الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
إن مِن أعظم ثمرات التوكل: راحةُ البال، وعدم القلق، فإن الإنسان المتوكل إنما يلجأ إلى الركن الركين، والحبل المتين: أوصى أحد العباد أخاه قائلاً: "إن فوضتَ أمرك إلى الله؛ اجتمع لك في ذلك أمران، قلت: ما هما؟ قال: قلة الاكتراث بما قد ضُمِن لك، وراحة البدن من مطلب ذلك، والمتوكل عليه كفاه الله بتوكله عليه الهم، وأعقبه الراحة"، وإن الحديث عن التوكل هو حديثٌ عن فعل الأسباب الممكنة، دون الركون إليها، وهذا بيِّن ظاهرٌ، لكن ينبَّه عليه؛ لأن بعض الناس قد يظن –خطأً- أن التوكل يعني تعطيل الأسباب! وهذا غلط بيّن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أجلّ العبادات التي يَتعبد الإنسانُ بها لربه هي: عبادة القلب، بل جُلّ أركان الشريعة -كالإحسان، والإيمان- كلها عبادات قلبية، لا يتحقق إيمانُ عبدٍ بدونها.
وهذه العبادات ليست مجرد معانٍ تُدرك في الأذهان، بل هي عبادات يريد الله -تعالى- من عباده أن يُرى أثرُها عليهم في حياتهم!
فإذا عرف العبدُ حقيقة الإحسان وهي: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فالمراد: تحقق خشيته في السر والعلن، وهكذا بقية العبادات القلبية! والتي من أجلّها وأشرفها: عبادة التوكل على الله تعالى.. تلكم العبادة التي تمتد جذورها في قلوب الموحدين، في غابر الزمان وحاضره، وإلى أن يَرث الله الأرضَ ومن عليها.
التوكل الذي يجعل القلب معتمداً على الله، واثقاً به ثقةً لا حدود لها -مع بذل الأسباب- كما قال الحسن -رحمه الله-: «مِنْ توكُّلِ العبد أن يكون الله هو ثقته» (التوكل على الله لابن أبي الدنيا، ص63).
وقال بعضُ السلف: "توكل على الله حتى يكون جليسَك وأَنيسك، وموضع شكواك" (التوكل على الله لابن أبي الدنيا، ص64).
أيها الإخوة:
لقد وعد الله -ومن أصدق منه وعداً- فقال: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3]، أي مَن توكل على ربه ومولاه في أمر دينه ودنياه، بأن يَعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وفَعَل ما أمر به من الأسباب، مع كمال الثقة بتسهيل ذلك، وتيسيره (فَهُوَ حَسْبُهُ) أي: كافيه الأمرَ الذي توكل عليه به. (ينظر: تفسير السعدي (869).
إنها قاعدة قرآنية عظيمة، تملأ القلب يقيناً وطمأنينة.
واللافت للنظر أن هذه الآية (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) جاءت في سياق الحديث عن آيات الطلاق في سورة الطلاق، إلا أن معناها أعم وأشمل مِن أن يُختصر في هذا الموضوع، وآيات القرآن الكريم طافحة بالحديث عن التوكل، وفضله، والثناء على أهله، وأثره على حياة العبد.
لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يُربي أصحابَه على هذا المعنى العظيم، والعبادة القلبية الكبيرة، وينوّع في أساليبه كعادته، ومن ذلك أنه حدّثهم -صلى الله عليه وسلم- بقصة عجيبة -كما في البخاري- عن رجلٍ من بني إسرائيل، سأل أحداً أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أُشهِدهم، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: "اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلا، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك"، وأني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه.
ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة! ثم قَدِم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: "والله ما زلتُ جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنتَ بعثتَ إلي بشيء؟ قال: أُخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه! قال: فإن الله قد أَدّى عنك الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشداً" (البخاري ح2291).
لله درهما .. لا تدري أتعْجَب من تعظيمهما لله، أم من قوة توكل الأول؟ أم من كرم الثاني ومروءته!
أيها المسلمون:
إنّ التّوكّل على اللّه -عز وجل- مطلوب في كلّ شئون الحياة، بيد أنّ هناك مَواطن كثيرة ورد فيها الحضّ على التّوكّل والأمر به للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين! ورسائل القرآن وقصصُه -في تقرير هذا المعنى- واضحة:
1- إن طلبتم النّصر والفرج فتوكّلوا عليه: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 160].
2- إذا وصلت قوافل القضاء فاستقبلها بالتّوكّل: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التوبة: 51].
3- وإذا نصبت الأعداء حبالات المكر فادخل أنتَ في أرض التّوكّل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ)[يونس: 71].
4- وإذا خشيت بأسَ أعداء اللّه، والشّيطانَ والغُدّارَ فلا تلتجئ إلّا إلى باب اللّه: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[النحل: 99].
5- التوكل على الله هو الذي جعل إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- يقطع جميع التعلقات بالخلق -حين ألقي في النار- حتى جبريل لما جاءه يَعرض عليه المساعدة، فيقول: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم! حسبنا الله ونعم الوكيل!
واقتدى بالخليل سادةُ هذه الأمة، وعلى رأسهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين خُوّفوا بأعدائهم، وقيل لهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173] وما النتيجة؟ (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)، ثم تبيِّن الآية علةً وآفةً من أعظم أمراض القلوب، وهي الخوف من الخلق، وعلى رأسهم الشيطان وأولياؤه: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 174، 175].
6- التوكل على الله والثقة بحفظه، هو الذي جعل أم موسى تلقي ولدها في أشدّ الأماكن خطورة على طفل رضيع ولد منذ أيام: فيأتيها خبران مطمئنان، وبشارتان عظيمتان: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[القصص: 7].
7- التوكل على الله والثقة به، هي التي جعلت موسى قيل له: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قال بكل ثقة ويقين -والبحر أمامه والعدو من ورائه-: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 61، 62].
8- التوكل على الله حين سرت نسماته في قلوب السحرة -الذين آمنوا للتوِّ بموسى- قالوا بكل ثقة وثبات لأكبر طغاة الدنيا في عصره: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 72، 73].
فسبحان من ملأ قلوب أوليائه بالثقة به، والإعراض عما سواه، فكفاهم وآواهم. نفعني الله وإياكم بما سمعنا، بارك الله لي ولكم ... أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله:
ففي واقع الناس يَلحظ الإنسانُ أن ثمة حاجة وضرورة للتذكير بهذه العبادة في عصرٍ ضخّم الإعلام فيه الحديث عن الأسباب، وبالغ في ذلك، حتى اختفى أو كاد يختفي الحديثُ عن التوكل على الله، الذي لا يتم إلا بأمرين: تفويض تام، وفعل للمكن والمتاح من الأسباب.
تستمع لحديث شاب، أو تقرأ لفتاة، كلاهما يبحث عن وظيفة، فلا تكاد تسمع لفتةً إيمانية تتعلق بتفويض الأمر إلى الله -بعد فعل السبب-، بل لا يكاد يتجاوز حديثُه لغةَ الأرقام! وهذا أمرٌ لا يليق بالموحد.
وفي الترمذي وصححه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بِطانًا" (الترمذي ح(2344)، وصححه ابن حبان ح(730).
وقال علي -رضي الله عنه-: "يا أيها الناس، توكلوا على الله، وثِقوا به؛ فإنه يكفي ممن سواه" (التوكل على الله لابن أبي الدنيا، ص49).
قال أبو قدامة الرملي: قرأ رجلٌ هذه الآية: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) [الفرقان: 58]، فأقبل علي سليمانُ الخواص، فقال: يا أبا قدامة! ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله في أمره! ثم قال: انظر كيف قال الله -تبارك وتعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ)[الفرقان: 58]، فأعلمك أنه لا يموت، وأن جميع خلقه يموتون، ثم أمرك بعبادته، فقال: (وسبح بحمده) [الفرقان: 58]، ثم أخبرك بأنه خبير بصير، ثم قال: والله يا أبا قدامة، «لو عامل عبدٌ اللهَ بحسن التوكل، وصدق النية له بطاعته؛ لاحتاجت إليه الأمراء فمن دونهم، فكيف يكون هذا محتاجاً وموئله وملجؤه إلى الغني الحميد؟!» (التوكل على الله لابن أبي الدنيا، ص55).
قال أبو العالية الرياحي -أحد أئمة التابعين- "اجتمع إليَّ أصحاب محمد، فقالوا: يا أبا العالية، لا تتكلنّ على غير الله؛ فيَكلك الله إلى من اتكلت عليه" (التوكل على الله لابن أبي الدنيا، ص64)، ومَن تأمل في الواقع رأى ذلك بعين البصر والبصيرة.
أيها المسلمون:
إن مِن أعظم ثمرات التوكل:
راحةُ البال، وعدم القلق، فإن الإنسان المتوكل إنما يلجأ إلى الركن الركين، والحبل المتين: أوصى أحد العباد أخاه قائلاً: "إن فوضتَ أمرك إلى الله؛ اجتمع لك في ذلك أمران، قلت: ما هما؟ قال: قلة الاكتراث بما قد ضُمِن لك، وراحة البدن من مطلب ذلك، فأي حال أكبر من حال المطيع له، والمتوكل عليه كفاه الله بتوكله عليه الهم، وأعقبه الراحة".
وبعدُ أيها المسلمون:
فإن الحديث عن التوكل هو حديثٌ عن فعل الأسباب الممكنة، دون الركون إليها، وهذا بيِّن ظاهرٌ، لكن ينبَّه عليه؛ لأن بعض الناس قد يظن –خطأً- أن التوكل يعني تعطيل الأسباب! وهذا غلط بيّن، ومن تأمل قصة موسى عليه السلام لما واجه البحر، وقصة مريم عليها السلام لما ولدت، وغيرهم من الأولياء والصالحين؛ يجد أنهم جميعاً أُمِروا بفعل أدنى سبب، فموسى أُمِر بضرب الحجر، ومريم أُمِرت بهز الجذع، وما أحسن ما قيل: "الالتفاتُ إلى الأسباب بالكلية شركٌ منافٍ للتوحيد، وإنكار أن تكون أسباباً بالكلية قدح في الشرع والحكمة، والإعراضُ عنها -مع العلم بكونها أسباباً- نقصان في العقل، وتنزيلها منازلها، ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، هو محض العبودية والمعرفة واثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة".
قال الفاروق رضي الله عنه: إنما «المتوكل الذي يُلقِي حَبَّه في الأرض، ويتوكل على الله».
وقبل أن نختم حديثنا عن هذه القاعدة القرآنية: أود أن أنبِّه إلى ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله- مِن أن كثيراً من المتوكلين يكون مغبوناً في توكله!
وبيان ذلك -كما يقول-: أنك ترى بعض الناس يصرف توكَّله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، مع أنه يمكنه نيلها بأيسر شيء، وفي المقابل يَنسى أو يغفل عن تفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان، والعلم، ونصرة الدين، والتأثير في العالم خيراً، فهذا توكل العاجز القاصر الهمة، كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف، أو نصف درهم، ويدع صرفه إلى نصرة الدين، وقمع المبتدعين، وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين.
وهاهنا ملحظ مهم يُستفاد من كلامه -رحمه الله-: وهو أن الواحد منا -في حال نشاطه وقوة إيمانه- قد يقع منه نسيان وغفلة عن التوكل على الله؛ اعتماداً على ما في القلب من قوة ونشاط، وهذا غلط ينبغي التنبه إليه، والحذر منه، ومَن تأمل في أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم- وجده دائم الافتقار إلى ربه، ضارعاً إلى ربه أن لا يَكَله إلى نفسه طرفة عين، حتى ربى أمتَه على هذا المعنى في شيءٍ قد يظنه البعض بسيطاً أو سهلاً، وهو أن يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله" عند سماع المؤذن في الحيعلتين!
وقد أجمع العلماء على أن التوفيق: ألّا يكل اللّهُ العبدَ إلى نفسه، وأن الخذلان كل الخذلان: أن يخلي بينه وبين نفسه!
اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيتَه، واستهداك فهديتَه، واستنصرك فنصرتَه.