الخالق
كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - أهل السنة والجماعة |
إنّ الحديث عن الدنيا لا يعني أنها كلُّها مذمومة, كما يفهمُه بعض الناس؛ حيث يظنون أنّ المطلوب تركُها, وعدم التمتع بما خلق الله فيها, وهذا فهمٌ خاطئٌ, بل المقصود بالدنيا: ما يقابل الآخرة ويصدُّ عنها, قال ابن رجب: "واعلم أنَّ الذمَّ الوارد في الكتاب والسُّنَّة للدُّنيا, ليس هو راجعاً إلى زمانها الذي هو اللَّيل والنَّهار، ولا إلى مكان الدُّنيا الذي هو الأرض, التي جعلها الله لبني آدم مِهاداً وسكناً، فإنَّ ذلك كُلَّه مِنْ نعمة الله على عباده، وإنَّما الذَّمُّ راجعٌ إلى أفعال بني آدمَ الواقعةِ في الدُّنيا؛ لأنَّ غالبَها واقعٌ على غير الوجه الذي تُحمَدُ عاقبتُه، بل يقعُ على ما تضرُّ عاقبتُه أو لا تنفع"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه الباطنة والظاهرة، وجعل الدنيا لنا مزرعة للآخرة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث للناس كافة، المؤيَّد بالمعجزات الباهرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- في السر والعلانية، واعلموا أننا ما خُلقنا عبثاً، ولم نُترك سدًى، خلقنا الله لعبادته، وأمرنا بتوحيده، وأمدنا بنعمه الغِزَار، وسخر لنا الليل والنهار، لنستعين بذلك على طاعته.
وأرسل إلينا رسوله، وأنزل علينا كتابه، ليبين لنا ما يحل وما يحرم، وما ينفعنا وما يضرنا، وما نحن قادمون عليه من الأخطار والأهوال؛ لنأخذ حذرنا، ونستعدّ لما أمامنا، فالعمل في هذه الدنيا, والجزاءُ في الآخرة، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ارْتَحَلَتِ الدنيا مُدْبِرَة، والآخرة مُقْبِلَة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل".
عباد الله: لنستمع إلى هذا النداء الخالد من المولى -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 5- 6].
فربنا -سبحانه وتعالى- ينادينا ويؤكد لنا، أنه لا بد من وقوع ما وُعدنا به من البعث والنشور، والجزاء على أعمالنا بالثواب والعقاب، ويحذّرنا من فتنتين تصدان العبد عن الاستعداد للقاء هذا الوعد الحق، هما: فتنة الدنيا، وفتنة الشيطان، وكم في كتاب الله من التحذير من الاغترار بهذه الدنيا وذمها، وبيان سرعة زوالها وضرب الأمثال لها، ما يكفي بعضه زاجراً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فلا ينبغي اللهث وراء مُتع الدنيا, وطلبُ كمال الراحة واللذة فيها, فقد قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4] أي: في شقاءٍ وعناءٍ وتعب, في الدنيا، وفي البرزخ.
فالكثير من الناس يحرص أنْ يكون في أرقى وأرغد عيش, ولا يُحب أنْ ينقصه شيءٌ أبدًا, ولو فكَّر العاقل بذلك: لعلم أنه يُجهد نفسه في تحقيق شيءٍ سيزول عنه أو يُزال هو عنه.
فالدنيا كما قال الشاعر:
طُبعت على كدرٍ وأنت تريدُها | صفواً من الأقذارِ والأكدارِ |
العيشُ نومٌ والمنيَّةُ يقظةٌ | والمرءُ بينهما خيالٌ سارِ |
وكيف يطلب الكمال في الدنيا وهي زائلة, وكيف يقضي الإنسان أكثر وقته في التنعم بها, وهو مخلوقٌ لغاية شريفة, وهي عبادة الله وطاعتُه, والسعي فيما يرفع درجاته في الآخرة, فإن الإنسان كلّما استمتع في ملاذه, أنساه ذلك الحرص على آخرتِه, ومرضاةِ ربّه.
معاشر المسلمين: إنّ الحديث عن الدنيا لا يعني أنها كلُّها مذمومة, كما يفهمُه بعض الناس؛ حيث يظنون أنّ المطلوب تركُها, وعدم التمتع بما خلق الله فيها, وهذا فهمٌ خاطئٌ, بل المقصود بالدنيا: ما يقابل الآخرة ويصدُّ عنها, وهذا هو معنى الدنيا عند الإطلاق من غير تقييد, ولذلك قال الجرجاني -رحمه الله-: "الحياة الدنيا هي ما يشغل العبد عن الآخرة". ا.هـ
وقال ابن رجب -رحمه الله-: "واعلم أنَّ الذمَّ الوارد في الكتاب والسُّنَّة للدُّنيا, ليس هو راجعاً إلى زمانها الذي هو اللَّيل والنَّهار، ولا إلى مكان الدُّنيا الذي هو الأرض, التي جعلها الله لبني آدم مِهاداً وسكناً، فإنَّ ذلك كُلَّه مِنْ نعمة الله على عباده، وإنَّما الذَّمُّ راجعٌ إلى أفعال بني آدمَ الواقعةِ في الدُّنيا؛ لأنَّ غالبَها واقعٌ على غير الوجه الذي تُحمَدُ عاقبتُه، بل يقعُ على ما تضرُّ عاقبتُه أو لا تنفع". ا.هـ
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الدنيا في الحقيقة لا تُذَمُّ, وإنما يُتوجه الذمُّ إلى فعل العبد فيها, ولكن لَمَّا غلبتْ عليها الشهوات والحظوظ, والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة, فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها, وهو الغالب على اسمها, صار لها اسم الذم عند الإطلاق, وإلا فهي مَبْنَى الآخرةِ ومزرعتُها, وفيها اكتسبتْ النفوسُ الإيمان, ومعرفةَ الله ومحبتَه وذكرَه ابتغاء مرضاته, وخيرُ عيش ناله أهل الجنة في الجنة, إنما كان بما زرعوه فيها, وكفى بها مدحًا وفضلاً". ا.هـ.
وأما حديث: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ، أَوْ عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ».
فهم مُتكلَّمٌ في سندِه, وعلى فرضِ صحَّتِه, فقد قال العلامة ابن باز -رحمه الله-: (ملعونة)، أي: مذمومة، كما قال تعالى: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء: 60]، بمعنى: مذمومة, فالدنيا مذمومة ومذمومٌ ما فيها، إلا ذكر الله، وتوحيدُه وطاعتُه سبحانه، وما والى ذلك من المؤمنين والأخيار, فما كان لله وفي طاعة الله وفي الخير، وما كان يعين على طاعة الله؛ فليس بمذموم، وما كان في سبيل الكفر والضلال, والإعانةِ على المعاصي فهذا هو المذموم. ا.هـ
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه الصادقُ الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله: ومن المفاهيم الخاطئة يا عباد الله, فهم بعض الناس للزهد بأنه ترك التنعم بالطيبات, والتقشّفُ واعتزالُ الناس.
قال أبو سليمان الدارانيُّ -رحمه الله-: "الزُّهدُ في ترك ما يشغلُك عن الله -عز وجل-".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن، وهو يجمعُ جميعَ معاني الزُّهدِ وأقسامِه وأنواعِه". ا.هـ
فالزهد المشروع: تركُ ما لا ينفع في الدار الآخرة، من الملاهي والملاذ التي لا مصلحة منها, وأما كلُّ ما يستعين به العبد على طاعة الله, ولو كان أصلُه مُباحاً فليس تركه من الزهد المشروع.
وهناك في هذا الزمان من يترك الوسائل الحديثة زهدًا, كالفرش والسيارة, والكهرباء وغيرها!
وقد قال شيخ الإسلام: "المنافع الخالصة أو الراجحة الزهد فيها حمقٌ".
نسأل الله -تعالى- أنْ يستعملنا في طاعته, وأنْ يبصرنا بعيوبنا, ويُوقفَنا على ما ينفعنا ويضرنا, ويرزقنَا الإرادة والعزيمة على العمل بما ينفع, وترك ما يضرّ, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.