البحث

عبارات مقترحة:

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

شهادة الزور

العربية

المؤلف علي باوزير
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. فشو شهادة الزور من علامات الساعة .
  2. ماهية شهادة الزور .
  3. آثارها .
  4. نصوص تُحرّم وتُجرّم شهادة الزور .
  5. تعظيم السلف الصالح لأمر الشهادة .
  6. قصتان تبينان عاقبة شهادة الزور .
  7. صور وألوان معاصرة لشهادة الزور .

اقتباس

من هذه الكبائر -أيها الأحباب- كبيرة تهاون الناس فيها كثيرا، واستسهلوها، يحسبونها هينة وهي عند الله عظيمة، لها عندهم العديد من المسميات التي يتحايلون بها على أمر الله، ولكنه ليس لها عند الله -تبارك وتعالى- إلا اسم واحد، ألا وهو: شهادة الزور.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد: أيها المسلمون عباد الله، أنزل الله -سبحانه وتعالى- إلينا شريعة كاملة فيها الكثير من الأحكام، والعديد من الشرائع، فيها الواجبات والأوامر، وفيها المحرمات والنواهي، فيها الحلال وهو الأكثر، وفيها الحرام وهو الأقل، وما حرم الله -سبحانه وتعالى- على الناس شيئا إلا لأجلهم؛ لأجل أن يستقيم دينهم، وتصلح دنياهم. تنوعت هذه المحرمات فكان منها الصغائر، وكان منها الفواقر والكبائر.

من هذه الكبائر -أيها الأحباب- كبيرة تهاون الناس فيها كثيرا، واستسهلوها، يحسبونها هينة وهي عند الله عظيمة، لها عندهم العديد من المسميات التي يتحايلون بها على أمر الله، ولكنه ليس لها عند الله -تبارك وتعالى- إلا اسم واحد، ألا وهو: شهادة الزور.

هذه الفعلة الشنيعة التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها ستنتشر بين الناس في آخر الزمان، فجاء عنه في مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشوَّ التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم".

هذه كلها علامات من علامات الساعة، وشاهدنا في هذا الحديث قوله: "وشهادة الزور"، ستنتشر في آخر الزمان، وقد حصل، انتشرت بين الناس انتشارا مخيفا، حتى إنك لتجد على أبواب المحاكم من يجلس ليس له وظيفة إلا شهادة الزور، مستعد لأن يشهد بالألف والألفين شهادة يوبق بها دينه ودنياه، والعياذ بالله!.

شهادة الزور -أيها الأحباب- في الأصل هي نوع من الكذب، يأتي فيها كل ما جاء في الكذب من نهي وتخويف ووعيد؛ بل إن شهادة الزور كذب مغلظ، وهي أشد قبحا من الكذب العادي؛ لأنه يترتب عليها منع الحقوق عن أهلها وإعطاء الحقوق لغير مستحقيها.

والأصل في الشهادة أن تكون سندا لجانب الحق، وأن تكون معينة للقضاء على إقامة العدل، وأن تساعده على الحكم على الذين يبغون ويظلمون ويعتدون على أموال الناس وأعراضهم وحقوقهم.

فإذا صارت الشهادة على العكس من ذلك، إذا صارت الشهادة إلى جانب الباطل، وكانت سبباً لتضليل القضاء وصرفه عن الحكم بالعدل، ووقفت في صف المفسدين الظالمين، فإنها عند ذلك تتضمن جريمتين اثنتين: أولاهما صرفُ الشهادة عن مقصدها، وتضييع المراد منها، فالله -تعالى- أمر بإقامة الشهادة لنصرة الحق؛ فإذا أقيمت الشهادة لنصرة الباطل خرجت عن مقصودها وضاع الحق بين الناس. والجريمة الثانية: الكذب الذي تتضمنه هذه الشهادة، وتضييع الحقوق الذي تتسبب فيه.

ومن هنا -أيها الأحباب- جاءت النصوص الكثيرة التي تحرم وتشدد في أمر الشهادة بالباطل، وتجرم شهادة الزور، وتؤثّم صاحبها، قال الله -تبارك وتعالى-: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج:30].

قال ابن مسعود -رضي الله عنه- في هذه الآية: "عدلت شهادة الزور الشرك بالله -تبارك وتعالى-"، فاجتنبوا الرجس من الأوثان، ثم قال: واجتنبوا قول الزور، فجعل قول الزور في مقام ومنزلة الشرك بالله -تبارك وتعالى-، وهذا تأكيد وتحذير شديد على فعل هذا الإثم العظيم.

وربنا -تبارك وتعالى- أثنى على عباده المؤمنين الصالحين فقال: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان:72].

ذات مرة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسا فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟"، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئنا -صلى الله عليه وسلم- فجلس وقعد وقال: "ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور! ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور! ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور!"، يقول الصحابة: "فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت!"، أشفقوا عليه، رحموه -صلى الله عليه وسلم- لما رأوا من شدة انفعاله، ولما رأوا من شدة غضبه عند هذه القضية بالذات، ذكر الشرك بالله فلم يكرر ولم يحرج ولم يؤكد، وذكر عقوق الوالدين ولم يفعل شيئاً من هذا، فلما جاء إلى شهادة الزور جلس وقعد وأخذ يكرر: "ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور!".

ويروي لنا أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين أنه سئل عن الكبائر فقال: "الكبائر الإشراك، بالله وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور".

هذه أكبر الكبائر عند الله -تبارك وتعالى-، ولهذا الصحابة -رضي الله عنهم- وأرضاهم كانوا يربون صغارهم على تعظيم أمر الشهادة، وعدم الاستهانة بها، والخوف منها.

يروي إبراهيم النخعي عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، قال: "ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته"، أي: يأتي أناس يستخفّون بأمر الشهادات لا يبالي الواحد بأن يشهد في أي أمر كان، يبادر بإطلاق الحلف والأيمان ويقسم بالله -تعالى- على أمر ربما لم يره ولم يسمعه، "ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته".

يقول إبراهيم النخاعي الذي يروي الحديث قال: "وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد"، كان الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- يضربوننا ونحن صغار على الشهادة والعهد حتى لا نستهين بها، حتى لا نتساهل فيها، وكانوا ينهون صغارهم عن الشهادات، حتى لا ينشأ الصبي مستسهلا لهذا الأمر، مستخفا به؛ بل ينشأ معظما لأمر الشهادة، يعلم أنها أمر عظيم عند الله -تبارك وتعالى-.

عرف الصحابة وأدركوا أمر الشهادة وخطر شأنها وعظم ضررها إن هي انحرفت عن مقصودها وخرجت عن مرادها.

واسمعوا -أيها الأحباب- اسمعوا إلى هذه القصة لتعلموا كيف يبتلى شاهد الزور بدعوات المظلومين، في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- كان سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- واليا على الكوفة، فجاء أهل الكوفة إلى عمر يشتكون سعدا، وكان أهل الكوفة لا يرضون عن أحد، حتى إنهم شكوا إلى عمر أن سعدا لا يحسن الصلاة.

فجاء عمر بسعد وقال له: "يا أبا اسحق، إن أهل الكوفة قد شكوك إلي، حتى إنهم قالوا إنه لا يصلح يصلي". فقال سعد -رضي الله عنه وأرضاه-: "أما إني -والله- لأصلي بهم صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا أخرم منها شيئا"، قال عمر: "فذلك الظن بك".

لكن عمر كان يتحرى العدل، وكان لا يكتفي بقول الولاة أو حكايتهم عن أنفسهم، فأرسل رجلا أو رجالا مع سعد -رضي الله عنه- إلى الكوفة فأخذوا يطوفون على مساجد الكوفة مسجدا مسجدا يسألون الناس عن سعد، فكلهم كانوا يثنون عليه خيرا، حتى جاؤوا إلى مسجد لبني عبس، فقام فيه رجل يدعى أسامة بن قتادة ويكنى بأبي سعدة، وقال: "أما إذ نشدتنا، فإن سعدًا كان لا يسير بالسريَّة، ولا يقسم بالسويَّة، ولا يعدل في القضية"، لا يسير بالسرية أي: لا يخرج مع الجيش ليقاتل، ولا يقسم بين الناس بالسوية أي: بالتساوي.

فقال سعد -رضي الله عنه وأرضاه-: "أمَا والله لأدعونَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياءً وسُمعةً، فأَطِلْ عمره، وأطل فقرَه، وعرِّضْه للفتن".

هذا الرجل -أيها الأحباب- قام يشهد شهادة أمام رسل عمر الذين أرسلهم لأجل أن يتثبتوا من شأن سعد، فقام يشهد شهادة يدعي أنها شهادة لله وهو كاذب فيها، شاهد زور، فدعا عليه سعد بهذه الثلاث دعوات: "أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن"، فكان هذا الرجل بعد ذلك يقول: "شيخ كبير مفتون؛ أصابتني دعوة سعد".

يقول راوي الحديث عبد الملك: "فأنا رأيته بعدُ، قد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر، وإنه ليتعرض للجواري -أي: للفتيات- في الطرق يغمزهن"، يعاكسهن. مفتون أصابته دعوة الرجل الصالح؛ بسبب ماذا؟ بسبب شهادة الزور التي شهد بها.

واسمعوا -أيها الأحباب- لقصة أعجب من هذه، قصة جرت في زمن الجاهلية يرويها لنا ابن عباس -رضي الله عنه- كما روى ذلك الإمام البخاري في صحيحه، يقول ابن عباس: "كان رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً من قريش مِنْ فَخِذٍ آخرَ –من بطن أخرى- فَانْطَلَقَ مَعَهُ فِي إِبِلِهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ من بني هاشم انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جُوالِقِهِ -والجوالق: وعاء من الجلد والثياب- انقطعت عروته يريد أن يربطها، فقال: أَغِثْني بِعِقالٍ –العقال هو الذي يربط به الإبل- أَشُدُّ به عُرْوَة جُوالِقِي لاَ تَنْفِرُ الْإِبِلُ، فَأَعْطَاهُ عِقَالاً فَشَدَّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِهِ فَلَمَّا نَزَلُوا عُقِلَتْ الْإِبِلُ إِلاَّ بَعِيرًا وَاحِدًا، فَقَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ: مَا شَأْنُ هَذَا الْبَعِيرِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْ بَيْنِ الْإِبِلِ؟ فقال: لَيْسَ لَهُ عِقَالٌ. قَالَ فَأَيْنَ عِقَالُهُ؟ قال: فَحَذَفَهُ بِعَصًا كَانَ فِيهَا أَجَلُهُ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ أَتَشْهَدُ الْمَوْسِمَ -موسم الحج أو العمرة-، قَالَ: مَا أَشْهَدُ رُبَّمَا شَهِدْتُهُ، قَالَ هَلْ أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً مَرَّةً مِنْ الدَّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَتَبَ: إِذَا أَنْتَ شَهِدْتَ الْمَوْسِمَ فَنَادِ: يَا آلَ قُرَيْشٍ، فَإِذَا أَجَابُوكَ فَنَادِ يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فاسْأَلْ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِي فِي عِقَالٍ. وَمَاتَ الْمُسْتَأْجَرُ، فَلَمَّا قَدِمَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ أَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ صَاحِبُنَا؟ قَالَ: مَرِضَ، فَأَحْسَنْتُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ، فَوَلِيتُ دَفْنَهُ -كذب على أبي طالب- قَالَ: قَدْ كَانَ أَهْلَ ذَاكَ مِنْكَ، فَمَكُثَ حِينًا، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يُبْلِغَ عَنْهُ وَافَى الْمَوْسِمَ فَقَالَ: يَا آلَ قُرَيْشٍ، قَالُوا: هَذِهِ قُرَيْشٌ، قَالَ: يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ، قَالُوا: هَذِهِ بَنُو هَاشِمٍ، قَالَ: أَيْنَ أَبُو طَالِبٍ؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو طَالِبٍ، قَالَ: أَمَرَنِي فُلاَنٌ أَنْ أُبْلِغَكَ رِسَالَةً أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَهُ فِي عِقَالٍ.

فَأَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا، وَإِنْ شِئْتَ حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ إِنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ، فَإِنْ أَبَيْتَ قَتَلْنَاكَ بِهِ.

فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالُوا نَحْلِفُ -والعياذ بالله شهادة زور يعلمون أن صاحبهم كاذب ولكن لم يترددوا فزعة لصاحبهم- فَأَتَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَالِبٍ أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ مِنْ الْخَمْسِينَ وَلاَ تُصْبِرْ يَمِينَهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الْأَيْمَانُ -تخاف على ولدها من اليمين الكاذب- فَفَعَلَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَرَدْتَ خَمْسِينَ رَجُلاً أَنْ يَحْلِفُوا مَكَانَ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ نَصِيبُ كُلِّ رَجُلٍ بَعِيرانِ فَاقْبَلْهُمَا مِنِّي وَلاَ تُصْبِرْ يَمِينِي حَيْثُ تُصْبَرُ الْأَيْمَانُ -لا تجعلني أحلف مع الناس- فَقَبِلَهُمَا، وَجَاءَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَحَلَفُوا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! مَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْ الثَّمَانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ". كلهم ماتوا خلال عام واحد، هلكوا كلهم بسبب الكذب والزور واليمين الكاذبة.

فاحذر أن تكون من هؤلاء؛ فإن الإثم عظيم، والمرتع وخيم، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:227].

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.

وبعد: أيها الأحباب الكرام، يظن بعض الناس أن شهادة الزور محصورة فيما يكون من أداء الشهادة واليمين أمام القضاء في المحاكم، وهذا ليس بصحيح، فشهادة الزور لها صور عديدة، وأشكال متنوعة.

شهادة الأم لأولادها المسيئين أمام والدهم أنهم صالحون، وأنهم لا يفعلون شيئاً، هذه شهادة زور.

شهادة المدرس لطالبه أنه ناجح وهو فاشل، زيادة الدرجات التي لا يستحقها الطالب لأجل أن ينجح في دراسته وهو لا يستحق هذا، هذه شهادة زور.

التزكية، أو إعطاء شهادة حسن سيرة وسلوك، لإنسان تعلم سوءه وتعلم شره وفساده، هذه شهادة زور.

الشهادة لشخص أنه مريض لأجل أن يجمع التبرعات، أو لأجل أن يعالج على نفقة الدولة وغيرها، وهو ليس بمريض، هذه شهادة زور.

الشهادة لامرأة تزوجت بعد وفاة زوجها أنها ما تزوجت؛ لأجل أن تستلم معاش زوجها المتوفى، هذه شهادة زور.

كتابة الفواتير المزيفة التي فيها أرقام غير صحيحة، وفيها خداع وغش، هذه شهادة زور.

الشهادة لسلعة أو بضاعة أنها جيدة أو أنها ممتازة وصالحة، وهي ليست كذلك، هذه أيضا شهادة زور.

رفع التقارير غير الصحيحة في أي عمل كان، هذا نوع من شهادة الزور.

التوقيع على ورقة تعلم أن ما فيها غير صحيح وأنه كذب، هذا أيضا شهادة زور.

الشهادة على إنسان بأنه ارتكب جرما لأجل أن يعاقب عليه وهو لم يفعل، هذه أيضا شهادة زور.

شهادة العالم للجاهل أنه عالم هذه شهادة زور. شهادة العالم للحق أنه باطل أو شهادته للباطل أنه حق، هذه أيضا شهادة زور.

وهكذا، صور كثيرة متعددة متنوعة نراها ونسمعها ونقرأ عنها في حياتنا اليومية تساهل الناس فيها وتهاونوا في هذه الجريمة العظيمة.

فكن -يا عبد الله- كن شاهدا بالحق، وكن قائما بالقسط ولو كانت شهادتك على أقرب الناس إليك، فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) [النساء:135]. إن شهدت لأقربائك في الدنيا فإنهم لن ينفعوك في الآخرة بين يدي الله -تعالى-.

كن -يا عبد الله- شاهدا بالحق ولو كانت شهادة الحق في مصلحة عدوك، فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ)، أي: بغض قوم وكراهتهم، (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8]

إن كانت عندك شهادة حق لإنسان فأدها وقم بها؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:283]

وكن دائما متذكرا مستحضرا لآية جليلة عظيمة في كتاب الله -تبارك وتعالى-، ألا وهي قوله -سبحانه-: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) [الزخرف:19].

فكل شهادة تشهد بها في الدنيا هي مكتوبة عليك وستسأل عنها يوم القيامة بين يدي الله، فأعد للسؤال جوابا، وأعد للجواب صوابا.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يصلح أحوالنا كلها.