السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
هذا التصنيف الوظيفي (متقاعد، وغير متقاعد) فرَضته أنظمة العمل، ليحل موظف بدل موظف آخر، ولكنه ليس حكماً على الإنسان بالموت، ولا منعاً له من العطاء في ميادين أخرى، فهو تصنيف لا يصح أبداً أن يسري إلى بقية حياة المتقاعد. ربما كانت نظرة المجتمع لهذه الفئة الغالية، وتقبُّل كثير من هذه الفئة واستسلامه لهذه النظرة له أثره في ما يُسمع أو يُرى من معاناة بعض أفراد هذه الفئة التي بذلت وأعطت فترة من الزمن! والواقع أن النصيب الأكبر يقع على ذات الشخص، وطريقة تعامله مع المتغيرات حوله، وفي طريقة تفكيره ونظرته للحياة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي كل سنة يتجدد حدثٌ ينبغي التوقف معه.. إنه حدث يمس بدرجة مباشرة عشرات الآلاف، ويمس مئات الآلاف بشكل غير مباشر.
يتكرر هذا الأمر، لأناس أفنوا زهرة شبابهم في أعمالهم، طلباً للعيش الكريم، وكفّاً للنفس عن سؤال الخلق، والسعي في تحقيق خلافة هذا الإنسان في الأرض بسنة النكاح والتناسل.
هاهم - بعد عشرات السنين - يحطون ركابهم، وينيخون مطاياهم، لينفكوا من ربقة الارتباط بعملٍ رسمي محدد الزمان والمكان.. إنهم فئة المتقاعدين.
وهناك أبيات للشافعي تصلح لهذا المقام:
يا واعِظَ الناسِ عَمّا أَنتَ فاعِلُهُ | يا مَن يُعَدُّ عَلَيهِ العُمرُ بِالنَفَسِ |
اِحفَظ لِشَيبِكَ مِن عَيبٍ يُدَنِّسُهُ | إِنَّ البَياضَ قَليلُ الحَملِ لِلدَنَسِ |
كَحامِلٍ لِثِيابِ الناسِ يَغسِلُها | وَثَوبُهُ غارِقٌ في الرِجسِ وَالنَجَسِ |
تَبغي النَجاةَ وَلَم تَسلُك طَريقَتَها | إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ |
رُكوبُكَ النَعشَ يُنسيكَ الرُكوبَ عَلى | ما كُنتَ تَركَبُ مِن بَغلٍ وَمِن فَرَسِ |
يَومَ القِيامَةِ لا مالٌ وَلا وَلَدٌ | وَضَمَّةُ القَبرِ تُنسي لَيلَةَ العُرسِ |
وقبل أربعة أيام أحيل أكثر من 23000 ثلاثة وعشرين ألف موظف حكومي على ما يسمى بنظام التقاعد، وقد انضموا إلى نحو من نصف مليون موظف حكومي سبقوهم في هذا الطريق حسب الإحصاءات الرسمية.
إنهم فئةٌ تستحق أن نتحدث إليها..، وأن نتذاكر معها ما هي عالمةٌ به، فالانتفاع بالذكرى ليس له سنٌّ معين، ولا زمن معين.
أيها الإخوة المؤمنون:
المؤكد أن (التقاعد) مرحلة نعيش جوها، إما ببلوغها أو بالعيش مع من بلغها؛ لتمضي سنة الحياة، ضَعفٌ ثم قوة ثم ضعف: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم:54] جيل يعقبه جيل، لتتم سنة الاستخلاف، وعمارة هذه الأرض.
هذا التصنيف الوظيفي (متقاعد، وغير متقاعد) فرَضته أنظمة العمل، ليحل موظف بدل موظف آخر، ولكنه ليس حكماً على الإنسان بالموت، ولا منعاً له من العطاء في ميادين أخرى، فهو تصنيف لا يصح أبداً أن يسري إلى بقية حياة المتقاعد.
ربما كانت نظرة المجتمع لهذه الفئة الغالية، وتقبُّل كثير من هذه الفئة واستسلامه لهذه النظرة له أثره في ما يُسمع أو يُرى من معاناة بعض أفراد هذه الفئة التي بذلت وأعطت فترة من الزمن!
والواقع أن النصيب الأكبر يقع على ذات الشخص، وطريقة تعامله مع المتغيرات حوله، وفي طريقة تفكيره ونظرته للحياة.
ولعلي -في هذا المقام- أقف بعض الوقفات التي أرجو أن تضيف شيئاً في هذا الموضوع الحيوي؛ لعل الله أن ينفع بها:
الوقفة الأولى:
إن لكل مرحلة من العمر جمالها.. فالتقاعد عن العمل الرسمي هو في حقيقته انتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى من العطاء، والعمل؛ إذ لا توقف في حياة العبد: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر:37].
وصاحب الهمة العالية إذا بلغ هدفاً، بحث عن هدف آخر مثله أو أعلى منه ليصل إليه، ولا يوقفه عن السباق إلى مجد الدنيا والآخرة إلا توقف نفسه، ولئن توقفت دورة الدوام الرسمي، فلن تتوقف عجلة النفع والانتفاع، بعمل صالح، وصدقة جارية.
لذا يجب أن يُفهم كلام العلماء -الذين يتحدثون عن الاستعداد للآخرة- على وجهه، فحينما يؤمر صاحب هذه السن بالذات بالإقبال على الله تعالى، والدار الآخرة، فهذا لا يعني صورةً محددة من الطاعة، فالعبادات (كالصلاة وقيام الليل، وقراءة القرآن، والصدقة، والصيام، والحج والعمرة) كلها لون من ألوان القربات، والجهاد بالمال، والنفس لون من ألوان القربات، والتصدي لحل مشكلات الناس لونٌ، والشفاعة لمن يحتاجها عند المسئولين لونٌ، المهم أن يجتهد في عمارة وقته بكل قربةٍ يستطيعها، وهذا ما فهمه أهل الإيمان من الأوائل والأواخر.
مِنْ منا لا يعرف ذلك الشيخ الذي ضعفت قواه، وقارب التسعين، ويدير أعمالاً أثقلت كاهل عشرات الشباب، ولكنه يعمل بروحٍ لا تعرف الكلل، دأب في العلم والعمل، ونفعِ الخلق حتى آخر لحظة من لحظات حياته؟ إنه الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز -رحمه الله-.
لم يكن سبب ذلك -كما يظن البعض- علميةُ الشيخ، فمن العلماء من يصيبه ما يصيب كثيراً من الناس بسبب طريقة نظرته لهذه المرحلة، فالقضية هي حياة الروح، وحملُ الهم، وهذا قدرٌ مشترك بين الناس كلهم، لا يختص به مسلم دون كافر.
وإني لأعرف رجلاً بلغ الثمانين، وهو قريب من مرتبة العوام في العلم، ولكنه يحمل شيئاً يسيراً من العلم، فبعد أن تقاعد قرر أن يبلّغه، أخذاً بحديث: "بلّغوا عني ولو آية"، فطاف البلاد، وهو شيخ كبير يقاد بعربة رحمه الله رحمة واسعة.
وأعرف رجلاً قرر أن يحفظ القرآن بعد أن تقاعد فحقق مراده.. إنها حياة الروح..
وإذا كانت النفوس كبارا | تعبت في مرادها الأجسام |
الوقفة الثانية:
بلوغ هذه السن نعمةٌ عظيمة من الله ينبغي شكرها واستثمارها، فإن الفَسْحَ في أجل المؤمن خيرٌ له، فهو فرصةٌ للتزود من الأعمال الصالحة -الدينية والدنيوية-.
دخل سليمان بن عبد الملك المسجد، فرأى شيخاً كبيراً، فدعا به، فقال: يا شيخ! أتحب الموت؟ قال: لا، قال ولِمَ؟! قال ذهب الشباب وشرّه، وجاء الكبر وخيره، فإذا قمتُ، قلت: بسم الله، وإذا قعدت، قلت: الحمد لله! فأنا أحب أن يبقى لي هذا.
فانظر كيف قلبَ هذا الشيخ نظرته للحياة، فقد نظر إليها نظرة إيجابية، فهي فرصة للتزود، وملء خزائن الآخرة بمثل هذه الأذكار التي تدل على تعلق بالله.
ولما وقعت إحدى الفتن -في زمان التابعين- قال أحدهم لصاحبه: يا فلان طاب الموت! فقال له: يا ابن أخي! لا تفعل، لساعةٌ تعيش فيها تستغفر الله، خيرٌ لك من موت الدهر.
ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تمنِّي الموت بسبب ما يصيب الإنسان من مصائب وآلام، فقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً".
الوقفة الثالثة:
بلوغ هذه المرحلة يعني تجاوز سنّ الأشد -وهو الأربعين- بعشرين سنة، وهذا ما يجعل العبد المؤمن يفكر كثيراً في نصيبه من هذه الآية الكريمة: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف:15].
قال بعض المفسرين: وفي هذا دليل على أن اشتغال الإنسان بطاعة الله يقوى في هذا الوقت، ففي الأربعين تناهى العقل، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه.
صبا ما صبا، حتى علا الشيب رأْسَه *** فلما علاه، قال للباطلِ: ابعدِ
الوقفة الرابعة:
دينك دينٌ عظيم.. فلم يقصر العبادة على لون معين، أو طريقة خاصة، بل قد جعل الله فرصاً في التعبد تناسب أحوال الإنسان من صحة ومرض، وحل وترحال، وقوة وضعف.
سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت، فدلني على عمل أتشبث به؟ فيقول له الناصح الرءوف الرحيم -صلى الله عليه وسلم-: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله عز وجل" (رواه الترمذي وأحمد، وسنده صحيح).
وأَجَلُّ أنواع الذكر القرآن، ونعم الصاحب هو للشيب والشباب، ولكنه في حق الشيب له شأن آخر!
الوقفة الخامسة:
ما أجمل العطاء، وفي مثل هذه السن خصوصاً! إنه ينبئ عن فقهٍ صحيح لحقيقة هذا المال الذي عما قريب سينتقل إلى الورثة! فمَالُ الإنسان ما قَدَّمَ، ومالُ وارثِه ما أخَّرَ، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فإن كنت ممن وسّع الله عليك، ورزقك من فضله، فكم هو جميل أن تبادر إلى تثبيت صدقةٍ جارية لك، يمتد أثرها لك من بعد موتك.. بادر بها أنت الآن، فلعلك ترى ثمرتها قبل أن تموت، ولا تمهل، وتقول: سأوصي الأولاد أن ينفذوها، فخير البر عاجله، والوصية قد يعتري تنفيذها ما يعتريه، والإنسان عندما يريد السير في طريق مظلمة فإنه يجعل السراج أمامه لا خلفه.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
الوقفة السادسة:
تجاوز الستين من العمر، يعني شيئاً آخر، ألا وهو الدخول إلى معترك المنايا، ففي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره -بسند حسن- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك".
وأبلغ من هذا ما ثبت في البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- -قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة".
قال العلماء في بيان قوله: "أعذر الله امرئ": أي: أزال الله عذره، فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة، والإقبال على الآخرة بالكلية، ولا يكون له على الله عند ذلك حجة، وحاصل المعنى: أن الله –تعالى- أقام عذره في تطويل عمره، وتمكينه من الطاعة مدة مديدة.
وقال بعض العلماء: "إنما كانت الستون حدّاً لهذا؛ لأنها قريبة من المعترك، وهي سن الإنابة والخشوع، وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار، لطفاً من الله بعباده، حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم، فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فُطِرُوا على حب الدنيا وطول الأمل، لكنهم أُمِرُوا بمجاهدة النفس في ذلك؛ ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة، وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية.
وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل".
وختاماً.. أذكرك -متعك الله بالصحة والعافية- بما بدأت به أسطري هذه: إن هذا التصنيف الوظيفي (متقاعد، وغير متقاعد) فرضته أنظمة العمل، ولكنه ليس حكماً على الإنسان بالموت، ولا منعاً له من العطاء في ميادين أخرى، فهو تصنيف لا يصح أبداً أن يسري إلى بقية حياة المتقاعد.