العربية
المؤلف | أحمد بن محمد العتيق |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحكمة وتعليل أفعال الله |
اعلموا أن من سنة الله في عباده: أن يبتلي بعضهم ببعض, ومن ذلك أن يكون بعضهم لبعض فتنة؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان: 20]. وهذا عام في جميع الخلق، كي تتمحّص درجة الصبر لديهم. فامتحنَ الرُّسُلَ بالمرسَل...
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-, واعلموا أن من سنة الله في عباده, أن يبتلي بعضهم ببعض, ومن ذلك أن يكون بعضهم لبعض فتنة, كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان: 20].
وهذا عام في جميع الخلق، كي تتمحّص درجة الصبر لديهم.
فامتحنَ الرُّسُلَ بالمرسَل إليهم، ودعوتهم إلى الحق، والصبر على أذاهم، وتحمُّلِ المشاقّ في تبليغهم رسالاتِ ربِّهم؟
وامتحنَ المرسَلَ إليهم بالرسُل؛ هل يطيعونهم، وينصرونهم، ويُصدّقونهم, أم يكفرون بهم، ويرُدّون عليهم، ويقاتلونهم؟
وامتحنَ العلماءَ بالجهّال؛ هل يعلِّمونهم، وينصحونهم، ويصبرون على تعليمهم، ونصحهم، وإرشادهم، ولوازم ذلك؟
وامتحن الجهالَ بالعلماء؛ هل يطيعونهم، ويهتدون بهم ويحترمون أقوالهم ويدافعون عنهم؟
وامتحن الملوك بالرعية، هل يتقون الله فيهم ويحكمون شرع الله فيهم ويكونون رحمة لهم, حريصين على كل ما فيه صلاح شأنهم في أمر دينهم ودنياهم؟
وامتحن الرعية بالملوك, هل يسمعون لهم ويطيعون في غير معصيةِ الله في المنشط والمكره والعسر واليسر مع لزوم جماعتهم وعدم الخروج عليهم, حتى لو رأوا الأَثَرَةَ عليهم والظُلمَ منهم, ولَمّا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه سيكون عليكم أمراء وسترون أَثَرَة" قالوا: فما يصنع من أدرك ذلك منا؟ قال: "أدُّوا الحق الذي عليكم, وسلوا الله الذي لكم".
كل ذلك حرصا على الجماعة، وانتظام الأمن، وحقن الدماء, فإن الناس قد يصادمون حكامهم طلبا لتحسين أحوالهم المعيشية, ولكن سرعان ما يُعَاقَبُون فتنقلب أحوالهم, فَبَدلاً من البحث عن تحسين أحوال المعيشة، ومستوى الدخل, أصبحوا يبحثون عن أي وسيلة تُحْقَنُ بها دماؤهم من أن تسفك, وأعراضَهم مِنْ أَنْ تُنْتَهَك, فعندها لا ينفع الندم.
وكذلك امتحن الله الأغنياء بالفقراء، هل يؤدون حق الله نحوهم من صدقة وكفالة وسعاية, وإغاثة ملهوف.
وامتحن الفقراء بالأغنياء، هل يصبرون حينما يرون نعمة الله وتوسعته عليهم, فيرضون بما قسمه الله بين عباده, فلا يلجأون إلى الوسائل المحرمة لبلوغ ما بلغه أولئك الأغنياء.
وكذلك امتحن الرجل بامرأته، هل يؤدي حق الله فيها، ويحسن إليها، ويعاشرها بالمعروف؟
وكذلك المرأة بزوجها هل تبره وتحفظ غيبته، فإنه جنتها ونارها.
وامتحن الرجال بالنساء، فإن فتنهن من أعظم الفتن، هل يغضون أبصارهم ويحفظون فروجهم ويبتعدون عن الوسائل المفضية إلى الوقوع في الفاحشة؟.
وكذلك النساء بالرجال هل يغضضن أبصارهن ويحفظن فروجهن ويلزمن الحجاب والبعد عن كل وسيلة تخدش في طهارتها وعفتها؟.
وكذلك امتحن الرجل بأولاده، ومن يعول في بيته, هل يرعاهم كما أمر الله أم يضيعهم؟
وامتحن الأولاد بوالديهم, هل يبرونهم ويحسنون إليهم؟
وامتحن المؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين.
وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم.
كل ذلك ليمتحن صبرهم وجهادهم في ذلك.
أيها المسلمون: ألا وإن من الفتن التي يُقَدِّرها الله على عباده, ما يَحِلُّ بهم من المصائب بسبب ذنوبهم أو إعراضهم.
فإن من أعظم علامات حياة القلوب: المراجعةَ والمحاسبة عند حلول البلاء والمصائب, وعدم إلقاء اللوم على الغير, سواء كانت هذه المصائب عامة أو خاصة, أياً كانت هذه المصائب -إقتصادية أو أمنية أو كارثية-.
والمراد بالمراجعة والمحاسبة: تذكر عقوبات الذنوب والمعاصي والتفتيش عن النفس وعيوبها؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, وقال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى: 30].
حتى لو كان لهذه المصائب أسباب ظاهرة, والأسباب الظاهرة لابد من علاجها وإصلاحها.
لكن لا يجوز نسيان السبب الأهم, ألا وهو النفس.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُون، وَأسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ، وسلمَ تسليماً كثيراً.
أَمّا بَعدُ:
عباد الله: إن ما نراه اليوم من تغير الأحوال الإقتصادية أوالأمنية أوالكارثية بسبب السيول وغيرها, لهو تحذير من الله للناس، وابتلاء لعلهم يتوبون ويرجعون، ويتهمون أنفسهم؛ لأن ذلك من أسباب رفع العقوبة عنهم وإصلاح حالهم، كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
وتأمّلوا قوله: (بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) [الروم: 41].
إذ لو أذاقهم بكل ما عملوا لهلكوا جميعا.
وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده.
وأما إذا نزل البلاء، وحلت المصائب، فلم تستيقظ منها القلوب، ولم تستقم الأحوال, وأصبح الناس يتساءلون أنى هذا؟ أو يلقون اللآئمة على غيرهم ويُبَرِّؤون أنفسهم، فإن ذلك لا يجدي شيئا, بل إنه سبب؛ لأن تحل عليهم مصيبة أعظم منها وأكبر, إِذْ كُلُّ مُصيبَةٍ لا تُوقِظُ القلوبَ، فإنه في الغالب لا بد وأن تَعْقُبُها مصيبةٌ أكبر منها, حتى يعترف الناس بذنبهم وتفريطهم في جنب الله، كما قال تعالى: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأعراف: 5].
أي الآن اعترفوا! ولكن تأخر اعترافهم بذنبهم, ولو أنهم بادروا بالإعتراف أولاً, وتركوا اغترارهم وتبرئتهم لأنفسهم وأعقبوا هذا الإعتراف بالتوبة وإصلاح الحال لرفعنا عنهم ما أصابهم, ولكن جاء الإعتراف متأخراً.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تُلبسه علينا فنضلّ يا أرحم الرحمين.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا في أعمالنا وأقوالنا، وجنبنا ما يسخطك علينا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها, دقها وجلها, أولها وآخرها, علانيتها وسرها.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل, ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها, أنت وليّها ومولاها.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين.
اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين.
اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المسلمين في كل مكان.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].