الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
1/ الإنسان اجتماعي بطبعه 2/ وجوب الإصلاح بين المتخاصمين 3/ بعض صفات المصلحين 4/ منزلة المصلحين وفضلهم 5/ جواز الكذب من أجل الإصلاح بين المتخاصمين 6/ حال المسلمين وواقعهم المرير 7/ إصلاح الله بين عباده يوم القيامة
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: الإنسان اجتماعي بطبعه, ولا يستغني عن احتكاكه بالآخرين, وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بيَّن لنا طبيعة الإنسان -ما عدا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بقوله: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ, وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" [رواه ابن ماجة عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-].
وعلى الإنسان المؤمن الصالح أن يكون صبوراً عند معاشرته للآخرين, وأن يتحمَّل أذاهم ويصبر عليهم ويغفر لهم زلاتهم, وذلك لقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي لا يُخَالِطُهُمْ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" [رواه الإمام أحمد عن ابن عمر -رضي الله عنه-].
كما يبين لنا سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بأن خير العباد من يصبر على أذى الآخرين ويبدؤهم بالسلام إن هجروه, فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ, يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا, وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ" [رواه مسلم عن أبي أيوب الأنصاري].
وهذا الأمر يحتاج إلى أن يكون العبد صابراً صبوراً, بل صبَّاراً.
أيها الإخوة الكرام: إسلامنا العظيم ما أراد من أتباعه أن يكونوا صالحين فقط, بل كلَّفهم بالإصلاح بين الآخرين, وحمَّل العبد الصالح الصبور هذه المهمة, فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10].
وقال جلَّت قدرته: (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ) [الأنفال: 1].
كما كلَّف ربُّنا -عز وجل- العبد الصالح أن يُصلح بين الأزواج إذا حصل نشوز بينهما, فقال تبارك وتعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 128].
فبيَّن ربنا -عز وجل- أن الصُّلح بكلِّ صُوره وأشكاله خير ما دام مبنياً على أساس من الكتاب والسنة.
وبيَّن لنا ربنا -عز وجل- بأنه لا خير في أحاديث النجوى إلا إذا كانت بإرادة خير ومعروف وإصلاح بين الناس, فقال تبارك وتعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 114].
فيا أيها العبد المؤمن الصالح الصابر المتحمل أذى الآخرين: لا تقتصر على صلاحك، بل كن مصلحاً بين عباد الله -تعالى- حتى تكون صمام أمان لأهل بلدتك, وتذكر قول الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].
وقد روى البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في الأوسط، عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوحى الله -عز وجل- إلى جبريل -عليه السلام- أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها، قال: فقال: يا رب إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين، قال: فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإنَّ وجهه لم يتمعَّر فيَّ ساعة قط".
وفي رواية للبيهقي أيضاً عن مالك بن دينار -رضي الله عنه- قال: "إن الله -عز وجل- أمر بقرية أن تُعذَّب, فضجت الملائكة، قالت: إن فيهم عبدك فلاناً، قال: أسمعوني ضجيجه، فإنَّ وجهه لم يتمعَّر غضباً لمحارمي".
لذلك -يا عباد الله الصالحين- لا تقتصروا على صلاح أنفسكم فقط بل كونوا مصلحين في المجتمع, آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.
يا عباد الله: إن العبد المصلح في المجتمع لا يكون مصلحاً إلا إذا كان مصطلحاً هو مع الله -تعالى-, وإلا إذا كانت صلته مع الله -تعالى- ممزَّقة فهذا عبد فاسد, والعبد الفاسد لا يكون مُصلحاً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
لذلك فالعبد الصالح هو من أصلح الحال فيما بينه وبين الله -تعالى-, ثم أصلح فيما بينه وبين خلق الله -تعالى-, حتى لا يكون متناقضاً مع ذاته, كيف يُقدِم على الإصلاح بين الآخرين وهو متصارم متدابر متقاطع مع الآخرين؟
الذي لا يُصلح فيما بينه وبين الآخرين لا يستطيع أن يُصلح بين الآخرين؛ لأن الناس ينظرون إلى سلوكه قبل أقواله, فإذا شاهدوا فيه التناقض سخروا منه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يقول: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [البقرة: 44].
ويقول جلَّ جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون) [الصف: 2 - 3].
فالمصلح صلته مع الله -تعالى- جيدة, وصلته مع الآخرين جيدة, المصلح أصلح الحال بينه وبين الله -تعالى-, وأصلح الحال بينه وبين الآخرين حتى صار أهلاً للإصلاح بين الآخرين, فالمصلح منسجم مع ذاته لا تتناقض أقواله مع أفعاله.
أيها الإخوة الكرام: إذا كان العبد صالحاً بذاته ولم يكن مُصلحاً في مجتمعه، فهذا خيره لازم لنفسه, والإسلام يريد من العبد الصالح أن يكون خيره متعدياً للآخرين, لا أن يكون خيره لازماً لنفسه فقط؛ لأن من تمام الخير نقل الخير للغير.
من هذا المنطلق كانت درجة المصلح بين الناس أعلى من درجة الصائم المصلي المتصدِّق؛ كما بيَّن ذلك سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بقوله: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى, قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ, فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ" [قَالَ أَبُو عِيسَى: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ"].
وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "هِيَ الْحَالِقَةُ, لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ" [رواه الترمذي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-].
أيها الإخوة الأحبة: نحن على يقين بأن الإسلام أمرنا بالصدق وحضَّنا عليه, وحذَّرنا من الكذب, وذلك لقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ, فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ, وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ, وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ, فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ, وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ, وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا" [رواه مسلم عن عبد الله -رضي الله عنه-].
ولكن هل تعلمون -يا عباد الله- بأن الله -عز وجل- رخَّص بالكذب من أجل الإصلاح بين العباد ما لم يترتب على ذلك ضياع حقوق؟
أخرج الإمام البخاري عن أُمِّ كُلْثُومٍ بنتِ عُقْبَةَ بن أَبي مُعَيْطٍ -رضي الله عنها- قالت: سمِعْتُ رسولَ اللهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- يَقُولُ: "لَيْسَ الكَذَّابُ الذي يُصْلحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمي خَيْراً، أَوْ يَقُولُ خَيْراً".
ويقول بعض العلماء: إن الله -عز وجل- أحبَّ الكذب في الإصلاح, وأبغض الصدق في الفساد.
أيها الإخوة الكرام: إن واقعنا مرير جداً حيث نرى الفساد والإفساد قائماً بين العباد إلا من رحم الله تعالى, هناك من يفسد بين الأزواج, وبين الآباء والأبناء, وبين الإخوة والأخوات, وبين الشركاء, وبين الجيران, وبين الأحباب والأصدقاء, وبين الحكَّام والمحكومين.
ويا حبذا لو أن الفاسد اقتصر على فساده, ولكن أبى إلا أن يكون مُفسداً لغيره -والعياذ بالله تعالى-, لذلك لزم علينا أن نكون صالحين مُصلحين, وكلما عظم الإيمان في قلب المؤمن ازداد حرصاً على إصلاح الآخرين, وكلما عظم الفساد في قلب الفاسد ازداد حرصاً على إفساد الآخرين.
أيها الإخوة الكرام: اسمعوا وصية سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- عندما يقول: "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم, فإن الله -تعالى- يصلح بين المسلمين" [رواه الحاكم عن أنس -رضي الله عنه-].
فإذا كان الحق -جلَّ جلاله- يصلح بين عباده يوم القيامة, فعلينا أن نكون من المصلحين, واسمعوا إلى ما يحدثنا به سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في الحديث الذي رواه الحاكم عن أنس -رضي الله عنه- يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي".
أيها الإخوة الكرام: قولوا للعبد الظالم تذكَّرْ قول الله -عز وجل-: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42].
تذكَّرْ قول الله -عز وجل-: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة: 6].
تذكَّرْ قول الله -عز وجل-: (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
قولوا للعبد الظالم والمظلوم: هذه الحياة الدنيا دار عمل لا جزاء, والآخرة دار جزاء لا عمل, فاصبر أيها المظلوم, يقول الله -تعالى-: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم: 42 - 43].
يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله -تبارك وتعالى- للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب فليحمل من أوزاري, قال: وفاضت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء، ثم قال: إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يُحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله -تعالى- للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه، فقال: يا ربِّ أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكلَّلة باللؤلؤ, لأيِّ نبيٍّ هذا؟ أو لأيِّ صِدِّيقٍ هذا؟ أو لأيِّ شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب فإني قد عفوت عنه، قال الله -عز وجل-: فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم, فإن الله -تعالى- يُصلح بين المسلمين" [رواه الحاكم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-].
يا عباد الله: كلَّما عظُم الإيمان في قلب العبد ازداد صلاحاً وإصلاحاً وكلما عظم الفساد في قلب العبد ازداد فساداً وإفساداً, فكونوا -يا عباد الله- صالحين مصلحين؛ لأن مجتمعنا بحاجة إلى الصالحين المصلحين؛ لأن الصالح إذا لم يصلح ذات البين فإن فساد المفسدين قد يناله.
عبادَ الله: إن المجتمع اليوم كاد أن يصبح الكلُّ عدواً للكلِّ -إلا من رحم الله تعالى- بسبب إفساد المفسدين, فكونوا صالحين مُصلِحين, أصلحوا بين الأزواج, وبين الآباء والأبناء, وبين الإخوة والأخوات, وبين الشركاء والأصحاب والأصدقاء, وأصلحوا بين الحكَّام والمحكومين, أصلحوا ذات البين حتى يكون المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, وإن لم نكن صالحين مصلحين فإن فساد المفسدين قد ينالنا -لا قدَّر الله تعالى-.
أقول هذا القول، وكلٌّ منا يستغفر الله, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.