الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | فيصل الردادي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
قد لا يدرك وهو في حالة ضعف من الإيمان والصلة بالله أن طوق النجاة قريباً منه، وأن الخير في متناول يده، وأن الفرج قاب قوسين أو أدني، ورب محنة كانت منحة ربانية للفرد المسلم والمجتمع المسلم إذا أحسنوا التعامل معها، كم من مصيبة كنت تظنها ستكون القاضية، وكم من حزن ظننت أن الدنيا لن تحلو بعده، وكم من عزيز فقدته فتوهمت أنه لم يعد بعده شيء يستحق الحياة، كم وكم؟؟ لكن الحياة عادت كما كانت ولربما بطعم أحلى وأقدار أجمل، فلا تتضايق وانتظر الفرج... فثقوا بالله...
الخطبة الأولى:
الحمد للَّه رب الأرض والسماء خلق آدم، وعلمه الأسماء، وأسجد له ملائكته وأسكنه الجنة دار البقاء، وجعل الدنيا لذريته دار عمل لا دار جزاء، وتجلت رحمته بهم فتوالت الرسل والأنبياء...
وأنزل القرآن لما في الصدور شفاء، فأضأت به قلوب العارفين والأتقياء.. وترطبت بآياته ألسنة الذاكرين والأولياء.. نحمده تبارك وتعالى على النعماء والسراء... ونستعينه على البأساء والضراء...
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا خاتم الرسل والأنبياء... وإمام المجاهدين والأتقياء
أما بعد:
عباد الله: مع تسارع الأحداث حولنا وكثرت المتغيرات وظهور الصراعات واحتدام المشاكل والنزاعات بين الأفراد والشعوب والمجتمعات وتوالي الابتلاءات، يظن الإنسان وهو في حالة ضعف إيماني وصلة بالله وعدم استيعابه لحقيقة هذه الدنيا.. أنها نهاية الحياة وأنه لا خير فيها ولا نجاة منها، ويتوقع الشر بكل صوره فيملأ قلبه بالخوف والقلق والاضطرابات النفسية، وتأتيه التكهنات والهواجس في أقبح صورها وأبشع مظاهرها فتضعف القيم العظيمة في نفسه، وتسوء أخلاقه، وتنعدم الثقة بمن حوله فيخسر حياته وسعادته ودينه وآخرته.
ونسي هذا الإنسان أن لهذا الكون رباً عظيماً يحكم فيه بمشيئته، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، يبتلي العباد لحكمه هو يعلمها وهو أرحم بهم من أنفسهم.. ملكٌ يُدبِّر أمرَ عباده، يأمرُ وينهَى، ويُعطِي ويمنع، ويخفِضُ ويرفع، أوامرُه مُتعاقبةٌ على تعاقُب الأوقات، نافذةٌ بحسب إرادته ومشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29].. لا يغفل ولا ينام.. يُفرِّج كربًا، ويجبِر كسيرًا، ويُغنِي فقيرًا، ويُجيبَ دعوةً، ويدفع شراً وينصر مظلوماً ويبطش بجبارٍ ويطعم جائع ويشفي مريضاً قال عن نفسه: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) [المؤمنون: 17].
لذلك كان لزاماً على المسلم أن لا يستسلم أو يضعف أو ييأس حتى لا تعتريه هذه الهموم والمخاوف والأوهام وليثق بالله وليتوكل عليه، وإن نزل البلاء كان على يقين بأن هذه سنة الله في هذه الحياة، وأن الله -سبحانه وتعالى- لا يريد بهذا البلاء مهما كان إلا الخير لعباده لحكمة قد لا نعلمها وقد لا ندركها، وعليه أن يبذل ما يستطيع من جهد لدفعه بالوسائل الشرعية والمادية ولو بدعاء أو كلمة أو نصيحة، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، والله -سبحانه وتعالى- يتولى بعد ذلك أموره كلها فيجعل بعد الضيق فرجًا وبعد العسر يسرًا..
وانظروا إلى أصحاب الإيمان من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب وقد تكالبت عليهم ورمتهم بقوس واحدة وحاصرت مدينتهم، وقد بلغت القلوب الحناجر من شدة الحال واليهود قد نقضوا الصلح وتآمروا عليهم وفي هذه اللحظة العصيبة والموقف الحرج والجوع والليلة الظلماء والريح ماذا قال أصحاب الإيمان ؟ قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب: 22].
ويوم أن خوفوهم بأعدائهم وعدتهم، وكيف أنهم قد أجمعوا أمرهم على حربهم والقضاء عليهم بعد معركة أحد، وما زالت جراحهم تنزف.. لم يخاف الصحابة ولم يعتريهم الهم والقلق ولم يتطرق اليأس إلى قلوبهم بل صور -سبحانه وتعالى- موقفهم وثباتهم وقوة إيمانهم وكيف كانت عاقبتهم قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران: 173].
فما الذي حصل؟ كان الفرج الإلهي والتوفيق الرباني حظهم ونصيبهم جزاءً لهذا الإيمان واليقين بالله والتوكل عليه (فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ) [آل عمران: 173-174]، ولذلك قال تعالى بعدها: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ) يعني: يخوفكم بأوليائه ومناصريه، (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران175]
أيها المؤمنون: عباد الله: إن الأحداث والهواجس والمخاوف التي يعيشها المسلم مهما كان تأثيرها على مسيرة حياته وعلاقته بربه، وبمن حوله، وعلى واقع الحياة ومستقبل الأفراد والشعوب والمجتمعات.. قد لا يدرك وهو في حالة ضعف من الإيمان والصلة بالله أن طوق النجاة قريباً منه، وأن الخير في متناول يده، وأن الفرج قاب قوسين أو أدني، ورب محنة كانت منحة ربانية للفرد المسلم والمجتمع المسلم إذا أحسنوا التعامل معها.
فمن ذلك: تكفير الذنوب والخطايا ورفع الدرجات، وتطهير النفوس وتزكيتها، وربطها بخالقها والتمكين والنصر والتمييز والتمحيص بين العباد.. ومعرفة أهل الصدق والصبر والإيمان.. وكشف وفضح أهل الخيانة والكذب والنفاق قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُو أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31]، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155].
فإذا زارتك شدة فإنما هي سحابة صيف فلا يخفيك رعدها ولا برقها، فربما تكون محملة بالغيث... هبت عاصفة شديدة على سفينة في عرض البحر فأغرقتها، ونجا بعض الركاب منهم رجل أخذت الأمواج تتلاعب به حتى ألقت به على شاطئ جزيرة مجهولة ومهجورة ما كاد الرجل يفيق من إغمائه ويلتقط أنفاسه، حتى سقط على ركبتيه وطلب من الله المعونة والمساعدة، وسأله أن ينقذه من هذا الوضع الأليم.
مرت عدة أيام كان الرجل يقتات خلالها من ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب، ويشرب من جدول مياه قريب وينام في كوخ صغير بناه من أعواد الشجر ليحتمي فيه من برد الليل وحر النهار... وذات يوم، أخذ الرجل يتجول حول كوخه قليلاً ريثما ينضج طعامه الموضوع على بعض أعواد الخشب المتقدة، ولكنه عندما عاد، فوجئ بأن النار التهمت كل ما حولها فأخذ يصرخ: لماذا؟ حتى الكوخ احترق، لم يعد يتبقى لي شيء في هذه الدنيا، وأنا غريب في هذا المكان، والآن يحترق الكوخ الذي أنام فيه لماذا كل هذه المصائب تأتى عليَّ؟!
نام الرجل من الحزن وهو جوعان، ولكن في الصباح كانت هناك مفاجأة في انتظاره... إذ وجد سفينة تقترب من الجزيرة وينزل منها قارباً صغيراً لإنقاذه، فلما صعد على سطح السفينة أخذ يسألهم كيف وجدوا مكانه ما الذي دلهم عليه؟ فأجابوه: لقد رأينا دخاناً، فعرفنا أن شخصاً ما يطلب الإنقاذ!!
فإذا ساءت ظروفك فلا تخف..!! فقط ثِق بأنَّ الله له حكمة في كل شيء يحدث لك وأحسن الظن به.. والأحداث من حولنا والمصائب والكوارث والفتن قد تكون طوق نجاة لنا جميعاً؛ لأن الله هو العدل الذي لا يجور، فأحسنوا العمل وثقوا بالله، وأحسنوا الظن به فإنه كريم عظيم..
اللهم اهدنا بهداك، ولا تولنا أحداً سواك..
قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله:
لقد نسي الكثير من الناس في غمرة الأحداث والفتن والمصائب والكوارث أن الله هو الذي بيده الموت والحياة وكل شيء عنده بمقدار، وأنه كتب الآجال وقدَّر الأقدار وحكم بين العباد، ولا يجري في هذا الكون أمر إلا بإرادته ومشيئته، وعنده علم الغيب لا ينازعه فيه أحد قال تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59].
وكان لضعف الصلة بالله والثقة به، والتوكل عليه والتساهل في العبادات والطاعات والتكاسل عن الواجبات، وعدم شكر النعم الدور الأكبر في ضيق النفوس وتكدر الأحوال.
فكيف ترجو السعادة وتريد العون وتتطلع إلى الفرج والأمن النفسي وثقتك بالله ضعيفه.. وتوكلك عليه ضعيف قال عامر بن قيس: "ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنا فيه: قرأت قول الله تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ) [الأنعام:17]، فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضرًّا لم يقدر أحد على وجه الأرض أن يدفعه عني، وإن أراد أن يعطيني شيئًا لم يقدر أحد أن يأخذه مني، وقرأت قوله تعالى: (فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة:152]، فاشتغلت بذكره جل وعلا عمّا سواه، وقرأت قوله تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [هود:6] فعلمت وأيقنت وازددت ثقةً بأن رزقي لن يأخذه أحد غيري".
إننا بحاجة إلى هذا الإيمان بالله، وهذا اليقين وهذه العقيدة في زمن فسدت فيه القيم والأخلاق، وتجرأ الناس فيه على المعاصي والسيئات وارتكبت المحرمات وسفكت الدماء وانتهكت الأعراض وتعدى المسلم على أخيه المسلم..
إننا بحاجة إلى هذا الإيمان لنتجاوز المحن والفتن والابتلاءات وقد حفظنا ديننا وأخوتنا وأوطاننا ومجتمعاتنا.. إننا بحاجة إلى تقوية هذا الإيمان في قلوبنا حتى نشعر بمعية الله وتوفيقه وحتى لا تطول تعاستنا ويزداد شقاؤنا وتكثر همومنا ومشاكلنا.
عباد الله: إن بعد العسر يسرا.. وإن بعد الشدة فرجاً ومخرجاً وإنها لسنة من سنن الله الذي بيده كل شيء وأمره بين الكاف والنون وإرادة فوق كل شيء مهما كانت قوة البشر ومهما أحكمت خططهم ومهما كثرت عدتهم وأعدادهم ومهما بلغ كيدهم وبطشهم وجبروتهم..
هذا يوسف عليه السلام وقد ألقاه أخوته في البئر وهو طفل صغير في مكان مهجور وبعيد ولا يعلم بذلك أحد من الناس كيف جاءه الفرج وطوق النجاة رغم هذه الشدة البلاء الذي يعيشه.. لقد جاء الفرج وهو يلقى في البئر (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [يوسف: 15]، أي فرج هذا؟! أوحى الله إليه وحي إلهام.. لا تخف من الهلاك، لا تخف ستعيش، وستصل إلى مكانة ومنزلة تنبئهم بأمرهم، بكيدهم وهم لا يشعرون...
لما أخرج الله يوسف -عليه السلام- من السجن لم يرسل صاعقة تخلع باب السجن.. ولم يأمر جدران السجن فتتصدّع.. بل أرسل رؤيا تتسلل في هدوء الليل لخيال الملك وهو نائم.. فيطلب من سيدنا يوسف أن يفسرها ويخرج من السجن عزيزا كريما...
وأنت.. كم من مصيبة كنت تظنها ستكون القاضية، وكم من حزن ظننت أن الدنيا لن تحلو بعده، وكم من عزيز فقدته فتوهمت أنه لم يعد بعده شيء يستحق الحياة، كم وكم؟؟ لكن الحياة عادت كما كانت ولربما بطعم أحلى وأقدار أجمل، فلا تتضايق وانتظر الفرج... فثقوا بالله، وتوكلوا عليه تصلح أحوالكم وتطيب نفوسكم، وقدموا بين يدي ربكم عبادة خالصة وعمل صالح وخلق حسن وسلوك سوي.
اللهم اجعلنا ممن يتوكلون على ربهم حق التوكل واحفظنا بالإسلام وأدم علينا نعمة الإيمان.. احفظنا واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل شر وبلاء..
اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ما فسد من أحوالنا، واهدنا صراطك المستقيم وتولنا في عبادك الصالحين....