الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
من الناس من يتشاءم بالأشخاص والأزمان ويظن أنه يصيبه منها شر لذاتها لا بقضاء الله وقدره.
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وعلقوا آمالكم به وتوكلوا عليه، وارجوا ثوابه، وخافوا من عقابه: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
من الناس من يتشاءم بالأشخاص والأزمان ويظن أنه يصيبه منها شر لذاتها لا بقضاء الله وقدره. وهذا هو الطيرة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنها شرك، لأن المتطير والمتشائم يعتقد أن ما يصيبه من المكاره إنما هو من شؤم المخلوق من زمان أو مكان أو شخص، فيكره ذلك الشخص أو الزمان أو المكان وينفر منه ظناً منه أنه يجلب له الشر، وينسى أو يتجاهل أن ما أصابه إنما هو بقضاء الله وقدره، وبسبب ذنبه، كما ذكر الله عن الأمم الكافرة أنهم تطيروا بمن هو مصدر الخير من الأنبياء والمؤمنين، قال الله تعالى عن قوم فرعون:(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)، وكذلك ثمود تطيروا بنبيهم صالح عليه السلام: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ)، وكذلك مشركوا العرب تطيروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله عنهم: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ).
فرد الله على هؤلاء بأن يصيبهم من العقوبات والمكاره إنما هو بقضاء الله وقدره وبسبب ذنوبهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). وهذا من انتكاس فطرهم حيث اعتقدوا الشر بمن هو مصدر الخير والصلاح.
عباد الله: ومن التشاؤم والتطير ما كان يعتقده أهل الجاهلية في شهر صفر أنه شهر مشؤوم، فيمتنعون فيه عن مزاولة الأعمال المباحة التي كانوا يزاولونها في غيره، فأبطل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر" رواه البخاري ومسلم. وهو نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك، والله تعالى يقول: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا). وقوله صلى الله عليه وسلم "ولا هامة" الهامة البومة: ومعناه نفي ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه فيها أنها إذا وقعت على بيت أحدهم يتشاءم ويقول: نعت إليّ نفسي أو أحد من أهل داري، فيعتقد أن سيموت هو أو بعض أهله تشاؤماً بهذا الطائر. فنفى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأبطله، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا صفر" على الصحيح: أن أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بشهر صفر ويقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وبين أنه لا تأثير له وإنما هو كسائر الأوقات التي جعلها الله فرصة للأعمال النافعة.
وهذا الاعتقاد الجاهلي لا يزال في بعض الناس إلى اليوم، فمنهم من يتشاءم بصفر، ومنهم من يتشاءم ببعض الأيام كيوم الأربعاء أو يوم السبت أو غيره من الأيام، فلا يتزوجون في هذه الأيام. يعتقدون أو يظنون أن الزواج فيها لا يوفق، كما كان أهل الجاهلية يتشاءمون بشهر شوال فلا يتزوجون فيه، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد فتزوج عائشة رضي الله عنها في شوال، وتزوج أم سلمة رضي الله عنها في شوال.
أيها المسلمون: إن الخير والشر والنعم والمصائب كلها بقضاء الله وقدره:(قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) فهو الذي يخلق ما يشاء ويختار، وما يصيب العباد من الشرور والعقوبات فإن الله قدره عليهم بسبب ذنوبهم ومعاصيهم (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، ليس للمخلوق يد في تقديره وإيجاده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وهذا لا ينافي أن يجعل الله بعض مخلوقاته سبباً للخير أو الشر، ولكن ليست الأسباب هي التي تحدث هذه الأمور، وإنما ذلك راجع إلى مسبب الأسباب وهو الله سبحانه، ومطلوب من العبد أن يتعاطى أسباب الخير ويتجنب أسباب الشر قال تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). قال الحافظ بن رجب رحمه الله: وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح، وإنما الزمان كله خلق الله تعالى وفيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤوم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى، فالمعاصي والذنوب تسخط الله عز وجل، وإذا سخط الله على عبده شقي في الدنيا والآخرة، كما أن الطاعات ترضي الله سبحانه وإذا رضي الله عن عبده سعد في الدنيا والآخرة.
والعاصي مشؤوم على نفسه وعلى غيره، فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم الناس، خصوصاً من لم ينكر عليه عمله، فالبعد عنه متعين، وكذلك أماكن المعاصي يتعين البعد عنها والهرب منها خشية نزول العذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما مر على ديار ثمود بالحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم ما أصابهم" فهجر أماكن المعاصي، وهجران العصاة من جملة الهجرة المأمور بها، فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، قال إبراهيم من أدهم رحمه الله: "من أراد التوبة فليخرج من المظالم، وليدع مخالطة من كان يخالطه –يعني: العصاة-، وإلا لم ينل ما يريد"، فاحذروا الذنوب فإنها مشؤومة وعقوبتها أليمة والأماكن والبقاع في الأصل طاهرة نقية ولكن ذنوب العباد تدنسها وتفسدها بشؤمها، والأزمنة أوقات لعمل الخير ولكن العبد يدنسها بفعل الشر، كما قيل:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
فاتقوا الله عباد الله، واعمروا بيوتكم وأوقاتكم بطاعة الله، وعلقوا قلوبكم بالله خوفاً ورجاء ومحبة، ولوموا أنفسكم واعلموا أن ما أصابكم مما تكرهون إنما هو بسبب ذنوبكم لا بشؤم الزمان، والمكان. وإنما هو بسوء عمل الإنسان، ومن تشاءم بشهر من الشهور أو يوم من الأيام أو ساعة من الساعات أو سبَّ شيئاً فإنه يسب الله تعالى ويؤذيه، كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال قال الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار"، وفي رواية "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"، قال الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنّة: ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر، أي: سبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سَبُّوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل إذ هو الفاعل في الحقيقة وما يجري في الدهر من خير أو شر فهو بإرادة الله، الخير تفضل من الله والشر بسبب ذنوب العباد ومعاصيهم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً).
بارك الله لنا في القرآن العظيم..