الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | علي باوزير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
كان السلف وأئمة الدين كانوا ينكرون أشد الإنكار على كل من يعارض هذه النصوص الشرعية، على كل من يقلل من القرآن أو كلام محمد -صلى الله عليه وسلم- برأيه أو برأي غيره من الناس؛ لأنهم كانوا يرون أن هذا يفتح باب لنشوء مصادر أخرى يرجع الناس إليها في دينهم، فإذا صار الناس يرجعون إلى قول فلان وإلى رأي فلان تعددت مصادر الدين وضاع الدين بين ذلك. فكانوا يحرصون أشد الحرص على ألا يُقدَّم شيء على كلام الله أو كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: أيها المسلمون عباد الله: تحدثنا في الخطبة الماضية عن بعض المفاهيم الخاطئة التي تسربت إلى الأمة بسبب الجهل، وبسبب البعد عن زمن النبوة، وكذلك بسبب التأثر والانبهار الحضاري بالغرب.
وعند الحديث عن مثل هذه المفاهيم الخاطئة يتبادر إلى الأذهان بعض الأسئلة المهمة ومن أهمها هل يمكن أن تصحح هذه المفاهيم؟ وهل من الممكن أن توجد المفاهيم الصحيحة؟ وهل هذا أمر ممكن ميسور أم أنه شيء صعب عسير؟
والجواب أيها الأحباب: أن الله -سبحانه وتعالى- حين أنزل هذا الدين علينا تكفل بحفظه وتكفَّل ببقائه، فقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
وقد كان الأنبياء يُبعثون الواحد بعد الثاني إذا نُسي الدين وضاع بين الناس جاء النبي الثاني بدين جديد، وهكذا حتى جاء محمد -صلى الله عليه وسلم-، فخُتمت به النبوة؛ لأن الدين محفوظ لا يمكن أن يُنسَى أو يضيع، لا يمكن أن يغيَّر أو يبدَّل فلا حاجة إذاً إلى بعثة نبي آخر بعد محمد -صلى الله عليه وسلم-، وحتى يكون هذا الدين محفوظًا باقيًا لا بد أن تكون له مصادر ومراجع معروفة يرجع الناس إليها ليأخذوا منها هذا الدين، ليتعرفوا منها على صحيح المفاهيم؛ ليصححوا من هذه المصادر ما أخطأ الناس فيه، وهذا هو الواقع في دين الإسلام.
فالإسلام له مصدران أساسيان حفظ فيهما الدين هما كتاب الله -عز وجل- وسنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، القرآن الكريم الذي هو كلام الله -عز وجل- ووحيه الذي أنزله على عبده محمد -صلى الله عليه وسلم-، والسنة التي هي أقوال وأفعال وتقديرات الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
هذان هما المصدران الأساسيان لهذا الدين، ومنهما يعرف الإسلام بمفاهيمه الصحيحة، وهما اللذان أمر الله -عز وجل- بالرجوع إليهما، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: 58]، قال العلماء "الرد إلى الله أي: الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته".
ويقول الله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ)، ويقول -سبحانه وتعالى- (وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، ويقول تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب:36].
وقد بيَّن الله -سبحانه وتعالى- أنه إنما أنزل القرآن ليتأمل الناس فيه ويتدبروا في آياته ويعملوا بأحكامه، قال الله -عز وجل- (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص:29].
وبيَّن سبحانه أنه أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وحيًا ليبيِّن للناس (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].
وحذر الله -عز وجل- من مخالفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أوحى إليه فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
ومن هنا أيها الأحباب: كان السلف وأئمة الدين كانوا ينكرون أشد الإنكار على كل من يعارض هذه النصوص الشرعية، على كل من يقلل من القرآن أو كلام محمد -صلى الله عليه وسلم- برأيه أو برأي غيره من الناس؛ لأنهم كانوا يرون أن هذا يفتح باب لنشوء مصادر أخرى يرجع الناس إليها في دينهم، فإذا صار الناس يرجعون إلى قول فلان وإلى رأي فلان تعددت مصادر الدين وضاع الدين بين ذلك.
فكانوا يحرصون أشد الحرص على ألا يُقدَّم شيء على كلام الله أو كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن يذكر مسألة من مسائل أهل العلم فيذكر مسألة فيها حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال له الناس: لكنَّ أبا بكر وعمر يقولان كذا وكذا؟ فيقول ابن عباس -رضي الله عنه وأرضاه-: "والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، أحدثكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحدثوني عن أبي بكر وعمر".
أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- معذوران ربما لم يبلغهما حديث رسول الله أو فهماه على فهم آخر، ولكن المشكلة في الذي يبلغه الحديث، ويعلم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم يتركه ويقدم عليه رأي غيره، وإن كان أبو بكر أو عمر.
وهذا الإمام المحدث ابن أبي بن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عام الفتح: "من قُتِلَ له قتيل فهو بِخَير النَّظَرَين؛ إن أحب أخذ العَقْل، وإن أحب فَلَه القَوَد"، فقال: أبو حنيفة: "فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري، وصاح عليَّ صياحًا كثيرًا، ونال مَنِّي! وقال: أُحَدِّثُك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقول: تأخذ به؟! نعم آخذ به، وذلك الفَرْضُ عليَّ وعلى مَن سَمِعَه، إن الله -عز وجل- اختار محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له على لسانه، فعلى الخلق أن يَتَّبِعُوه طائعين أو داخرين، لا مَخْرَج لِمُسْلِم من ذلك. قال: وما سكت عَنِّي حتى تمنيت أن يسكت".
وهذا الإمام المبجل الشافعي -رحمه الله- يأتيه رجل فيسأله في مسألة فيقول له الإمام الشافعي -رحمه الله-: "قد قضى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا وكذا"، فيقول له رجل: "وماذا تقول أنت يا إمام؟!" فقال له الإمام الشافعي: "أتراني في كنيسة؟! أتراني في بيعة؟! -يعني: معبد يهودي- أترى على وسطي زُنَّارًا؟ وهو لباس النصارى، أقول: أفتى فيها رسول الله كذا، وتقول: ما تقول أنت؟ أتظن أني أخالف فتوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
هل يسع أحدًا من المسلمين أن يخالف كلام محمد -صلى الله عليه وسلم- وقضائه
وهذا الإمام العالم الصحابي الجليل عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- يروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تمنعوا نساءكم من المساجد إذا استأذنكم نساءكم لذلك"، فقال بلال بن عبدالله ابنه قال: "والله لنمنعهن"، بلال نظر إلى واقع النساء، ووجد أن النساء قد تغيرت أحوالهن، وأصبحن لا يلتزمن بالضوابط في خروجهن من بيوتهن، فقصد هذا المعنى، لكنه أساء في اللفظ، قال: "والله لنمنعهن" فأقبل عليه عبدالله وسبه سبًّا سيئًا وقال له: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تمنعوا نساءكم.."، وأنت تقول: والله لنمنعهن"!
هكذا كانوا -رحمهم الله ورضي عنهم- هكذا كانوا حريصين على الالتزام بالنصوص الشرعية بكلام الله، وبكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويحرصون أشد الحرص على ألا تكون هناك معارضة لهذه النصوص؛ حتى لا يكون هناك مصادر أخرى لهذا الدين غير كتاب، وغير سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل كانوا على جلالة قدرهم وعلى سعة علمهم ينهون الناس عن تقليدهم، فهؤلاء الأئمة الأربعة المشهورون المعرفون الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- يقول: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا حتى يعلم من أين أخذناه"، يعني لا يقلدنا إلا إذا عرف ما هي حجتنا من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا الإمام مالك -رحمه الله- يقول: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا فكل ما وافق كتاب الله وسنة رسوله فخذوه، وكل ما خالف الكتاب والسنة فاتركوه".
وهذا الإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: "كل ما قلته، وكان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف قولي مما يصح فخذوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- واتركوا قولي".
وهذا الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقول: "لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي، ولا الأوزاعي ولا الثوري، وكلهم من أئمة الدين، قال: خذ من حيث أخذوا" ارجع إلى المصدر الأصلي إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وليس مقصود هؤلاء العلماء ألا يأخذ العلم عن العلماء، ولا يأخذ من كتبهم، بل هذا مطلوب، ولكن مقصودهم أن الحق الكامل الذي لا خطأ فيه أبداً هو الموجود في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيفهم الحق وفيهما العصمة من كل خطأ وباطل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
وبعد: أيها الأحبة الكرام: قد يتساءل متسائل فيقول: هل القرآن والسنة قد سلم من العبث والتبديل والزيادة والنقصان بعد مرور أكثر من ألف وأربعمائة عام؟ وهل نستطيع أن نعتمد عليهما وقد مرت هذه الفترة الطويلة جدًّا؟
فنقول أيها الأحباب: أما القرآن فهو كلام الله -عز وجل- أنزله على عبده محمد -صلى الله عليه وسلم- وتكفل بحفظه، وقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
فهو كتاب لا شك فيه وهو كتاب لا ريب فيه (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة:2]، لا يمكن أن يُزاد فيه حرف أو يُنقص منه حرف، بل لا يمكن أن تغيَّر فيه حركة من الحركات فتحة أو ضمة أو كسرة، لا يمكن أن يحصل هذا أبداً؛ لأن هذا الكتاب قد تكفَّل رب الأرباب بحفظه من فوق سبع سماوات بخلاف الكتب السابقة التي وكَّل الله -عز وجل- حفظها إلى الناس فضيعوها، قال الله -عز وجل- (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) [المائدة:44]، استحفظهم الله -عز وجل- على الكتاب فضيَّعوه، فلما أنزل الله -عز وجل- القرآن لم يستحفظ عليه أحدًا من الخلق، بل تكفل حفظه بنفسه -سبحانه وتعالى-.
وهنا كانت المعجزة التي لا زالت إلى يومنا هذا، وستظل إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها حفظ القرآن بوسائل متعددة، حفظ بالكتاب بالسطور، وحفظ بالحفظ في الصدور فتجد الملايين من المسلمين صغارًا وكبارًا رجالاً ونساء في كل زمان وفي كل مكان يحفظون هذا القرآن حفظًا متقنًا لا ينقصون منه حرفًا ولا يغيرون منه حركة أو سكنة.
تجد هذا القرآن في كل زمان تتجدد له من وسائل الحفظ ما يضمن بقائه، في زماننا هذا تعددت وسائل الحفظ ما بين الطباعة المتقنة، وما بين الوسائل الإلكترونية حتى صار القرآن موجودًا في كل بيت وفي كل مكان، وفي كل جوال وهاتف، فكيف بعد ذلك يتصور أن يحصل أن تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقص على هذا الكتاب العظيم.
وكذلك سُنة محمد -صلى الله عليه وسلم- فهي وإن لم تكن مثل القرآن إلا أنه محفوظة كذلك بشكل عام، فهي من الذكر الذي قال الله -عز وجل- فيه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وهي من الدين المحفوظ الباقي الذي لا بد أن يبقى في الأمة، ولا بد أن يُحفَظ في هذه الأمة جيلاً بعد جيل.
صحيح أنه أدخلت بعض الأحاديث، وزيد فيها، وكُذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعضها، ولكن الله -سبحانه وتعالى- يسَّر وسخَّر في هذه الأمة من يتكفل بحفظ هذه الأحاديث وتمييزها طول ثلاثة قرون من بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى القرن الرابع الهجري، وُجدت فئة من العلماء عُرفت بأهل الحديث لم يكن لهم عمل، وليس لهم شغل إلا حفظ أحاديث محمد -صلى الله عليه وسلم- وتمييز هذه الأحاديث وفحصها، ونقلها حتى صاروا يعرفون كل حديث من الذي رواه، وممن سمعه، وكيف سمعه، وأين سمعه، وهل هذه اللفظة صحيحة أم ليست بصحيحة، هل هذه الكلمة موجودة في هذا الحديث أم ليست بموجودة.
ومع تعدد الأحاديث وكثرتها فقد تفرغوا لها تفرغًا كاملاً كان الواحد يعيش الأربعين سنة والخمسين والستين والسبعين ليس له عمل إلا أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى فرزوها وبيَّنوها ونقدوها، وقدموا لنا ما يصح لنا وما لا يصح.
قد يظن بعض الناس أن هذا نوع من الخيال أو هذا شيء مبالغ فيه، ولكن هذا هو الواقع الذي حصل وشهد به الأعداء قبل الأصدقاء.
هذا أحد المستشرقين يقول متحدثًا عن علم الجرح والتعديل وهو أحد العلوم الأساسية في تمييز أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يحق للمسلمين أن يفتخروا بعلم الرجال علم الجرح والتعديل كما شاءوا، فلم توجد أمة في الماضي ولا في الحاضر دوَّنت تراجم وسير العلماء خلال اثني عشر قرنًا مثل المسلمين، فبإمكاننا الحصول على سِيَر خمسمائة ألف عالم من المشهورين في كتبهم".
هذه شهادة من رجل ليس بمسلم حين نظر في هذا العلم وفيما أُلف فيه، وفي تاريخ المسلمين وصل إلى هذه الحقيقة أن هذه معجزة ربانية، منحة إلهية، مفخرة تاريخية يحق للمسلمين أن يفتخروا بها كيفما شاءوا لا يوجد مثلها لا في دين اليهود ولا في دين النصارى، بل هذه خاصية من خصائص هذه الأمة التي تكفل الله -عز وجل- بحفظ دينها.
ومن أراد أن يتأكد فليدرس هذا العلم، ومن أراد أن يتأكد فليقرأ في سير العلماء وفي تاريخ الأمة في الثلاثة قرون الأولى ليعلم كيف حُفظت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما هذا إلا من توفيق الله -عز وجل- ونعمته على هذه الأمة المرحومة فكيف بعد ذلك يأتي من يشكك أو من يدَّعي أنه لا يمكننا الاعتماد على الآثار المروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
تريد الأحاديث الصحيحة عن محمد -صلى الله عليه وسلم- اقرأ في صحيح البخاري، اقرأ في صحيح مسلم، اقرأ في سنن أبي داود والنسائي، اقرأ في مسند الإمام أحمد وغيرها من الكتب تجد فيها الآلاف من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن هذه الأحاديث، وقبلها كتاب الله -سبحانه وتعالى- يأخذ هذا الدين، وتأخذ المفاهيم الصحيحة، وتصحح من خلالها المفاهيم الخاطئة، فببقاء القرآن والسنة في هذه الأمة تحفظ مفاهيمها، وتُصان عن التحريف والتغيير والتبديل.
وهذا الذي أدركه الأعداء فهذا رئيس الوزراء البريطاني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر يقول أمام مجلس العموم البريطاني يقول: "ما دام هذا الكتاب –يعني القرآن- موجودًا فلن تستطيع أوروبا أن تسيطر على الشرق"، يعني البلاد الإسلامية.
وكما قالوا: "والحق ما شهدت به الأعداء".
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يصلح أحوالنا كلها، أسأله -سبحانه وتعالى- أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا علمًا نافعًا.