الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالرحمن الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - الزهد |
التحقيق: أن "الباقيات الصالحات" لفظ عام يشمل الصلوات الخمس، والكلمات الخمس المذكورة، وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله -تعالى-؛ لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية كزينة الحياة الدنيا، ولأنها أيضًا صالحة لوقوعها على الوجه الذي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: إننا في هذه الحياة الدنيا في مسير أوجب الله علينا فيه العمل الصالح والاستعداد للقائه، هذه الحياة الدنيا مجالٌ وميدانٌ يسعى فيه المكلفون جميعًا، يسعون فيه وقد أمرهم الله -جل وعلا- أن يعبدوه وحده لا شريك له، كما افترض عليهم في قوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات: 56 - 58].
والمؤمن حينما يتأمل في هذه الحياة الدنيا وتقلُّبها بأهلها، وتصرُّف أحوالها، وحينما يتأمل أيضًا ما اتَّجه فيه كثير من الناس على خلاف ما أمروا به، فهم ينصبون ويكدحون في أمور هذه الحياة الدنيا كدحًا ينصرف فيه كثير منهم عما أوجب عليهم من عبادة الله -جل وعلا-، والتقرب إليه بالطاعة سبحانه، ولذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن الجميع في هذه الحياة الدنيا يغدو ويروح، فمنهم من يعتق نفسه بالعمل الصالح، فيدخل برحمة الله -جل وعلا- جنة عرضها السموات والأرض ومنهم دون ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فمُهلكها".
ولذلك كان المتعين على المؤمن أن يتزود من الأعمال الصالحات، وأن يسابق إليها ما يبلغ به جنة الله -تعالى- ورضوانه.
وينبغي أن يدرك المؤمن أن كل شيء في هذه الدنيا مما هو متعلق بحطامها ومتاعها، فإنما هو زائل، ولا يبقى إلا ما اتصل بعبادة الله -جل وعلا- وطاعته وذكره سبحانه؛ قال الله -جل وعلا-: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)[النحل: 96].
وحينما رأى عباد الله المؤمنون الذين اختارهم الله -جل وعلا- لطاعته، وهيَّأهم لرضوانه تقلُّب هذه الحياة الدنيا بأهلها، ورأوا تعدد مشاربها وتنوُّع أحوالها، اختاروا المسير في طرق الطاعات ودروب الأعمال الصالحات.
وفي ضوء هذا نتوقف وإياكم عند لفتة قرآنية عظيمة حول ما وصفه ربنا -سبحانه- بالباقيات الصالحات، فقد جاء هذا الوصف العميق في موضعين من كتاب الله:
الموضع الأول: في سورة الكهف، وهو قوله سبحانه في الآية السادسة والأربعين؛ قال سبحانه: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 46]، وقال جل وعلا في الآية السادسة والسبعين من سورة مريم: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا)[مريم: 76].
وقد بحث العلماء -رحمهم الله- المعنى المراد في قوله سبحانه: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ)، وتنوَّعت أقوالهم في الدلالة على هذا المعنى؛ يقول العلامة الشنقيطي -رحمه الله-: "وأقوال العلماء في "الباقيات الصالحات" كلها راجعة إلى شيء واحد، وهو الأعمال التي تُرضي الله -جل وعلا-؛ سواء قلنا: إنها الصلوات الخمس كما هو مروي عن جماعة من السلف؛ منهم: ابن عباس وسعيد بن جبير، وأبو ميسرة وعمر بن شرحبيل، أو أنها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والثاني: أنها سبحان الله، وهذه الكلمات، وهو قول جمهور العلماء، وجاءت دالة عليه أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري وأبي الدرداء، وأبي هريرة والنعمان بن بشير، وعائشة -رضي الله عنهم-.
قال الشنقيطي -رحمه الله-: "والتحقيق: أن "الباقيات الصالحات" لفظ عام يشمل الصلوات الخمس، والكلمات الخمس المذكورة، وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله -تعالى-؛ لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية كزينة الحياة الدنيا، ولأنها أيضًا صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله -تعالى-" انتهى كلامه -رحمه الله-.
والمقصود -أيها الإخوة الكرام- أن الله -جل وعلا- نبَّه عباده في هذه الآية الكريمة من سورة الكهف: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)، نبَّههم جل وعلا إلى أن تنافس الناس في أمور هذه الحياة الدنيا، تنافس محموم، وقد جُبِلوا عليه، وأُمروا أن يكونوا مع هذه الجبلة على المنهج الشرعي، لكن كثيرًا منهم انطلق مع جبلته، ولم يلتفت إلى ما أوجبته الشريعة الغراء في التعامل مع زينة الحياة الدنيا.
والله -سبحانه- ذكر أن من أبرز زينة هذه الحياة هذين الأمرين الجليلين العظيمين: المال والبنون، وبُدئ بالمال؛ لأنه مُتَّجَهُ كل نفس وكل إنسان، فتجد الصغير والكبير والشيخ والشاب والذكور والإناث، وكل طوائف الناس متعلقين بالمال تعلقًا واضحًا بيِّنًا، وقد ذكر علماء النفس أن الإنسان مجبول على حب التملك؛ فبُدئ بالمال؛ لأن النفوس تتجه إليه أكثر من الاتجاه إلى البنين؛ ذلك أن حب التملك وحب المال مستقر في نفوس الجميع صغارًا وكبارًا، ذكورًا وإناثًا، شيوخًا وشبابًا.
فأخبر الله -جل وعلا- أن هاتين الزينتين العظيمتين في الدنيا -المال والبنون- خير منهما الباقيات الصالحات، وهذه الخيرية بالنظر إلى أن المال زائل، والبنون زائلون، والحياة الدنيا كلها زائلة، كما قال سبحانه: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) كل ما في هذه الحياة الدنيا فإنه زائل عن الإنسان لا محالة.
أما الأعمال الصالحات، ووُصِفت هنا وقُدِّم الوصف بالبقاء؛ لأنها هي التي تستمر مع الإنسان في هذه الحياة الدنيا ببركاتها وحُسن عاقبتها في الآخرة، ويوضح هذا ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يَتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله".
كأنما تشاهدون الإنسان وهو يُشيَّع إلى قبره؛ حيث يذهب معه أهله وأحبته ومُشيعوه، وربما ذهب معه بعض ماله مما بقي من لباس غُطِّي به نعشه مما كان يَملكه، أو من بعض ما يملكه من سيارة، ونحو ذلك، كل هذا يذهب معه قبره، وأهله كذلك وعمله الصالح، فإذا أُدخل في لحده ووري التراب، وبقي أهله ما شاء الله أن يبقوا، رجع الأهلون ورجع الأولاد، ورجع المال الذي حضر ما حضر منه، ولم يبق حينئذ إلا عمله الصالح الذي يكون عتاده وزاده في أول مساءلات الدار الآخرة، حينما يأتيه منكر ونكير، ويسألانه الأسئلة العظمى الكبرى: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وزاده في الجواب هو عمله الصالح ليس مال ولا أهلون ولا ولد.
ولذلك إذا قال المؤمن مجيبًا: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام، ونبيي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، يقال له: ما دليلك؟ ما بيِّنتُك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فيقال: صدقت، وحينئذ يُفسح له في قبره، ويُفتح له باب إلى الجنة، يأتيه من روحها وطيبها ونعيمها ما شاء الله أن يأتيه إلى أن يقوم الأشهاد، وهو يقول: دعوني كيما أرجع إلى أهلي وأولادي يعني في جنته، فيقال: نَمْ نومَ العروس؛ كما ثبت بذلك الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ومن هنا عُلِم المعنى العميق لقوله جل وعلا: (الْبَاقِيَاتُ) فالأعمال الصالحات كلها محبوبة عند الله، وقُدِّم الوصف ها هنا بالباقيات؛ لأنها هي الباقية على الحقيقة.
أما مُتَع هذه الحياة الدنيا فإنها تتوالى على الإنسان وتتنوع، وينسى بعد ذلك تلك اللذة التي عاشها، يمر بكثير من الناس أنواعٌ من ملاذ هذه الحياة الدنيا وزينتها؛ مما أباح الله -جل وعلا-، أو مما يرتكبه الناس ويقتحمونه من الحرام، كل ذلك يزول ويمضي، لكن العمل الصالح الذي يتقرب به الإنسان إلى ربه، فإنه وإن نسي تلك الصلوات التي قدمها بين يدي ربه -جل وعلا- في ماضي عمره، وإن نسي تلك الأعمال الصالحات المتنوعات، مما هو من توحيد الله -جل وعلا-، ومن صلاة وطهارة، ومن زكاة وصدقات، ومن صيام وحج وعمرة، ومن بر للوالدين وصلة للأرحام، وإحسان للجيران، وعطف على المساكين، وغير ذلك من الأعمال الصالحات، لكنه بعد ذلك كله بعد أن مضت هذه الأعمال، ولا يستحضر كثيرًا منها، يجدها باقية عند ربه محفوظة، يُوفَّى له فيها الثواب الأعظم؛ كما قال الله -جل وعلا-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)[آل عمران: 30].
فينبغي للمؤمن أن يكون مستزيدًا في هذه التجارة مع ربه بهذه الأعمال الصالحات، وألا تمر عليه لحظة في عمره إلا وقد عاش فيها طاعة من طاعات الله -جل وعلا-.
نعم إن ثبات الإنسان على إسلامه واستقامته على توحيده لربه، هذا في حد ذاته عمل صالح مستمر معه، ولذلك قال العلماء: إن أهل الجنة يجزون الجنة ويخلدون فيها أبد الآباد؛ لأنهم في الدنيا كان في أنفسهم وفي نياتهم أن لو بقوا في هذه الدنيا الأعمار المتطاولة والأحقاب المتتابعة، فهم ثابتون على إيمانهم وتوحيدهم، كما أن الكفار خلدوا في النار؛ لأنهم لو بقوا في هذه الحياة الدنيا ما بقوا، فهم مستمرون على كفرهم وإشراكهم وإعراضهم، ولذلك قال نوح -عليه السلام-: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ)[نوح: 27]، أخبر الله -جل وعلا- عن نوح -عليه السلام- أن أولئك المشركين من قومه لو بقوا، فإنهم سيبقون على شركهم: (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)[نوح: 27]، والمقصود أن ملازمة الإنسان للنيات الصالحات ومباشرته للأعمال الصالحات، هو خير ما يتزود به للقاء ربه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 46]، قاله الله -جل وعلا- في سورة الكهف، وفي سورة مريم: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا)[مريم: 76]، خير مردًّا وخير أملاً؛ لأنها هي التي يُعول عليها في الرجعى إلى ربنا -جل وعلا-، قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "وأولى الأقوال بالصواب في المراد ب"الباقيات الصالحات" قول مَن قال: هنَّ جميع أعمال الخير، كالذي رُوِي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازى ويثاب، ولأن الله -عز وجل- لم يخصص من قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا) بعضًا دون بعض في كتاب ولا بخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وبهذا يدرك المؤمن هذه الدلالة العميقة: (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) هو ما يؤمله عند لقاء ربه؛ كما في الآية الأخرى: (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) فهذه الحياة الدنيا بكل مُتَعِها وكل زينتها، كل ذلك زائل ولن يستحضر إلا ما قدم من عمل صالح، ويوضح هذا أيضًا ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "يؤتى يوم القيامة بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة (يعني من أهل الإيمان) فيغمس غمسة في الجنة، ثم يقال له: يا عبد الله هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتي بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة (يعني ممن كتب عليه وممن هو من أهل الضلال والكفران) ثم يغمس غمسة في النار، فيقال له: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب".
تأملوا -أيها الإخوة المؤمنون- "يغمس غمسة" هذا المؤمن الذي مرت به شدائد الدنيا وأنواع لأوائها، وأنواع بؤسها من فقر أو مرض، أو غير ذلك مما فيه شظف العيش وشدته، ولكنه ثابت على إيمانه، ثم إذا كان إلى الآخرة يغمس غمسة في الجنة، والمعنى أنه يُدخل إليها دخولًا وجيزًا شبه بالغمس، كالذي يدخل قطعة خبز في سائل، ثم يخرجها على عجل، فشُبِّهَ دخوله اليسير للحظات إلى الجنة فيما أعد له من الثواب، ثم أخرج، هل مرَّ بك بؤس قط؟ فيقول: لا، كل ما أصابه في الدنيا نَسِيَه مع ما وجده من نعيم الجنة للحظات، بينما ذلك المعرض الذي عاش في الدنيا على أنواع النعيم وتحقُّق المتع، لكنه مسخط لربه، فإنه ولو أمضى الدنيا كلها منذ وُلِد وإلى أن توفِّي وهو على أكف الراحة والتقلب في أنواع النعيم -من مال وجاه، وغير ذلك- ثم إذا وافى الآخرة وأُدخِل النار للحظات، غمس في النار غمسة، يقال له: هل مر بك نعيم قط؟ هل تذكر ذلك النعيم الذي في الدنيا من الأموال والجاه والرتب والمراتب؟ كل ذلك نُسِي يقول: لا والله ما مر بي نعيم قط.
فنعوذ بالله أن نصير إلى هذه الحال، ونسأله سبحانه أن يجعلنا من أهل الجنة.
تأملوا -أيها الإخوة المؤمنون- في هذا الوصف، وهذا يوجب على كل عاقل أن يكون متاجرًا مع الله بالعمل الصالح، فاكنز العمل الصالح؛ فإنه خير ما توافي به ربَّك، ولا ريب أن المؤمن إذا سخَّر ما أُعطِي من زينة الحياة الدنيا من مال وأموال، ومن صحة وخير، إذا سخره في طاعة الله -جل وعلا-، فذلك في المرتبة العالية، فهو خير إلى خير، وفضل إلى فضل، وخير الناس من طال عمره وحسن عمله، ولذا بحث العلماء في هذا المقام: أيهما خير الغني الشاكر، أم الفقير الصابر؟ وذلك أن الغني مع وجود المال ربما أدَّى به هذا إلى أن يسخط الله، ويبعد عن طاعته، فكان عند بعض العلماء أفضل من ذلك الفقير الذي صبر على لأْوائه؛ لأنه لا خيار له إلا الصبر، بينما الغني عنده خيار آخر، لكنه اختار طاعة ربه، وبَعُد عما يُسخطه.
ومهما يكن من أمر -أيها الإخوة المؤمنون- فإن الموفق كل التوفيق من استقام على العمل الصالح؛ لأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا لا راحة له ولا طمأنينة إلا باستقامته على الطاعات، ولذلك إنما يدخل على الإنسان أنواع من البؤس ومن ضيق النفس، وتكدُّر الخاطر، وغير ذلك من العلل النفسية ببعده عن ربه، فإن الطاعات تورث طمأنينة النفس وانشراح الصدر، وطيب الخاطر وطيب الحياة جميعًا، هذا أمر ملموس مثبت بالدلائل الشرعية من القرآن والسنة، ويثبته أيضًا علماء النفس، ويؤكدون أن الإنسان لديه حاجة بل ضرورة فطرية في أن يصمد إلى ربه، وأن يتوجه إلى الله بالعمل الصالح، فالعمل الصالح بالنسبة للإنسان كالهواء كالأكسجين الذي لا ينفك عن ضرورته إليه، فكلما تهيأ له العلم الصالح وأكثر منه، فإن ذلك يطيب حياته، ويهيئ له فيها من المتعة ما لا يجده من متع الحياة الدنيا الفطرية المناسبة لطبيعة الإنسان، فهذه زاد الروح،؛ أي: إن الأعمال الصالحة زاد الروح الذي لا يمكن الانفكاك عنه: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 46].
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم وارض عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10].
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم إن بأمة نبيك محمد -عليه الصلاة والسلام- من الفرقة واللأواء ومن البأساء والضراء، ومن كيد الأعداء ما لا يخفى عليك، وما لا نشكوه إلا إليك، وما لا يقدر على كشفه إلا أنت، فنسألك اللهم فرجًا عاجلًا لكل مكروب.
اللهم إنا نسألك فرجًا عاجلًا لكل مكروب برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا، اللهم أصلح لنا أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق المجاهدين المرابطين على الحدود والثغور.
اللهم احفظهم بحفظك يا رب العالمين، واخلفهم في أهليهم خيرًا يا حي يا قيوم.
اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء إخواننا في فلسطين، اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا، وفي العراق وفي ليبيا، وفي مصر وإندونيسيا، وغيرها من البلاد يا رب العالمين.
اللهم عجل بالفرج لإخواننا المكروبين في العراق، اللهم إنا نشكو إليك ما فعل بهم مما يسمى بالحشد الشعبي الرافضي، اللهم اكفف أيديهم عن إخواننا المستضعفين يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغارًا.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180 - 182].