المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
حُبُّ الوَطَنِ غَرِيزَةٌ جُبِلَ عَلَيْهَا الأَوْفِيَاءُ، ولا أَحَدَ عَرَفَ الوَفَاءَ كَسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-، لِذَا وَجَدْنَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الحُبِّ لِوَطَنِهِ، شَدِيدَ الوَجْدِ لِوَطَنِهِ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: حُبُّ الوَطَنِ غَرِيزَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ في النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الطَّاهِرَةِ، وفي النُّفُوسِ الأَبِيَّةِ التي تَعْرِفُ مَعْنَى الوَفَاءِ؛ حُبُّ الوَطَنِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ جُبِلَ عَلَيْهِ الإِنْسَانُ، يَجْعَلُهُ يَسْتَرِيحُ إلى البَقَاءِ فِيهِ، وَيَحِنُّ إلى رُبُوعِهِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، وَيُدَافِعُ عَنْهُ إِذَا دَاهَمَهُ خَطَرٌ، وَيَغْضَبُ لَهُ إِذَا انْتُقِصَ، وَمَهْمَا ابْتَعَدَ الإِنْسَانُ عَن وَطَنِهِ فَإِنَّ حَنِينَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ يَبْقَى في خَلَدِهِ وفي ذَاكِرَتِهِ لا يُفَارِقُهُ.
وَيَقُولُ بَعْضُهُم: ثَلاثُ خِصَالٍ في ثَلاثَةِ أَصْنَافٍ من الحَيَوَانَاتِ:
1- الإِبِلُ تَحِنُّ إلى أَوْطَانِهَا، وَإِنْ كَانَ عَهْدُهَا بِهَا بَعِيدَاً.
2- والطَّيْرُ يَحِنُّ إلى وَكْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُهُ مُجْدِبَاً.
3- والإِنْسَانُ يَحِنُّ إلى وَطَنِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ نَفْعَاً.
يَا عِبَادَ اللهِ: حُبُّ الوَطَنِ غَرِيزَةٌ جُبِلَ عَلَيْهَا الأَوْفِيَاءُ، ولا أَحَدَ عَرَفَ الوَفَاءَ كَسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-، لِذَا وَجَدْنَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الحُبِّ لِوَطَنِهِ، شَدِيدَ الوَجْدِ لِوَطَنِهِ، روى الترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- لِمَكَّةَ: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ".
يَا عِبَادَ اللهِ: حُبُّ الوَطَنِ غَرِيزَةٌ جُبِلَ عَلَيْهَا الأَوْفِيَاءُ، ولا أَحَدَ عَرَفَ الوَفَاءَ كَسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-، لِذَا وَجَدْنَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الحُبِّ لِوَطَنِهِ، شَدِيدَ الوَجْدِ لِوَطَنِهِ، روى الترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- لِمَكَّةَ: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ".
لَقَد كَانَ حُبُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ حُبَّاً شَدِيدَاً، وَلَوْلا أَنَّهُ أُكْرِهَ على الخُرُوجِ مِنْهَا مَا خَرَجَ، وَعِنْدَمَا خَرَجَ مِنْهَا إلى المَدِينَةِ سَأَلَ اللهَ -تعالى- أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ المَدِينَةِ كَحُبِّهِ مَكَّةَ وَأَشَدَّ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْـمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ" [رواه الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-].
فَأَحَبَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ كَحُبِّهِ مَكَّةَ وَأَشَدَّ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا تَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ الطَّاهِرَةُ إِلَيْهَا، روى الإمام البخاري عَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْـمَدِينَةِ -طُرُقَهَا- أَوْضَعَ نَاقَتَهُ -أَسْرَعَ بِهَا فِي السَّيْرِ- وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا.
وروى الشيخان عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْـمَدِينَةِ قَالَ: "هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ".
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد أَحَبَّ سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ كَحُبِّهِ مَكَّةَ وَأَشَدَّ، وَلَكِنَّهُ مَا نَسِيَ مَكَّةَ، بَلْ كَانَ يَحِنُّ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ فِيهَا وَتَرَعْرَعَ، وَفِيهَا نُبِّئَ، وَفِيهَا نَزَلَ الوَحْيُ عَلَيْهِ، وفي صَحِيحِ الإِمَامِ البخاري، لَمَّا أَخْبَرَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلَ أَنَّ قَوْمَهُ مُخْرِجُوهُ مِنْهَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟". قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَمَّا ذَكَرَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلَ الإِخْرَاجَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-، تَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ الطَّاهِرَةُ لِحُبِّ وَطَنِهِ، وَإِلْفِهِ إِيَّاهُ؛ فَقَالَ مُسْتَغْرِبَاً مُسْتَنْكِرَاً مُنْزَعِجَاً: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟".
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد جَعَلَ اللهُ -تعالى- الإِخْرَاجَ من الدِّيَارِ بِإِزَاءِ القَتْلِ، قَالَ تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) [النساء: 66]، وَمِنْ هَذَا يُفْهَمُ أَنَّ الإِبْقَاءَ في الدِّيَارِ عَدِيلُ الحَيَاةِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: بِحُبِّ الأَوْطَانِ عُمِّرَتِ البُلْدَانُ؛ ومن الحِكَمِ التي يَتَدَاوَلُهَا النَّاسُ: "حُبُّ الوَطَنِ من الإِيمَانِ؛ نِعْمَتَانِ مَجْحُودَتَانِ: الأَمْنُ في الأَوْطَانِ، والصِّحَّةُ في الأَبْدَانِ"؛ وَهَذَا لَيْسَ بِحَدِيثٍ نَبَوِيٍّ شَرِيفٍ.
وَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: "مَا قَاسَيْتُ فِيمَا تَرَكْتُ من الدُّنْيَا أَشَدَّ عَلَيَّ من مُفَارَقَةِ الأَوْطَانِ".
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد هَاجَرَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، وَوَجَدُوا من الأَنْصَارِ الإِيوَاءَ والمُؤَازَرَةَ والتَّبْجِيلَ والإِيثَارَ والحُبَّ، مَا شَهِدَ اللهُ -تعالى- بِهِ للأَنْصَارِ، قَالَ تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
وَجَدُوا الإِيثَارَ والعِزَّةَ والكَرَامَةَ من الأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُم سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؛ وَمَعَ كُلِّ هَذَا لَمْ تُنْسِهِمُ المَدِينَةُ وَأَهْلُهَا وَمَعِيَّةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ والحَنِينَ إِلَيْهَا.
فَهَذَا سَيِّدُنَا بِلالٌ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يَحِنُّ إلى مَكَّةَ فَيَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً | بِـوَادٍ وَحَـوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ |
وَهَـلْ أَرِدَنْ يَـوْمَـاً مِـيَاهَ مَجَنَّةٍ | وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ |
الإِذْخِرُ: حَشِيشَةٌ طَيِّبَةُ الرَّائِحَةِ؛ وَالجَلِيلُ: نَبَاتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ؛ شَامَةٌ وَطَفِيلُ: جَبَلَانِ من جِبَالِ مَكَّةَ؛ وَقِيلَ: عَيْنَانِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ عِنْدَنَا هَذَا الشُّعُورُ لِبَلَدِنَا كَالذِي عِنْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؟
وَهَلْ مَا يَجْرِي في بَلَدِنَا، على أَيْدِي أَهْلِ بَلَدِنَا، يَدُلُّ على حُبِّنَا لِبَلَدِنَا الذي نَشَأْنَا فِيهِ، وَدَرَجْنَا على أَرْضِهِ، وَأَكَلْنَا من خَيْرَاتِهِ؟
فَيَا مَنْ كَانَ الوَطَنُ مَهْدَاً لِأَيَّامِ طُفُولَتِكُم، وَمَدْرَجَاً لِصِبَاكُم، وَسِجِلَّاً لِذِكْرَيَاتِكُم، وَعِشْتُمْ على أَرْضِهِ، وَتَحْتَ سَمَائِهِ: هَلْ مَا تَفْعَلُونَ فِيهِ من الوَفَاءِ لَهُ؟ ومن الإِحْسَانِ إِلَيْهِ؟ هَلْ هَكَذَا رَبَّاكُم سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؟
يَا عِبَادَ اللهِ: يَا أَهْلَ هَذَا البَلَدِ الحَبِيبِ: اتَّقُوا اللهَ -تعالى- في بَلَدِكُم، وَاعْلَمُوا:
وَلِلْأَوْطَانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ | يَدٌ سَلَفَتْ، وَدَيْنٌ مُسْتَحَقٌّ |
اللَّهُمَّ احْفَظْ هَذَا البَلَدَ وَسَائِرَ بِلادِ المُسْلِمِين من شَرِّ الأَشْرَارِ، وَكَيْدِ الفُجَّارِ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِهَذَا البَلَدِ خَيْرَاً فَوَفِّقْهُ اللَّهُمَّ إلى كُلِّ خَيْرٍ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءَاً فَخُذْهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.