الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
يخوضُ في كلِّ المواضيعِ والأحداثِ بغيرٍ زمامٍ ولا خِطامٍ.. يُقاطعُكَ قبلَ أن تنتهي من كلامِكَ، ويجيبُ عليكَ قبلَ أن تنتهي من سؤالِك.. فإن تكلموا في الدِّينِ سمعتَه كأنَّه شيخُ الإسلامِ.. وإن تحدثوا في السِّياسةِ رأيتَه مبعوثَ الأممِّ المُتحدةِ.. وإن كانَ الموضوعُ في الاقتصادِ أتاكَ بما لا يعرفُه رئيسُ البورصةِ العالميةِ.. وإن كانَ الحديثُ في الطِّبِّ شَخَّصَ لك الحالةَ تشخيصاً دقيقاً.. وإذا خاضوا في السَّفرِ أخبركَ بما لم يرَه ابنُ بطوطةَ في رحلتِه.. وتستطيعُ أن تستشيرَه في المشاكلِ الأسريةِ ووسائلِ تربيةِ الأولادِ.. وعندَه نصائحُ لمن أرادَ أن يبنيَ بيتَ العُمرِ.. ويُعلِّقُ على أسبابِ تغيُّرِ الظروفِ المناخيةِ.. وأوقاتِ زراعةِ الفواكهِ والخُضارِ.. واسألْ تجدْ جوابَ ما تُريدُ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ العلمَ ضياءً والقرآنَ نوراً، ورفعَ الذين أُوتوا العلمَ درجاتٍ عليَّةً، وجعلَ العلماءَ ورثةَ الأنبياءِ، وكفى بربِك هادياً ونصيراً، نحمدُه تعالى حمداً كثيراً، ونشكرُه عزَّ وجلَّ وهو القائلُ: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، كما (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه المرشدَ الحكيمَ والمعلمَ العظيمَ، بشَّرَ به المسيحُ والكليمُ، واستجيبتْ به دعوةُ إبراهيمَ: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)، اللهم فصلِّ وسلمْ عليهم وعلى سيِّدِنا محمدٍ المبعوثٍ رحمةً ومِنَّةً، بخيرِ كتابٍ وأفضلِ سُنَّةٍ، وعلى آلِه وصحبِه القائمينَ بالحقِّ والدعوةِ إليه بالألسنةِ والأسنَّةِ، وعلى التابعينَ لهم بإحسانٍ في التعلمِ والتعليمِ..
أما بعد: ذكرَ الشَّيخُ بكرُ أبو زيدٍ -رحمَه اللهُ تعالى- في كتابِه "التَّعالمِ": أنَّ رجلاً كانَ يُفتي كلَّ سائلٍ دونَ توقفٍ، فلحظَ أقرانُه ذلكَ منه، فأجمعوا أمرَهم بامتحانِه، بنحتِ كلمةٍ –أي: تأليفِ كلمةٍ- ليسَ لها أصلٌ في اللُّغةِ العربيةِ هي "الخِنْفِشار"، فسألوه عنها، فأجابَ على البديهةِ: بأنَّه نبتٌ طيبُ الرائحةِ، يَنبتُ بأطرافِ اليمنِ، إذا أكلتْهُ الإبلُ عَقَدَ لبنُها -أي جَعَلَهُ رَائِباً-، قالَ شاعرُهم اليَمانيُّ:
لَقَدْ عَقَدَتْ مَحَبَّتُكُمْ فُؤَادِي | كَمَا عَقَدَ الْحَلِيبَ الْخِنْفِشَارُ |
وقالَ داودُ الأنطاكيُّ في تذكرتِه كذا، وقالَ فلانٌ وفلانٌ،.. وقالَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فاستوقفوه، وقالوا: كذبتَ على هؤلاء، فلا تكذبْ على النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.
وتحقَّقَ لديهم أن ذلك المسكينَ: جِرَابُ كَذِبٍ، وعَيبةُ افتراءٍ في سبيلِ تعالمِه، نسألُ اللهَ الصَّونَ والسلامةَ.
أيُّها الأحبةُ.. لا أدري هل أُحدِّثُكم في هذه الخطبةِ عن فتاوى كثيرٍ من المتعالمينَ.. التي تُصدَرُ بناءً على رغبةِ وهوى بعضِ المستمعينَ؟.. لا يهمُّه إلا أن يَلمَعَ اسمُه في سماءِ الشُّهرةِ.. والأهمُّ هو المبلغُ الذي يتمُّ تحويلَه بعدَ السَّهرةِ.. وهذا الدَّاءُ قد حدثَ عندما تلاشى في قاموسِ بعضِ هؤلاءِ "اللهُ أعلم"، "لا أعلم"، "لا أدري"، وهذا واللهِ السَّهمُ الذي إذا أصابَ من تصدَّى للفتوى، أُصيبتْ مَقاتلُه.. ومُحيتْ فضائلُه..
سُئلَ الشَّعبيُّ عن مَسألةٍ، فقالَ: لا أدري، فقيلَ: ألا تستحي من قولِك: لا أدري، وأنتَ فَقيهُ أهلِ العراقِ؟، قالَ: لكنَّ الملائكةَ لم تستحِّ حينَ قالتْ: (سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة: 32].
ولمَ العجبُ؟.. فباكورةُ هذه الثَّمرةِ القبيحةِ قد ظهرتْ قديماً.. عندما دخلَ الإمامُ مالكٌ -رحمَه اللهُ- على شيخِه ربيعةَ رحمَه اللهُ فوجدَه يبكي، فقالَ له: "ما يُبكيكَ، أَمصيبةٌ نَزلتْ بك؟، قالَ: لا، ولكن اُستفتيَ من لا عِلمَ لهُ، ووقعَ في الإسلامِ أمرٌ عظيمٌ، ولبعضِ من يُفتي هاهنا أَحقُّ بالسِّجنِ من السُّراقِ". فإذا كانَ هذا في القرونِ الأولى المُفضَّلةِ، فكيفَ لو رأى ربيعةُ ما يحدثُ في زمانِنا؟، لرأى في ذلكَ تأويلَ قولِه تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل: 116- 117].
أمْ أحدِّثُكم عن صاحبِ المظهرِ الأنيقِ.. واللِّسانِ السَّليقِ.. الذي يدَّعي أنَّه جاءَ لتحريرِ العقولِ.. ويريدُ نسفَ كلَّ ما قالَه العلماءُ الفحولُ.. فالنُّصوصُ الشَّرعيةُ عندَه لا بدَّ أن يقبلَها العقلُ.. ولو كانتْ من كتابِ اللهِ –تعالى- أو ما صحَّ بها النَّقلُ.. وأما إذا كانَ الكلامُ عن كراماتِه الكبيرةِ.. فعقلُك يحتاجُ إلى إجازةٍ قصيرةٍ.
يتكلمُ بكلامِ الفلاسفةِ الذي ظاهرُه كلامُ العُقلاءِ.. ولكنْ عندَ التأملِ كالفُقاعةِ ليسَ فيها إلا الهواءُ.. (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) [النور: 39].. ولا حرجَ أن يطعنَ في خيرِ القرونِ.. فهم عندَه ليسوا فوقَ القانونِ.. وينسى أو يتناسى قولَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ".
ولمَ العجبُ؟.. فقد ذكرَ أهلُّ التَّفسيرِ كلامَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ، وَكَانَ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْكُتُبَ السَّابقةَ، قَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ صِفَةَ نَاسٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ، قَوْمٌ يَحْتَالُونَ عَلَى الدُّنْيَا بِالدِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهمْ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ مُسُوكَ الضَّأْنِ وَقُلُوبُهمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللَّهُ –تَعَالَى-: "فَعَلَيَّ يَجْتَرِئُون،َ وَبِي يَغْتَرُّونَ، حَلَفْتُ بِنَفْسِي لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً تَتْرُكُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ"، قَالَ الْقُرَظِيُّ: "تَدَبَّرْتهَا فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا هُمْ الْمُنَافِقُونَ، وَوَجَدْتُهَا في: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة: 204]".
أمْ أحدِّثُكم عن بعضِ الرُّقاةِ الذينَ أساءوا إلى الرُّقيةِ الشَّرعيةِ.. التي كانت ولا تزال من الوسائلِ العظيمةِ للشِّفاءِ والاستشفاءِ.. فرسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- رقى نفسَه ورقى أصحابَه.. ورقاهُ جبريلُ -عليه السَّلامُ-.. كيفَ لا، وقد قالَ اللهُ تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82].
ولكن اليومَ، أصبحتْ أصابعُ الشَّكِ والاتِّهامِ تُدارُ.. نحو الرُّقيةِ والأدعيةِ والأذكارِ.. ودخلَها من لا يُحسنُها أو لهُ فيها مآربُ أخرى، وبعدَ أن كانتْ عبادةً من أفضلِ الأعمالِ، كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ"، أصبحتْ تجارةً ومصدراً لجمعِ الأموالِ.. وإن كانَ قد جاءَ في الحديثِ: "إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كِتَابُ اللَّهِ".
ولكن لا ينبغي المشقةُ على النَّاسِ بالمبالغةِ في الأجرِ، ونسيانُ ما عندَ اللهِ من المثوبةِ والأجرِ، وإلا ما الذي جعلَ قارورةَ الماءِ بعدَ نفثةٍ من ريقٍ، تتضاعفُ قيمتُها فلا لشرائها المريضُ يُطيقُ، بل أصبحَ بعضُهم كالعرَّافينَ في تحديدِ نوعِ العينِ والسِّحرِ، ومَنْ سَحرَه؟، وأينَ دُفنَ السِّحرُ؟، ليُوهمَ المسكينَ بقُدراتِه الأكيدةِ، ويُحدِّدَ له مواعيدَ متكررةً عديدةً، ليحافظَ على الزُّبونِ أزمنةً مديدةً.
ولمَ العجبُ؟.. فقد جاءَ في الحديثِ: "إنَّ أَوَّلَ النّاسِ يُقْضَىَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ، -وذكرَ منهم- وَرَجُلٌ تَعَلّمَ العِلْمَ وَعَلّمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟، قَالَ: تَعَلّمْتُ العِلْمَ وَعَلّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ"، وصدقَ اللهُ تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15- 16].
أمْ أحدِّثُكم عن بعضِ مُفسري الرؤى والأحلامِ.. الذينَ عَبثوا بميراثِ يوسفَ -عليه السَّلامُ-، (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) [يوسف: 21].. وخاضوا في أمرٍ هو من الوحيِّ وبقايا النُّبوةِ، كما قَالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ".. فكيفَ يجرؤ على الكلامِ فيها جاهلٌ بأسرارِها وخفاياها.. وكيفَ يتصدَّرُ لتأويلِها من لم يُحطْ بجوانبِها وزواياها.. فهي فتوى لا تجوزُ إلا بعلمٍ، كما جاءَ في كتابِ اللهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43]..
بل أصبحَ كثيرٌ منهم يخبطُ فيها خبطَ عشواءَ في تفسيره.. ويأتي بتفاصيلَ وأسماءَ وأماكنَ وتواريخَ تحريرِه.. حتى كانوا كالْكُهَّانِ الذي يَصدقُ أحدُهم في الكلمةِ الواحدةِ، "وَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيُصَدَّقُ، فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا".. وصارَ ما بقيَ لنا من آثارِ النُّبوةِ في مرمى المُتساهلينَ في أركانِ الإيمانِ.. والمُشكِّكينَ في شريعةِ الرَّحمنِ .. فعن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَقُولُ: "لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ"، قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟، قَالَ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ".. وحُرمَ كثيرٌ من أهلِ الإسلامِ من بشرى الحياةِ الدُّنيا.. ومعرفةِ شيءٍ مما كتبَه العليمُ الحكيمُ.. قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ".. وذلكَ بسببِ التَّأويلاتِ الفاسدةِ والتفسيراتِ الخاطئةِ.
ولمَ العجبُ؟.. وقد أصبحَ تفسيرُ الأحلامِ كالفتوى والرُّقيةُ وسيلةً سريعةً جداً للشُّهرةِ وجَني الأموالِ.. لكلِّ دجَّالٍ لا يخافُ الكبيرَ المُتعالَ.. وقد قالَ اللهُ تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15- 16].
أمْ أحدِّثُكم عمَّا نسمعُه من البعضِ في مجالسِنا.. يخوضُ في كلِّ المواضيعِ والأحداثِ بغيرٍ زمامٍ ولا خِطامٍ.. يُقاطعُكَ قبلَ أن تنتهي من كلامِكَ، ويجيبُ عليكَ قبلَ أن تنتهي من سؤالِك.. فإن تكلموا في الدِّينِ سمعتَه كأنَّه شيخُ الإسلامِ.. وإن تحدثوا في السِّياسةِ رأيتَه مبعوثَ الأممِّ المُتحدةِ.. وإن كانَ الموضوعُ في الاقتصادِ أتاكَ بما لا يعرفُه رئيسُ البورصةِ العالميةِ.. وإن كانَ الحديثُ في الطِّبِّ شَخَّصَ لك الحالةَ تشخيصاً دقيقاً.. وصرفَ لك الوصفةَ من الطبِّ الحديثِ والطبِّ البديلِ..
وإذا خاضوا في السَّفرِ أخبركَ بما لم يرَه ابنُ بطوطةَ في رحلتِه.. ويعلمُ عاداتِ الشُّعوبِ.. وتُراثَ البُلدانِ.. وتقاليدَ القبائلِ.. وأحياناً يتكلمُ في التَّاريخِ الرُّوماني واليوناني وله موقفٌ من حضاراتِهم العريقةِ.. وتستطيعُ أن تستشيرَه في المشاكلِ الأسريةِ ووسائلِ تربيةِ الأولادِ.. وعندَه نصائحُ لمن أرادَ أن يبنيَ بيتَ العُمرِ.. ويُعلِّقُ على أسبابِ تغيُّرِ الظروفِ المناخيةِ.. وأوقاتِ زراعةِ الفواكهِ والخُضارِ.. واسألْ تجدْ جوابَ ما تُريدُ.. ولكن من تواضعِه، أنَّه إذا سئُلَ عن الرِّياضةِ، دكَّهُ العرقُ، وأطرقَ رأسَه، ونظرَ إليكَ بخجلٍ، وقالَ: اللهُ أعلمُ.. لم تُحبَّبْ لي وأنا صغيرٌ.
فتسألْ نفسَك مُتعجِّباً.. ما هذا؟.. فيأتيكَ الجوابُ من قريبٍ، مَ العجبُ؟.. فأنتَ في زمنِ الخُنفشارِ.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ وجعلني وإياكم من الصالحينَ.. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ذي العزةِ والجبروتِ والملكِ والملكوتِ، إلى الإسلامِ هدانا، وجعلنا خيرَ أمةٍ أخرجتْ للناسِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وسعَ كلَّ شيءٍ علمًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الذي أكملَ اللهُ به الدينَ وأتم به النعمةَ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيُّها الأحبَّةُ.. كيفَ تصلُ أمَّةٌ إلى أعلى الحَضاراتِ.. إذا لم يحترمْ أفرادُها أهلَّ التَّخصصاتِ.. فعلينا أن لا نخوضَ فيما لا نُحسنُ.. ولا ننتقدُ ما لا نعرفُ من المعلوماتِ.. ولنعلمْ أننا مُحاسبونَ أمامَ اللهِ تعالى.. (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36].
يا ناقِداً لِكَلامٍ لَيْسَ يَفْهمُهُ | مَنْ لَيْسَ يَفْهَم قُلْ لي كَيْفَ يَنْتَقِدُ؟ |
يا صَاعِداً في وُعُورٍ ضَاقَ مَسْلَكُها | أَيَصْعَدُ الْوَعرَ مَنْ في السَّهْلِ يَرْتَعِدُ؟ |
يا خائِضَ الْبَحْرِ لا تَدْرِي سِباحَتَهُ | وَيْلي عَلَيْكَ أَتنْجُو إنْ عَلاَ الزَّبَدُ؟ |
يا ماشِياً في فَلاةٍ لا أَنِيسَ بها | كَيْفَ السَّبيلُ إذا ما اغْتَالَكَ الأَسَدُ؟ |
وفي ظِلِّ هذه الفوضويةِ المعلوماتيةِ.. في وسائلِ الإعلامِ المسموعةِ والمرئيةِ.. وفي مواقعِ الشَّبكةِ العنكبوتيةِ.. وفي وسائلِ التواصلِ الاجتماعيةِ.. ينبغي علينا التثبُّتُ في استقبالِ ونقلِ المعلومةِ.. وأن لا تُقبلَ إلا من أهلِ الاختصاصِ.. موثَّقةً من مرجِعِها الأصليِّ.. فلا زالتْ الأمَّةُ بخيرٍ والحمدُ للهِ.. ولا زالَ هناكَ العالِمُ الرَّبانيُّ بالأمورِ الدينيةِ.. والمتخصصُ الخبيرُ في الأمورِ الدُّنيويةِ.. ولا زالَ هناكَ الرَّاقي الصَّادقُ.. ومفسِّرُ الرُّوئ الحاذِقُ.. كما يوجدُ المُحنَّكُ السِّياسيُّ.. والمُتَمَرِّسُ الاقتصاديُّ.. ولكن علينا بوصيةِ اللهِ تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 43].
فلا ينبغي لنا أن نُشكِّكَ في الأمورِ الشَّرعيةِ بسببِ الممارساتِ الخاطئةِ من الجُهلاءِ، ولا أن نحتقرَ الأمورَ العلميةَ بسببِ خوضِ السُّفهاءِ، فعلينا اليومَ وقبلَ أن يتفاقمَ الأمرُ.. أن نقولَ للجاهلِ: اصمتْ.. وللسفيهِ: اسكت.. وقديماً قالوا: "من تكلَّمَ في غيرِ فنِّه أتى بالعجائبِ".
اللهمَّ إنا نعوذُ بكَ من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهمَّ وفقنا لاتباعِ سنةِ نبيِّكَ الكريمِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه والسيرِ على نهجِه القويمِ، واهدنا إليكَ صراطاً مستقيماً، اللهمَّ اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم آمنا في أوطانِنا، وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعلْ ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاكَ واتبعَ رضاك يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ وفقْ وليَ أمرِنا لما تحبُه وترضاه من سديدِ الأقوالِ وصالحِ الأعمالِ، اللهم وارزقه البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدله على الخيرِ وتعينُه عليه وتحذِّره من الشرِ، اللهم ولِّ على المسلمينَ خيارَهم واصرف عنهم شرارَهم يا ربَّ العالمينَ.
اللهم أصلحْ لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ والموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍ، اللهم أعنَّا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصرْ علينا، اللهم يا ربَنا انصر إخوانَنا المسلمينَ المستضعفينَ في كلِّ مكانٍ.
اللهم كنْ لهم ناصراً ومعينا وحافظاً ومؤيداً، اللهم احفظهم بما تحفظْ به عبادَك الصالحينَ، اللهم آمن روعاتِهم واستر عوراتِهم واحقن دماءَهم، اللهم عليك بأعداءِ الدينِ فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلُك في نحورِهم ونعوذُ بك اللهمَّ من شرورِهم، سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ، نستغفرُك ونتوبُ إليك.