الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد آل يحيى الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
امرأة وطفل رضيع في مكان ليس به أنيس ولا حسيس، في مكان ليس به طعام ولا ماء، ومع ذلك تذعن لأمر الله، وتثق بوعد الله ورحمته، فيأتيها الفرج. وكم كانت منزلتها عظيمة؟ وكم كانت بركتها على الناس كثيرة؟ وما هي إلا سويعات تمضي قبل أن ينفذ الماء من السقاء، ويتلوى إسماعيل الصغير من العطش. ولم...
الخطبة الأولى:
سار إبراهيم الخليل -عليه السلام- بزوجه هاجر وابنه الرضيع إسماعيل من بلاد الشام، حتى وصل بهما إلى الأرض المباركة إلى جبال فاران بمكة، ووضعهما في ذلك الوادي الموحش، وتركهما هناك.
تتعلق هاجر بثيابه وهو يهم بالرجوع، وتقول له: "يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا ليس معنا ما يكفينا؟" فلم يجبها.
لم يجبها الخليل؛ لأنه لا يعلم إلا أن الله أمره بوضعهما في ذلك الوادي المقفر, ولا بد من الطاعة والامتثال له.
قالت هاجر: "آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فاذهب إذا فإن الله لن يضيعنا".
إيمان عميق، وثقة بالله عجيبة.
امرأة وطفل رضيع في مكان ليس به أنيس ولا حسيس، في مكان ليس به طعام ولا ماء، ومع ذلك تذعن لأمر الله، وتثق بوعد الله ورحمته، فيأتيها الفرج.
وكم كانت منزلتها عظيمة؟ وكم كانت بركتها على الناس كثيرة؟
وما هي إلا سويعات تمضي قبل أن ينفذ الماء من السقاء، ويتلوى إسماعيل الصغير من العطش.
ولم يكن أمام تلك المرأة الضعيفة من حل سوى أن تقوم باستطلاع المكان، فتصعد جبل الصفا لتنظر هل في الأفق من أحد.
وهي تدعو وتستغيث بالله -تعالى-، ولم تر أحدا.
تنزل من الصفا إلى الوادي الذي بينه وبين المروة حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، وكأنها تريد أن تسابق الزمن لترقى إلى المروة، فلما وصلت أعلى ذلك الجبل نظرت فإذا بها لا ترى أحدا من تلك الجهة، فتنزل مرة أخرى إلى الصفا.
فعلت ذلك سبع مرات تصعد الصفا وتنظر وتدعو وتنزل ثم تصعد المروة وتدعو ثم تنزل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فلذلك سعى الناس بينهما".
قطعت هاجر الأمل من الخلق ولم يبق إلا أملها ورجاؤها في الخالق الذي توجهت إليه بالدعاء، وإذا بها تسمع صوتا، قالت: "قد أسمعت إن كان عندك غوث"، فإذا هي بالملك عند قدم الرضيع, وقد بحث بعقبه حتى ظهر الماء المبارك، فأخذت تزم الماء وتحيطه بحوض من الرمل، وتملأ سقاءها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن جبريل لما ركض زمزم بعقبه جعلت أم إسماعيل تجمع البطحاء، ثم قال: رحم الله هاجر لو تركتها كانت عينا معينا".
كان إبراهيم -عليه السلام- قد دعا الله -تعالى- قائلا: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37]، فأتى الله بقبيلة من اليمن فحلوا في ذلك الوادي، فأنست بهم هاجر وابنها إسماعيل، فكانت هاجر وابنها نواة لهذا البلد المبارك.
وهذه هي عاقبة الصبر واليقين التي ينبغي أن تكون في شعور كل مسلم.
وما إن ينتهي ذلك الابتلاء لإبراهيم وهاجر وابنهما -بالنجاح والفوز برضا الله تعالى- حتى يبدأ امتحان جديد أقوى من الأول.
فلم يكد إسماعيل يشب ويبلغ مبلغ الرجال حتى يأتي الأمر لإبراهيم بذبحه.
ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم بابنه الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته!
لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام، الذي يصفه ربه بأنه حليم!
ثم ننظر إلى الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم، قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].
سبحان الله! ما هذا الإيمان وما هذه الطاعة وما هذا التسليم؟
هذا إبراهيم الشيخ الكبير، المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبره وهرمه بغلام، طالما تطلع إليه، فلما جاءه جاء غلاماً حليمًا عليمًا.
وها هو ذا ما يكاد يأنس به، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، لا يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ورؤيا الأنبياء حق، فهو الأمر من ربه بالتضحية، فماذا؟
إما طاعة الله، وإما محبة الولد.
إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.
إن الأمر جاء مناما، وهذا يكفي، هذا يكفي ليلبي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه، لماذا يا رب أذبح ابني الوحيد؟!
كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات: 102].
والأمر شاق، فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو ذبحه بيده.
يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه!
يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فربه يريد، فليكن ما يريد.
وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً، لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم!
إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يرى أنه أبقى من الحياة.
فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى المنزلة التي ارتقى إليها أبوه: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102]، إنه يتلقى الأمر في طاعة واستسلام ورضى ويقين.
ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة: (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].
لم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه مكانة ولا وزناً، إنما أرجع الفضل كله لله إذا هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يريد به.
ويخطوان إلى التنفيذ، فيقتاد إبراهيم ابنه إلى منى لينفذ حكم الله -تعالى-، ويستشيط إبليس غضبا ويتغيظ من هذه الطاعة والاستسلام لأمر الله، وهو الذي أمر بسجدة واحدة فعصى.
فيقرر الشيطان أن يعترض لإبراهيم ويصده عن أمر الله، فعندما وصل إبراهيم إلى جمرة العقبة عرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، ثم الصغرى، وفي كل ذلك وإبراهيم يرجمه حتى ذهب: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات: 103].
يمضي إبراهيم فيكب ابنه على جبينه استعداداً، والغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً.
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا، كان قد أسلما، كانا قد حققا الأمر والتكليف، ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه، وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما.
كان الابتلاء قد تم، والامتحان قد وقع، ونتائجه قد ظهرت، وغاياته قد تحققت، ولم يعد إلا الألم البدني، وإلا الدم المسفوح، والجسد الذبيح، والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء، ومتى أخلصوا له واستعدوا للأداء، وعلم الله ذلك منهم فقد أدوا وحققوا التكليف، وجازوا الامتحان بنجاح: (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147].
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد امتثلا للأمر وصدقا: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 104 - 107]، قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً، فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد، ولو كانت هي النفس والحياة، وأنت -يا إبراهيم- قد فعلت، جدت بكل شيء، وبأعز شيء وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين، فلم يبق إلا اللحم والدم، وهذا ينوب عنه ذبح، أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأطاعت، يفديها بذبح عظيم، قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأً بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل!
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يجسد حقيقة الإيمان.
وجمال الطاعة، وعظمة التسليم، والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسبه وعقيدته، والذي تنعم ببركة دعوته إلى يوم القيامة.
ولتدرك هذه الأمة أن الإسلام هو أن تستسلم لأمر الله طائعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتردد في تحقيق إرادته، ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية ممتثلة مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق أعفاها من التضحيات والآلام، واحتسبه لها وفاءً وأداءً، وقبل منها وفدّاها، وأكرمها كما أكرم أباها.
وتمر الأيام ويأتي إبراهيم إلى ابنه فيقول له: "يا بني إن الله -تعالى- أمرني أن أرفع قواعد بيته الذي كان في هذا الوادي؟ (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].
فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة، عرَّف الله مكانه لإبراهيم -عليه السلام-، وملكه أمره ليقيمه على هذا الأساس: (أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا)، فهو بيت الله وحده دون سواه، وليطهره للطائفين والقائمين والركع السجود من الحجيج، والقائمين فيه للصلاة, فهؤلاء هم الذين أنشئ البيت لهم، لا لمن يشركون بالله، ويتوجهون بالعبادة إلى غيره: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة: 127].
وكأننا نتخيل نبيين كريمين وهما يبنيان البيت ويدعوان الله، ونكاد نسمع صوتيهما يبتهلان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة: 127 - 129].
إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود، وهو ذلك الشعور الذي يريد القرآن أن تحس به هذه الأمة وهي وارثة الأنبياء: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127].
إن طلب القبول هو غايتنا من العمل، فلا يجوز العمل إلا خالصا لله، متجها به في قنوت وخشوع إلى الله رجاء الرضى والقبول: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 128].
إنه طلب العون من الله في الهداية إلى الإسلام، والتثبيت عليه والشعور بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأن الهدى هدى الله، وأنه لا حول ولا قوة ولا فلاح إلا بالله، والله المستعان.
وشعور إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما نعمة الإيمان، تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام، لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان؛ وأن يريهم جميعا مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم، بما أنه هو التواب الرحيم: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة: 129].
وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون، بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل: يتلو عليهم آيات الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويطهرهم من الأرجاس والأدناس، والأفكار العفنة.
إن الدعوة المخلصة تستجاب، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته، غير أن الناس يستعجلون ويملون ويقنطون.
قال المفسرون: "لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت أمره الله أن ينادي فقال: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) [الحج: 27]، فصعد على جبل أبي قبيس فنادى: "يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تحجوا بيته، قال: فوقرت في قلب كل مؤمن, فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبيك لبيك, فأجابوه بالتلبية: لبيك اللهم لبيك, وأتاه من أتاه".
أما والذي حج المحبون بيته | ولبوا له عند المهل وأحرموا |
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعا | لعزة من تعنو الوجوه وتسلم |
يهلون بالبيداء لبيك ربنا | لك الملك والحمد الذي أنت تعلم |
دعاهم فلبوه رضاً ومحبة | فلما دعوه كان أقرب منهم |
الخطبة الثانية:
وبقي هذا البيت مهوىً للأفئدة، ومقصدا للناس منذ أن نادى الخليل -عليه السلام-، وإلى يومنا هذا.
ثم استجاب الله للخليل وابنه -عليهما السلام-، وأرسل من أهل هذا البيت المبارك محمد بن عبد الله، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله، الوارثة لدين الله إلى يوم القيامة.
رحمك الله أيها الخليل, وجزاك عنا خير الجزاء, ورفع منزلتك في النبيين، فما زلنا ننعم ببركة دعوتك، دعوت بالرزق, ودعوت بالبركة, ودعوت بالنبي, ودعوت بالتزكية والحكمة.
أيها الحاج إلى البيت: احمد الله -تعالى- أن وفقك لهذه العبادة العظيمة التي جعل الله جزائها الجنة, واقصد بحجك وجه الله بعيدا عن الرياء والسمعة.
إليك قصديَ لا للبيت والأثر | ولا طواف بأركان ولا حجر |
صفاء دمعي الصفا لي حين أعبره | وزمزم دمعة تنساب من بصري |
وفيك سعيي وتعميري ومزدلفي | والهدي روحي التي تغني عن الجزر |
عرفانه عرفاتي إذ مناي منى | وموقفي وقفة في الخوف والحذر |
زادي رجائي له والشوق راحلتي | والماء من عبراتي والهوى سفري |
قال عمر -رضي الله عنه- وهو يقبل الحجر الأسود: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك".
واغتنم الفرصة في التوبة والدعاء والتضرع والخشوع والخضوع لله وسؤاله التوفيق والمغفرة، ولا تنس إخوانك المسلمين من الدعاء، وخاصة أولئك الذين يقفون في جبهات الجهاد يضطهدهم أعداء الله ويسومونهم سوء العذاب.
وتذكر في المشاعر أنك تسير في طريق الأنبياء وتترسم خطى الصالحين الذين صدقوا مع الله, فكان الله معهم.
فالمشاعر شعور بأنك على الطريق الذي سار عليه الخليلان إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام-، فلا يكن ذلك التتبع والتشبه بهما في المكان والزمان فقط، ولكن اجعلهما قدوتك في الصدق والوفاء والصبر والعمل والخلق ... لا تجعلهما قائداك وهادياك في المناسك فقط، ولكن اجعلهما هادياك وقائداك إلى الجنة، فليكن حجك مبروراً.
أما الإخوة الذين لم يكتب لهم الحج، فليعلموا أن الله -تعالى- قد شرع لهم أعمالا عظيمة في هذه الأيام المباركة.
ومن ذلك: الصوم في هذه الأيام، ويتأكد استحبابه في يوم عرفة، فقد قال : "صيام يوم عرفة إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده".
ومن ذلك: التكبير والتهليل والدعاء والصدقة والبذل, فإن الحسنات تضاعف في الزمن الفاضل، حتى جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد إلا رجلا قدم نفسه وماله في سبيل الله.
وكذلك شرع الله لنا التشبه بالحجاج في الإحرام, فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا".
ومن نسي في بداية العشر فقص شعرا أو ظفرا, فليبدأ من الآن ولا يضره ما سبق فليمسك حتى يذبح أضحيته.
وذبح الأضاحي من الأعمال العظيمة المشروعة في هذه الأيام، فعلى كل من يجد سعة أن يضحي عن نفسه وأهل بيته بقدر ما يستطيع، فالتقرب إلى الله بالذبح من أعظم القربات، وقد ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين، قال أنس: "فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده".
واعلموا أن الله -تعالى- يقول: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحـج: 36 - 37].