العربية
المؤلف | حسن بن علي البار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
كان الثبات على الحق والصدع ببيان الحكم الشرعي من دأب العلماءِ الربانيين, وعبادِ الله المصلحين فهذا شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي يقول: "عُرضتُ على السيف خمس مرات, لا يُقال لي: "ارجع عن مذهبك. لكن يقال لي: اسكُت عمن خالفك: فأقول: لا أسكت". وقد امتحن مرات وأوذي ونفي من بلده...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا, خلق كل شيء فقدره تقديرا, وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا. وأشهد ألا إله إلا هو تعبدا له ورقا وإقرارا بألوهيته على العالمين, وبربوبيته وأسمائه وصفاته, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أدبه ربه وهذبه وكمله بجميل صفاته.
وبعد: فقد كان لتاجر على أميرٍ مالٌ فمطله ثم جحده, فقال له صاحب له: "قم معي". يقول صاحب المال: "فأتى بي خياطاً في مسجد, فقام الخياط معنا إلى الأمير فلما رآه الأمير هابه ؛ ووفّاني المال". فقلت للخياط: "خذ مني ما تريد". فغضب, وبيَّن أنه لا يريد بذلك إلا وجهَ الله تعالى.
فقلت له: فحدثني عن سبب خوفه منك. قال: خرجت ليلة، فإذا بتركي قد صاد امرأةً مليحة وهي تتمنع منه وتستغيث، فأنكرتُ عليه فضَرَبَني, فلما صليتُ العشاء جمعتُ أصحابي وجئتُ بابه, فخرج في غلمانه وعرفني فضربني وشجَّني, وحُملت إلى بيتي, فلما تنصَّف الليلُ قمتُ فأذّنتُ في المنارة لكي يَظُنَّ أن الفجر طلع فيخلّي المرأةَ لأنها قالت: "زوجي حالف علي بالطلاق أنني لا أبيت عن بيتي". قال الخياط الذي أذن: فما نزلتُ حتى أحاط بي (بدر) وأعوانُه, فأُدخلتُ على (المعتضد). فقال: "ما هذا الأذان؟", فحدثتُه بالقصة. فطلب التركيَّ وجهَّز المرأةَ إلى بيتها, وضرب التركيَّ في جوالق حتى مات.
ثم قال لي: "أنكر المنكر، وما جرى عليك فأذِّن كما أذنت. فدعوتُ له وشاع الخبر فما خاطبتُ أحدا في خصمه إلا أطاعني وخاف". [سير أعلام النبلاء ج13/ص471].
أيها الإخوة في الله: إن حقيقةَ دين الإسلام الذي بعث الله تعالى به محمداً -صلى الله عليه وسلم-: أمرٌ بالمعروف, ونهيٌ عن المنكر؛ أمرٌ بالخير والبر والصلاح والمعروف, ونهيٌ عن أضدادها من الشر والعقوق والفساد والمنكر.
دين الله -يا أخي الكريم- دائرٌ بين خيرٍ تعملُه أو شرٍ تجتنبُه, ثم تسعى بعد تجنبك له إلى تجنيب إخوانك المسلمين ذلك الشر؛ بتعليمهم العلم النافع ودلالتهم على ما فيه فلاحهم, وبإرشادهم وحثهم بالقول والعمل, وربما لا يكون ذلك -في بعض الأحيان- إلا بأطرهم على الحق وقَصْرهم عليه أطرا وقصرا, حتى يبقى المعروفُ والصلاحُ والبرُ ظاهراً للعيان في مجتمعات المسلمين, ويصير المنكرُ والفسادُ والفجورُ منخنساً ذاوياً محتقراً من أسوياء البشر.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -أيها الأخوة- إذن هو الدين, وهو من التواصي بالحق والتواصي بالصبر الذي معه لا يكون الإنسان في خسر. كما قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1 – 3], وقال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر؛ أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
وقد تحدثت نصوص القرآن والسنة عن ذلك كثيراً, وتحدث عنه أهل العلم والفضل وبيّنوا فضله, وبيَّنوا وجوبه وضرورته للأمة, وحُسنَ أثرِه عليها, وبينوا كذلك آدابه, ومراتبه, وتحدثوا عن أخطاء أو تجاوزات قد تقع فيه, كمن يريد تغيير المنكر فيغيرَه بمنكر أعظمَ منه, وغيرَ ذلك.
وعلى أهمية ذلك كلِّه إلا أني أريد في هذه الخطبة تجاوزَ ذلك كلَّه إلى عرض صورٍ ونماذجَ مشرقة من نبأ آمرين وناهين, امتثلوا أمر الله ورسوله وقاموا لكل مقام بما يليق به, فـأمروا ونهوا الكبير والصغير, والعامي والأمير, بل وهانت عليهم نفوسهم فامتثلوا أمر الله حتى حينما يكون الأمر مخوفاً مُؤذياً فصبروا على الأذى في ذات الله, ووضعوا مصلحة الدين, ومصلحة حفظ المجتمع من السوء والفحشاء فوق كل اعتبار, ولو كان هذا الاعتبار هو راحة بالهم, وسلامتُهم من الأذى, فرحمة الله على هؤلاء الملأ الكريم أين كانوا, ومتى كانوا.
أيها الأخوة: إن من قام بأمر الله يسَّر الله أمره, وأوقع الهيبة في نفوسِ كل أحد منه, فقد كان الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي الجماعيلي لا يرى منكرا إلا غيَّره بيده أو بلسانه, وكان لا تأخذه في الله لومةُ لائم.
قال بعض أصحابه: قد رأيته مرة يهريق خمراً فجبذ صاحبُه السيفَ!! فلم يخف منه, وأخذه من يده. وكان قوياً في بدنه وكثيراً ما كان بدمشق يُنكر ويكسر الطنابير والشبابات (وهما نوعان من آلات المعازف المحرمة).
وقال الحافظ موفق الدين ابن قدامة: "كان الحافظ –أي عبد الغني- لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه. وكنا مرة أنكرنا على قومٍ وأرقنا خمرهم وتضاربنا, فسمع خالي أبو عمر فضاق صدره وخاصمَنا فلما جئنا إلى الحافظ عبد الغني طيَّب قلوبنا وصوَّب فعلنا وتلا: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17]".
وقال أبوبكر بن أحمد الطحان: "كان بعض أولاد السلطان قد عُملت لهم طنابير وكانوا في بستان يشربون, فلقي الحافظُ أبو محمد الطنابيرَ -في الطريق- فكسرها. قال فحدثني الحافظ قال: فلما كنتُ أنا وعبد الهادي عند حمام كافور إذا قوم كثير معهم عصي فخفّفت المشيَ وجعلت أقول: "حسبي الله ونعم الوكيل", فلما صرت على الجسر لحقوا صاحبي، فقال: أنا ما كسّرت لكم شيئا هذا هو الذي كسر قال: فإذا فارس يركض, فترجّل وقبّل يدي وقال: الصبيان ما عرفوك, وكان قد وضع الله له هيبة في النفوس".
وقال فضائل بن محمد بن علي بن سرور المقدسي: "سمعتهم يتحدثون بمصر أن الحافظ كان قد دخل على العادل فقام له, فلما كان اليوم الثاني جاء الأمراء إلى الحافظ مثل سركس وأزكش فقالوا: آمنا بكراماتك يا حافظ. وذكروا أن العادل قال: ما خفتُ من أحد ما خفتُ من هذا. فقلنا: أيها الملك هذا رجل فقيه!! قال: لما دخل ما خُيِّل إليَّ إلا أنه سَبُع".
ودخل الأمير درباس مع الحافظ إلى الملك العادل فلما قضى الملك كلامه مع الحافظ جعل الملكُ يتكلم في أمر ماردين وحصارها, فسمع الحافظ فقال: "أيش هذا وأنت بعد تريد قتال المسلمين, أما تشكر الله فيما أعطاك؟ أما...؟ أما...؟ قال: فما أعاد ولا أبدى, ثم قام الحافظ وقمتُ معه فقلت: أيش هذا نحن كنا نخاف عليك من هذا, ثم تعمل هذا العمل!! قال: أنا إذا رأيتُ شيئا لا أقدر أن أصبر أو كما قال".
وسمعت أبا بكر بن الطحان قال: "كان في دولة الأفضل جعلوا الملاهي عند الدرج فجاء الحافظ فكسَّر شيئا كثيراً ثم صعد يقرأ الحديث, فجاء رسول القاضي يأمره بالمشي إليه ليناظره في الدف والشبابة، فقال: ذاك عندي حرام ولا أمشي إليه. ثم قرأ الحديث, فعاد الرسول فقال: لا بد من المشي إليه، أنت قد بطَّلتَ هذه الأشياء على السلطان. فقال الحافظ: ضرب الله رقبتَه، ورقبةَ السُلطان. فمضى الرسول وخِفنا فما جاء أحد". [سير أعلام النبلاء ج21/ص454- 456].
وهكذا من أعز دين الله وصدع بما أمره الله أعزه الله فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يمنعن رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه".
وأما من كتم أمر الله وتهيَّب الناسَ وكانوا أعظم عنده من الله فهذا قد تعجل العقوبة, قال أبو عبدالرحمن العُمري الزاهد: "إن من غفلتك عن نفسك إعراضُك عن الله بأن ترى ما يُسخطه فتُجاوِزَه, ولا تأمرَ ولا تنهى خوفاً من المخلوق. مَن ترك الأمر بالمعروف خوفَ المخلوقين نُزِعت منه الهيبةُ فلو أَمَرَ وَلَدَهُ لاستخَفَّ بِه". [سير أعلام النبلاء ج8/ص375].
ولذلك فإن من قام بهذه الشعيرة تجد أن الناس لا يكونون له على وجه واحد من المحبة, بل منهم من يعرف له فضله ويشكر له سعيَه, ومنهم من يضيق به ذرعاً كونه يتدخل فيما لا يعنيه -بزعم هذا-, قال سفيان الثوري: "إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء؛ لأنه ربما رآهم يعصون فلا ينكر ويلقاهم ببِشر". [سير أعلام النبلاء ج7/ص278] لكنه يكون عند الله ممدوحاً إذا ما اتقاه.
وكما قلت إخواني في الله: فإن في المسألة أوجُهاً تحتاج إلى إبانة وإيضاح ليس هذا موضعها, إلا أن الجانبَ الذي يُهمني الآن أن أؤكد عليه هو أهميةُ هذا الأمرِ, وفائدتُه, وثمرتُه, وتأكدُه علينا جميعاً, وأنه أمرٌ يستحق أن يكرهك لأجله سفهاء الناس وفاسديهم, ولا ضير في ذلك, وإن كان الرفق, وحسن التأني مطلوباً مرغوباً.
ولذلك فقد كان الثبات على الحق والصدع ببيان الحكم الشرعي من دأب العلماءِ الربانيين, وعبادِ الله المصلحين فهذا شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي يقول: "عُرضتُ على السيف خمس مرات, لا يُقال لي: "ارجع عن مذهبك. لكن يقال لي: اسكُت عمن خالفك: فأقول: لا أسكت". وقد امتحن مرات وأوذي ونفي من بلده -رحمه الله-. [سير أعلام النبلاء ج18/ص509].
فيجب الأمر والنهي, وتذكير ولاة الأمور ومناصحتهم, والقيام بأمر الله في العالمين, وأن يكون الله ورسوله ودينُه وشرعُهُ أحبُّ إلي وإليك من كل أحد, ومن كل شيء, وبمثل هذا تطيبُ النفوس, وتصدق النوايا, ويصطلح الراعي والرعية.
والآن -أيها الأحبة- إلى بعض النماذج المتفرقة التي يجمعها كون أصحابها هابوا الله ولم يهابوا الناس فقاموا بأمر الله خير قيام على مختلف عصور الإسلام:
فهذا عبادة بن الصامت مرت عليه قِطارة وهو بالشام تحمل الخمر، فقال: "ما هذه أزيتٌ؟" قيل: لا بل خمرٌ يباع لفلان. فأخذ شَفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها راويةً إلا بقرها.
وأبو هريرة إذ ذاك بالشام فأرسل فلانٌ إلى أبي هريرة فقال: "ألا تُمسك عنا أخاك عبادة؛ أما بالغدوات فيغدو إلى السوق يُفسد على أهل الذمة متاجرَهم, وأما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلا شتمَ أعراضِنا وعيبَنا". قال فأتاه أبو هريرة فقال: "يا عبادة مالك وللأمير ذره وما حُمِّل". فقال: "لم تكن معنا إذ بايعنا على السمع والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا يأخذنا في الله لومةُ لائم". فسكت أبو هريرة -رضي الله عن الجميع-. [سير أعلام النبلاء ج2/ص10].
وعن سفيان الثوري قال: "إني لأرى الشيء يجب علي أن أتكلم فيه فلا أفعل فأبول دماً". [سير أعلام النبلاء ج7/ص243].
ومن أخبار العلامة منذر بن سعيد البلوطي المحفوظة, أن أمير المؤمنين في الأندلس في زمانه عمل في بعض سطوح الزهراء قبة بالذهب والفضة وجلس فيها ودخل الأعيان, فجاء منذر بن سعيد فقال له الخليفة -كما قال لمن قبله-: "هل رأيت أو سمعت أن أحداً من الخلفاء قبلي فعل مثل هذا ؟", فأقبلت دموع القاضي تتحدر, ثم قال: "والله ما ظننتُ -يا أمير المؤمنين- أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ أنْ أَنْزَلَكَ منازل الكفار!! قال: لمَ؟ فقال: قال الله -عز وجل-: (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ*وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ*وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف:34,33].
فنكَّس الناصرُ رأسَه طويلا ثم قال: "جزاك الله عنا خيراً وعن المسلمين, الذي قلتَ هو الحق". وأمر بنقض سقف القبة. [سير أعلام النبلاء ج16/ص177].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على خيرته من خلقه, النذيرِ العريان الذي قال عن نفسه: "إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان, فالنجاء النجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا, فانطلقوا على مهلهم فنجوا, وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم, فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم".
قد نجا من آفات الدنيا مَن كان مِن العارفين, ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين, وظفِر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين, والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين. وبعد:
فمن أخبار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر غير ما سبق, وهو خبر فيه غيرة شديدة على حرمة من حرمات الله إلا أنه جانبه الرفق, ولعل ذلك لسبب تكبرٍ عند المُنكَر عليه أو استهتار أو نحو ذلك.
قال شجاع المدلجي وكان من خيار عباد الله: "كان شيخنا ابن الحطيئة شديداً في دين الله فظاً غليظاً على أعداء الله, كنت عنده يوماً في مسجده بشرف مصر وقد حضره بعضُ وزراء المصريين أظنه ابنَ عباس، فاستسقى الوزير في مجلسه, فأتاه بعض غلمانه بإناء فضةٍ.
فلما رآه ابنُ الحطيئة؛ وضع يده على فؤاده وصرخ صرخة ملأت المسجد, وقال: واحرها على كبدي!, أتشرب في مجلسٍ يُقرأ فيه حديثُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آنية الفضة!! لا والله, لا تفعل. وطرد الغلامَ, فخرج.
وطلب الشيخُ كُوزاً فجيء بكوز قد تثَلَّم فشَرِبَ الوزير واستحيا من الشيخ. قال شجاع المدلجي الراوي: فرأيته -والله- كما قال الله: (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) [إبراهيم: 17] [سير أعلام النبلاء ج20/ص346].
وبعكس هذا, هذه قصة أخرى في غاية اللطافة وذلك أن عماد الدين إبراهيم المقدسي أخو الحافظ عبد الغني أتى فُساقاً فكسَّر ما معهم, فضربوه حتى غُشي عليه, فأراد الوالي ضربهم. فقال: "إن تابوا ولازموا الصلاة فلا تؤذهم, وهم في حل, فتابوا". [سير أعلام النبلاء ج22/ص50].
وفي هذه القصة إضافة لما ذكر: نفعُ الرفق في الأمر والنهي وفائدته العظيمة إذ ينبغي للآمر والناهي أن يفعل ذلك قاصداً زوال المنكر أو تحقق المعروف بأي طريق لا أن ينتصر لنفسه, وعليه في دربه هذا أن يتحمل ويتجمل ويعتصم بالله؛ ليُحسن الله له العاقبة والعاقبة للمتقين.
وهذا مثال عجيبٌ حقا, وهو مثال واحد من أمثلةٍ كثيرة تبين عظمةَ هذا الدين, وسخاوةَ نفوس أهله, وإعطاءهم لكل ذي حق حقه, مع حفظ الذمار, والوفاء بعهد الله وعهد رسوله, والحرص على ذمة المسلمين من أن تُخفر: قال مالك بن دينار: حدثني فلان: "أن عامربن عبد قيس القدوة الزاهد مرَّ في الرحبة وإذا رجل يُظلم, فألقى رداءه وقال: "لا أرى ذمة الله تخفر وأنا حي". فاستنقذه". ويروى أن سبب إبعاده إلى الشام كونه أنكر وخلَّص هذا الذمي. [سير أعلام النبلاء ج4/ص18]. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].
ومن أهل هذا العصر كان لشيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز -يرحمه الله- في ذلك جد واجتهاد منقطع النظير؛ فإنه لم يكن يذكر له منكر صغير أو كبير, خاص أم عام, من أفراد أو من جماعة إلا بادر -رحمه الله- بإنكاره, ومناصحة أهله. وقد كان لا يتعاظم شيئاً من المنكرات أن ينكره, كما أنه لم يكن يحتقر منكرا أن يقوم فيه بما أمر الله به.
ومرة كان عند الشيخ رجل, وكان الشيخ يحترمه ويناديه يقول له: ياشيخ, فلما خرج ذلك الشخص قال أحد زوار الشيخ: "يا شيخ هذا الشخص لا يستحق أن يعطى هذه المكانة, ولا أن ينادى بياشيخ؛ لأنه مسبل وحالق للحيته ومطيل لشاربه". فقال الشيخ: "وهل نصحته؟" فقال: لا, فغضب الشيخ وقال: "لماذا لم تنصحه؟ كيف تقابل ربك وقد رأيت المنكر ولم تغيره؟ أتخشى الناس؟ سوف تقابل ربك يوم القيامة". ثم قال الشيخ: "ذكروني به إذا جاء مرة أخرى". فلما جاء ذلك الرجل التفت إليه سماحة الشيخ, وجعل ينصحه سرا".
وكان يقول: "ربما نختلف مع ولاة الأمور في بعض الأمور, وربما يشتد النقاش, ولكننا نصطلح معهم, ويزول ما في النفوس؛ لأن الهدف هو النصحُ لهم وللمسلمين".
وقد طلب منه بعض الدعاة السعي لإزالة أحد المنكرات, فأمره الشيخ بالكتابة للمسؤولين, ولما ألح عليه بأن يكتب هو, قال له الشيخ: "قد كتبنا لهم في ذلك نحوا من مائة خطاب, وسنكتب لهم كذلك, ثم أمره بأن يكتب هو كذلك".
فرحم الله علماء الإسلام, والقائمين بحدوده من كل موفق بصره الله بمصلحة دينه ودنياه.
إخواني: إن قيام هذه الشعيرة بيننا على المستوى الفردي والجماعي مؤذن بتوفيق الله, وانحسار المنكرات, وإلا فإن السيل قد يجرف ما يمر به في طريقه, ويغلبنا السفهاء والفجار على أنفسنا, وأهلينا, وحرماتنا, فقد أعلن الأسبوع الماضي عن خبر سفهاء أزالوا حجاب امرأة عن وجهها في أحد أسواق الخبر ثم قاموا بتصويرها, وكم يمر بنا من مفحط, أو عربيد, أو متفسخ فلا بد من نصحهم والإنكار عليهم.
وإن من أعظم منكرات هذا الزمان هؤلاء النشء الذين لا يعرفون للدين حرمةً, ولا يفقهون نصوص الكتاب والسنة, ولا يعطونها الجد اللازم لها في تأمل الدلالة, وفي ترك الخوض بلا علم, ثم لا يكون منهم بعد ذلك إلا إلقاء زبالات أذهانهم على المسلمين في صحفهم ومجلاتهم, باسم التجديد, والتنوير, واسترجاع الدين ممن اختطف الدين, لا يُرى للدين أثرٌ عليهم في صلاة, ولا عبادة, ولا فقه ولا شيء.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا تباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.