القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
دين الإسلام -يا مسلمين- دين العزة؛ ولذا فقد حرم الإسلام على المسلم أن يهون أو يستذل أو يستضعف، ورمى في قلبه القلق والتبرم بكل وضع يخدش كرامته ويجرح مكانته، والإسلام يدع المؤمن مستقراً في المكان الذي ينبت العز ويهب الحرية الكاملة، والمؤمن واجب عليه أن يوفر هذه المعاني في بيئته، فإن استحال عليه ذلك فليتحول عن دار الهوان، ولينشد الكرامة في أي مكان: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل:28].
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الملك والملكوت، والعز والجبروت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي الذي لا يموت، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأذلة على المؤمنين، الأعزة على الكافرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد: هذا حديث أوجهه لك أنت يا من تجلس أمامي، أو يبلغك كلامي، إنه حديث لك أنت، فهل تدري من تكون؟!.
لا يهم أن تكون فلان بن فلان، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم، ولا يعنيني أن تكون من الأصل الفلاني أو البلد الفلاني، فقد خذلَت أبا لهب أصالته، وبلال عبد جاوز السحب.
إنه حديث لك أنت أيها المسلم، يا من تتبوأ أعلى مقام، وتتوشح أسمى وسام، إنه الانتماء إلى دين الإسلام؛ حينما أصبحت مسلماً فهذا يعني أنك تحمل منة من الله وتكريماً، وأي تكريم لك -أيها المسلم- أعظم من أن أنزل الله لك كتاباً يخاطبك فيه ويناديك؟ (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء:10].
وأي تكريم أجلّ من أن يرسل الله أعظم خلقه وأكرمهم عليه يزكيك ويهديك إلى صراط الله؟ (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164].
إليك أنت أيها المسلم، يا من قدْرك عند الله عظيم، ومكانتك بين الأمم سامية، "نحن الأولون والآخرون يوم القيامة".
لقد كرمك الله وأعلى شأنك يوم أن جعلك من خير أمة أخرجت للناس، لقد كرمك الله يوم أن جعلك شهيداً على الناس يوم القيامة، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة:143].
لقد كرمك الله يوم أن عظم حرمتك وصان دمك، (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء:93]. "ولَزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم"، ولحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة.
لقد كرمك الله يوم أن هداك للحنيفية السمحاء والدين الأكمل، الدين الذي يجازي على القليل كثيراً، ويتناسق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام:160].
كم أنت عظيم أيها المسلم! وكم أنت عزيز لو عرفت قدرك واتصلت بمن يعز ويذل ويخفض ويرفع!.
أنتم -أيها المسلمون- الأعلون على كل الأمم، عقيدتكم أعلى، فأنتم تسجدون لله وغيركم يسجد لشيء مِن خَلقه أو لبعض من خلقه، وشريعتكم أعلى، فأنتم تسيرون على شريعة الله وغيركم يسير على شرائع من صنع خلق الله، ودوركم الأعلى؛ فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وغيركم شارد عن المنهج ضال عن الطريق، ومكانكم في الأرض أعلى؛ فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وغيركم إلى الفناء والنسيان صائرون، فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص.
أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، فلماذا الوهن والضعف وتقديم التنازلات والظهور أمام العالم بمظهر المنهزم المتخاذل؟ ما بال هذه الأمة قد نكست أعلامها، وهزل جسمها، وأفلت الزمام من يدها؟ هل انقطعت الصلة بينها وبين سلفها وماضيها المشرق؟ أم أنها هجرت أسباب العزة وعوامل النصر؟.
أجل؛ حينما انحرفت الأمة عن طريق ربها وتحكيم شرعه في حياتها أصبحت أذل وأضعف أمة، لقد ظهرت النعرات الطائفية والعصبيات القبلية والنزعات العرقية، واعتزوا بغير الله، وافتخروا بالولاء للشرق والغرب، وهجروا كتاب الله المنقذ، وسنة النبي الهادي، فضرب الله عليهم الذل والهوان، فكان أن صاروا كما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن تتداعي عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها"، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
يوم أن كانت الأمة تفخر بدينها، وتعتز بإيمانها، وتربط نفسها بقوة الله التي لا تغلب؛ ويوم أن كانت الأمة ترفع راية الإسلام وتحكم القرآن، وتعلي راية الجهاد؛ يومها كانت للمسلمين مواقف في العزة، كانت نبراساً لمن ينشد العز والقوة.
خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعه أبو عبيدة، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له فنـزل عنها وخلع خفّيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: "يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك!" فقال عمر: "أوه! لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله".
في زمن العزة والقوة يدخل ربعي بن عامر إلى إيوان كسرى، معتمداً على رمحه، مخرقاً به السجاد والبسط، ويقف في عزة وشموخ قائلاً: "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
في زمن العز والشموخ، وحتى في أحلك الظروف وأقسى الأحوال، يمارس المسلمون سياسة الحزم والقوة، ويقفون بكل عزة وإباء في مواجهة أي دعوة للتنازلات، واستمع إلى هذا الموقف: في عزوة الأحزاب حيث زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وظن المؤمنون بالله الظنون، وابتلوا وزلزلوا زلزالاً شديداً.
في هذه الظروف القاسية الحرجة، فكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسيلة يخفف بها من محنة المسلمين، فأرسل إلى عيينة بن حصن وهو من الأحزاب قائلاً: "أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر الأنصار، أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب؟"، فأرسل إليه عيينة: إن جعلت لي الشطر فعلتُ.
فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فأخبرهما بذلك فقالا: "يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه؟ أم شيئاً أمرك الله به؟ أم شيئاً تصنعه لنا؟"، قال: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة!"، فقالا: "يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله! مالنا بهذا من حاجة! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم".
الله أكبر! هم الرجال وعيب أن يقال لمن لم يكن مثلهم رجل!.
إن إظهار اللين دائماً ليقال: إن المسلمين رحماء مسالمون. وإن التنازل عن المبادئ والثوابت ليقال: إنكم معتدلون وشريعتكم سمحة؛ ذلكم هو الفشل والضعف، وربما تفعل كلمة حازمة جازمة ما لا تفعله السيوف، وربما ترعب العدو وتضع له حداً، ونحن اليوم نرى بعض المسلمين يطلقون التصريحات اللينة، فلا تزيدهم إلا ضعفاً، ولا تزيد أعداء الإسلام إلا صلفاً وغروراً واستمراراً في الإيذاء والاستعداء.
دين الإسلام -يا مسلمين- دين العزة؛ ولذا فقد حرم الإسلام على المسلم أن يهون أو يستذل أو يستضعف، ورمى في قلبه القلق والتبرم بكل وضع يخدش كرامته ويجرح مكانته، والإسلام يدع المؤمن مستقراً في المكان الذي ينبت العز ويهب الحرية الكاملة، والمؤمن واجب عليه أن يوفر هذه المعاني في بيئته، فإن استحال عليه ذلك فليتحول عن دار الهوان، ولينشد الكرامة في أي مكان: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل:28].
إن اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو كبرياء إيمانه، وكبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان، إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان أو يوضع في مكان، أو يكون ذنَباً لإنسان، إنها كبرياء فيها الترفع على مغريات الأرض ومزاعم الناس وأباطيل الحياة، وفيها الانخفاض إلى خدمة المسلمين والتبسط معهم، واحترام الحق الذي يجمعه بهم، فيها إتيان البيوت من أبوابها، وطلب العظمة من أصدق سبلها.
العزة والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام وغرسها في أنحاء المجتمع، وتعهد ثمارها بما شرع من عقائد، وسن من تعاليم، وإليها يشير الفاروق عمر بقوله: "أحب من الرجل إذا سيم خطة خسف أن يقول بملء فيه: لا".
إن التكبير الذي نصدح فيه على منابرنا ونردده في منابرنا، ونكرره في صلواتنا، هو إعلان بيقين لا يهتز ولا يزيغ، بأن كل متكبر بعد الله فهو صغير، وأن كل متعاظم بعد الله فهو حقير.
أيها المسلمون: والإسلام عندما أوصى المسلم بالعزة هداه إلى أسبابها ويسر له وسائلها، وأفهمه أن الكرامة في التقوى، وأن السمو في العبادة، وأن العزة في طاعة الله؛ والمؤمن الذي يعلم ذلك ويعمل به يجب أن يأخذ نصيبه كاملاً في الحياة الرفيعة المجيدة، فإذا اعتدى عليه أحد أو طمع فيه باغ كان انتصابه للدفاع عن نفسه جهاداً في سبيل الله، وموت المسلم دون حقه شهادة، ومن عزة المؤمن ألا يكون مستباحاً لكل طامع أو غرضاً لكل هاجم، بل عليه أن يستميت دون نفسه وعرضه وماله وأهله، وإن أريقت في ذلك دماء فإن هذا رخيص لصيانة الشرف الرفيع.
لقد أخبر الله أن العزة له جميعاً، وأن من أسبابها ووسائلها القول الطيب والعمل الصالح: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [فاطر:10].
والعزة حق يقابله واجب، وارتكاب الآثام والتلطخ بالمعاصي هو سبيل السقوط والإهانة، ومزلقة إلى خزي الفرد والجماعة، (وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس:27].
والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس، حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله، حقيقة يستعلي بها على نفسه، يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة، ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس، ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه، فإنما تذل الناسَ شهواتهُم ورغباتهم ومخاوفهم ومطامعهم، ومن استعلى عليها فهو يستعلي على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان، وهذه هي العزة الحقيقة ذات القوة والاستعلاء والسلطان.
إن من أسبابِ العزة العفوَ والتواضعَ، ففي الحديث: "وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه".
ومن خلق المسلم أن يغفر إذا استغضبه من دونه، لكن من خلقه أيضاً أن يؤدب المجترئين عليه حتى يفل حدهم ويكسر شوكتهم: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) [الشورى:39].
وإن إحياء خلق الانتصار لازم ومهم؛ لئلا تعتاد الأمة قبول الذل، لا من فاسق يقهرها ولا من كافر ينحرها، لأن الأمة التي تعتاد السكينة أمام الظلم، والوداعة أمام الخسف والعسف، تفقد دافعية الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وتنعدم فيها روح الجهاد.
إن الناس يذلون أنفسهم، يقبلون الدنية في دينهم ودنياهم لواحد من أمرين: إما أن يصابوا في أرزاقهم أو في آجالهم، ولقد قطع الله سلطان البشر على الأرزاق والآجال جميعا: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) [الملك:20-21].
ذلك هو التوحيد الكامل، وذلكم ما يجب أن يستشفي به أولئك الضعاف المساكين، الذين يريقون ماء وجوههم في التسكع على الأبواب، والتمسح بالثياب، والزلفى على الأعتاب.
وإن القضاء -أخي المسلم- يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره، فكن عزيزاً ما دام لن يفلت من محتوم القضاء إنسان.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: إذا علمنا أن العزة مبدأ إسلامي، وخلق رفيع، فالذي يجب أن نعلمه أن العزة كلها لله، وليس شيء منها عند أحد سواه، فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره، ليطلبها عند الله الذي يملك وحده كل العزة، ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم وهم مثله طلاب محاويج ضعاف.
إن العزيز في الدنيا والآخرة هو من أعزه الله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26].
وبذلك تعلم ضلال من بحث عن العزة عند غير الله -تعالى-، وبغير طاعته والتزام نهج المؤمنين، فعادى رب العزة وشريعته، وحارب حزبه المؤمنين، ووالى أعداء الله من المشركين واليهود والنصارى وغيرهم، ظناً منه أن هذا هو سبيل العزة وطريقها! (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) [النساء:139].
ومع عظم الطاعة تزداد العزة، فأعز الناس هم الأنبياء، ثم الذين يلونهم من المؤمنين المتبعين لهم، وعزة كل أحد بقدر علو رتبته في الدين.
وإذا علمنا مكان العزة من الدين ومنزلتها في شريعة الإسلام، فإن من الواجب علينا أن نعلم أن من خوارمها الهزيمة النفسية، والاستسلام للواقع، والرضا بحياة الذل والهوان، والانبهار بقوة الأعداء المادية وحضارتهم الزائفة.
وإن مما يتنافى مع العزة: الخجل من الانتماء إلى الإسلام، والحياء من إظهار شعائر الدين وأحكامه.
وإن من خوارم العزة التشبه بأعداء الله في طرائقهم وتقاليدهم، ونظم حياتهم، فـ "من تشبه بقوم فهو منهم".
ألا وإن مما يقدح في عزة المسلم أن يقدم التنازلات لخصوم الإسلام وأعداء الدعوة، والانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عندما سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء، ولقد قال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) [الإسراء:73].
وأخيراً -أيها المسلمون- لا بد أن نربي أنفسنا أولاً، ثم أبناءنا والأجيال القادمة على معاني العزة، وربطهم بأسبابها ومصدرها0
إن من الخلل في التربية أن ينشأ أفراد المجتمع المسلم أذلة مستهانين يستجدُون أعداء الله، ويقفون بانبهار وإعجاب أمام حضارتهم الزائلة الزائفة، إن من واجب الآباء والمربين أن ينشئوا الأجيال على التخلق بعزة المسلم، من خلال ربطهم بالقدوات الحقيقية، بدءاً برسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- الذي يمثل العزة الحقيقية بأجلى وأسمى صورها، ثم تربية النشء على قصص السابقين واللاحقين ممن رسموا معالم العزة بأقوالهم وأفعالهم، وتعليمهم البطولات والمواقف الخالدة في سماء العز والشرف.
وإن من الأمور المهمة التي يجب أن يهتم بها المربون تعميق روح الجهاد بضوابطه الشرعية في نفسية الأبناء، وترسيخ معاني العزم والمصابرة في أفكارهم وقلوبهم ومشاعرهم، وذلك من خلال إشعارهم الدائم أن تحقيق العزة الإسلامية لا يكون إلا بالجهاد في سبيل الله، بأنواع الجهاد المالي والدعوي والتعليمي والقتالي، ويكون بخوض ميادين العمل والبناء، وترك البطالة والكسل، والإعراض عن حياة اللهو والترف، وإضاعة الأوقات بالسفاسف والتوافه، مع تذكيرهم بشكل دائم بمواقف أبناء السلف وصور من همم بعض شباب اليوم، ليتأسوا بهم ويمشوا على منوالهم.
كما ينبغي أن يهتم المربون بتحذير الأبناء من الانسياق وراء التقليد الأعمى بلا روية ولا تفكير؛ لأن التقليد دليل الهزيمة الروحية والنفسية، وعنوان ذوبان الشخصية، ولما في التقليد من تحطيم لشخصية المسلم، وتمييع لأخلاقه، وقتل لرجولته.
وإن من المؤسف -يا مسلمين- أن يساهم المجتمع في تأصيل الضعف نتيجة لضعف التأصيل، وذلك مما يتنافى مع مبدأ العزة الإسلامية، وإنه لأمر مرير أن يشارك أبناء المجتمع والطيبون منهم في زرع بذور الذل والهوان، واقتلاع جذور العزة والإباء من خلال الشائعات والإرجاف، وإيحاش القائلين بكلمة الحق!.
يتحدث داعية أو يتكلم واعظ في أمر من أمور الأمة، يقول فيه بكلمة الحق التي يجب أن تقال، فيتسارع الناس إلى تصنيف ذلك الكلام بأنه صريح وجريء، ومن ثم يكثرون من التساؤل عن مصير قائله في نفسه وهمسه وكأنه قال قولا عظيما، أو ارتكب خطأ وخيما، وأتى بما لم يأت به أحد من العالمين؛ فيشعر المتكلم بالوحشة والوجل وقلة المناصرين، فيدفعه ذلك إلى التراجع!.
أما إذا ابتلي في نفسه أو وظيفته أو منبره، فكم من قائل حينها: ليته سكت! وما أكثر العاذلين! وما أقل من يستشعر أن لتحقيق العزة ثمناً ولا بد فيه من تضحيات!.
إن مثل هذه المواقف الخائرة، والمصادمة لعزة المسلم تكوّن عند الناس شعوراً بأن قول الحق خلاف الأصل، وهذا بدوره يرسخ الشعور بالضعف والهوان عند المسلمين.
إن من واجبنا أن نصنع العزة الحقيقية بأنفسنا، بكلماتنا، بمواقفنا، بأفعالنا، بعيداً عن العواطف والانفعالات، وإنما عزة موصولة بعزة الله، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
فيا أيها الصالحون والمصلحون: اشمخوا بأنوفكم أمام دعاة الباطل وأرباب الشهوات، ولا يغرنكم جمعهم، ولا يخيفنكم مكرهم، فإنما يمكرون ويمكر والله خير الماكرين، ويكيدون كيدا ويكيد ربكم كيدا، وليُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلَّاب، وما كيد المنافقين إلا في تباب.
وإنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
ويا رجال الهيئة أهل الجلالة والهيبة: لا يستخفنكم الذين لا يوقنون، ولا يوهننكم تسلط المجرمين، فو الله لأنتم الأعلون، وأنتم الأعزة بعزة الله، وأنتم الغالبون بقوة الله، وعزتكم بعزة مبادئكم التي تنافحون عنها، فصبراً يا أبطال الهيئات! فقد أخبر ربكم: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون:8]. ووعد (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:173].
ويا أيتها المرأة المسلمة، يا ذات الستر والعفاف: لا يغرنك مكر الماكرين، ولا يضعف إيمانك سخرية الساخرين، فارتفعي بحجابك، واعتزي بعفافك، واشمخي بحيائك، فوالله! إنهم ينفقون ويبذلون ويألمون ويخططون ليصدوك عن سبيل الله؛ فستكون جهودهم عليهم حسرة ثم يغلبون، وفي النهاية سيكون النصر والتمكين لأهل الإصلاح والدين، والذلة والصغار والخسار للمنافقين والمفسدين، والله غالب على أمره ولكن المنافقين لا يعلمون.
اللهم صل وسلم...