماء فيما بعد لا يشربه للري ودفع العطش وإنما يشربه للهناءة واللذة.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذَّرها منها؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى، وراقبوه -جل في علاه- مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه. واعلموا رعاكم الله أن تقوى الله -عز وجل- هي خيرُ زادٍ يبلغ إلى رضوان الله، قال الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة:197].
أيها المؤمنون: إن العبد كلما ازداد علمًا بأمور الآخرة وتفاصيلها في ضوء ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ازداد نصحًا لنفسه واستعدادًا لذلك اليوم العظيم بمواقفه وأهواله وشدائده وبما أعدَّ الله سبحانه وتعالى فيه لأهل الإيمان من المكرمات العظيمة والخيرات العميمة والفضائل التي لا تعد ولا تحصى.
أيها العباد: من شدائد ذلك اليوم أنَّ الناس يوم البعث يوم القيام من القبور يقفون عطاشًا اشتد بهم العطش واشتدت بهم الحاجة إلى الماء في أمرٍ وشدة لم يسبق لهم نظيرها، وهذا العطش الذي يصاحبهم وقيامهم من القبور ينبغي على العبد أن يهيئ نفسه له.
أرأيتم -أيها المؤمنون- كيف أن الناس يتحسَّبون لأمر العطش ويعدون له عدته ويخافون من هوله وشدته، لأن العطش لا يُحتمل بل هو مهلكة وأيما مهلكة؟!
وبينا العباد يوم القيامة في عرصات يوم القيامة وقد اشتد بهم عطشهم وعظم خطبهم إذا في عرصات القيامة حوضٌ مورود ألا ما أهنأه، ألا ما أجمله، ألا ما أعظم هناءة من شرب منه، شربةً في عطش شديد وحاجة ماسة لا يظمأ العبد بعدها أبدا، فإذا شرب الماء فيما بعد لا يشربه للري ودفع العطش وإنما يشربه للهناءة واللذة.
أيها المؤمنون: لقد تكاثرت الأحاديث بل تواترت عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- في ذكر الحوض المورود؛ ذِكر سعَته وحلاوته وطيب رائحته وجمال منظره وبهاء كيزانه وكثرتها حثًّا للعباد وتشويقًا للأمة وترغيبًا في هذا الخير الذي لا يفوِّته ناصح لنفسه. ولقد تواترت الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأن الحوض المورود رواها عنه -عليه الصلاة والسلام- جمعٌ من الصحب الكرام يزيد عددهم على الأربعين صحابيًّا في الصحيحين وغيرهما.
ومن هذه الأحاديث -أيها العباد- ما رواه الإمام مسلم في كتابه الصحيح من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: «بَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: "أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ؛ فَقَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [سورة الكوثر: 1- 3]، ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟" فَقُلْنَا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي -عز وجل-، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ".
وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا".
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ".
وروى مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ؟» قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا، أَلَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ، آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ، يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ، مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ".
وروى مسلم عن أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟ وَاللهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَكَ يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ". قَالَ: فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وهو من رواة الحديث يَقُولُ: «اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ أَنْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا».
أيها المؤمنون: هذه بعض أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذكر صفة الحوض من حيث سعته وعدد كيزانه وحلاوته وطعمه إلى غير ذلك مما ذكر نبينا -عليه الصلاة والسلام-، ويأتي هذا الحوض في مقام عصيب وموقف شديد ينبغي على كل ناصح لنفسه أن يهيئ لذلك اليوم عدته. والعدة أيها العباد: لزوم السنة، والتمسك بهدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، والبُعد عن الأهواء والبدع فإنها مرديةٌ لأهلها مهلكةٌ لهم في الدنيا والآخرة، وهي من أعظم موجبات الحرمان، ومن أعظم أسباب الخذلان.
أيها المؤمنون عباد الله: لقد جعل الله للعباد في هذه الحياة الدنيا موردًا عذبًا ومنهلاً صافيًا؛ ألا وهو سنة النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام-، فمن ورد السنة في هذه الحياة وكان من أهلها ونهل من معينها أورده الله سبحانه يوم القيامة الحوض المورود ليشرب منه شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبدا.
نسأل الله -جل في علاه- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا أجمعين للزوم السنة والتمسك بها، ونسأله -جل في علاه- أن يوردنا أجمعين حوض نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن يسقينا مشربًا هنيئا لا نظمأ بعده أبدًا.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه تبارك وتعالى غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد عباد الله: اتقوا الله تعالى، وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة.
أيها المؤمنون عباد الله: ومن الأمور التي جديرٌ بالمؤمن أن يُعنى بها في هذا المقام -مقام الحوض المورود- أن يكثر من الدعاء والسؤال، سؤال الله -جل في علاه- مع الإلحاح والصدق في الدعاء فإن الله -عز وجل- لا يخيّب من دعاه ولا يرد من ناجاه، وهو القائل -جل في علاه-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60].
روى الحاكم في مستدركه بإسناد صحيح عن أنس -رضي الله عنه- قال: «لَقَدْ تَرَكْتُ بَعْدِي عَجَائِزَ مَا تُصَلِّي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ صَلَاةً إِلَّا سَأَلْتَ رَبَّهَا أَنْ يُورِدَهَا حَوْضَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-».
أيها المؤمنون: ولم يأت في شيء من أحاديث الحوض مع كثرتها وتواترها أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يسقي الناس من حوضه بيده -صلوات الله وسلامه عليه-؛ ولهذا فإن من الأخطاء الشائعة قول بعض الناس في دعائهم "اللهم اسقنا من حوض نبيك بيده الشريفة شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا".
فإن هذا ليس في شيء من الأحاديث ما يدل عليه، بل جاءت الأحاديث مصرحة بخلافه كما مر معنا في بعضها قال -عليه الصلاة والسلام-: "من شرب منه" وذكر كيزانه وأن عددها كعدد نجوم السماء، فالأحاديث دلت على أن كل امرئ موفق يكرمه الله -عز وجل- بالورود يشرب منه بنفسه.
ولهذا عباد الله ينبغي على العبد المؤمن أن يقيم دعاءه وأن يلح على الله -عز وجل- فيه، وفي هذا الباب يكثر من الدعاء أن يورده الله -عز وجل- حوض محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن يسقيه بكيزانه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا.
وقد صح في الحديث عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- "أن لكل نبي حوضًا"، إلا أن حوض نبينا -عليه الصلاة والسلام- أوسعها وأطيبها وأحلاها، وهو أكثر الأحواض واردًا.
نسأل الله -جل في علاه- أن يجعلنا من وارديه ومن الشاربين منه بمنِّه وكرمه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يعيذنا من الأهواء المهلكة والبدع المردية بمنِّه وكرمه.
واعلموا رعاكم الله أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا، وحافظًا ومؤيدا يا رب العالمين.
اللهم انصر جنودنا المرابطين في حدود البلاد، اللهم انصرهم بنصرك يا حي يا قيوم، وأيِّدهم بتأييدك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم ولِّ على المسلمين أينما كانوا خيارهم واصرف عنهم شرارهم.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.