الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
لا شيء أشرح لصدر العبد من محبة الله -عز وجل- والإنابة إليه، والإقبال عليه، والتنعم بعبادته، وكلما ازداد العبدُ منها زاد أُنسه بالله، وانشرح صدرُه، وبضد ذلك؛ فإن مِن أعظم أسباب ضيق الصدر، والقلق: الإعراضُ عن الله، وتعلقُ لقلب بغيره، والغفلةُ عن ذكره، ومحبةُ ما سواه، فإن مَن أحب شيئاً غيرَ الله عُذّب به، وسُجِن قلبُه في محبة ذلك الغير، وكم شاهد الناسُ من هذا عِبَراً! هذا متعلّق بحبيب! وآخر بحبيبة! وثالث بمال! ورابع بمنصب! حتى صرفتْهم تلك التعلقات عن الله، فكانت سبباً في شقوتهم،...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي شرح صدور المؤمنين وفضّلهم على الخلق طرًّا، ونوّر بصائرَ المتقين بمشاهدة حِكَمِ شرعه وبديع صنعه مِنّةً منه وفضلاً، وألزمهم كلمةَ التقوى وكانوا أحق بها وأهلها.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له هدى بما أنزل على رسوله أقواماً، وزاد بعضَهم به طغياناً وكفراً، فكانوا أضيق الناس صدراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرفعُ الخلق ذِكراً، وأشرحهم صدراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة الكبرى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الرب -جل وعلا-، فما خاب من اتقاه، ولا شَقِي من قام بما أمره به ربُّه ونهاه.
عباد الله: لا يكاد يمر على الواحدِ منا اليومُ إلا وهو يسمع من بعض الناس كلمةً بل كلمات توحي بالملل والسآمة، وتُشعِر بالهم والغم من عيشته وحياته، نسمع هذه العبارات في عصر الحواسيب والطائرات ووسائل الراحة التي لا يأتي عليها الحصر..
عجيب هذا!! وأعجب منه أنه مع ظهور هذه الوسائل وازديادها ظهر في مقابلها مستشفيات الأمراض النفسية، وازداد القلقُ عند أناسٍ كثيرين، حتى إن بعض المفكرين سمى عصرَنا هذا: عصر "القلق"، فيا سبحان الله! أليست هذه الأشياء كفيلةً بإيجاد الراحة وانشراح الصدر؟!
وجواباً على هذا التساؤل يُقال: لا وألف لا، ما دام الإنسانُ معرِضاً عن أمر ربه، وبحسب إعراضه يكون ضيقُه وحرج صدرِه، وإليكم البرهان: لقد كان سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- باتفاق المسلمين أعظمَ الناس سعادةً، وأشرحهم صدراً، مع أنه كان يمر الهلالُ والهلالان والثلاثةُ - أي شهران تقريباً - وما يُوقَد في أبياته نار!
بيوت مَنْ هذه؟! إنها بيوت أعظم رجلٍ عرَفه التاريخ! وليس هذا فحسب؛ بل كان يَظَل يومَه يلتوي ما يجد دَقَلاً يملأ به بطنه - والدَّقَل: هو التمر الرديء الذي يجعله كثيرٌ من الناس اليوم للبهائم -! ومات بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- وما شَبِع من خبزٍ وزيت في يومٍ واحد مرتين. (صحيح مسلم ح: 2974).
ومات -عليه الصلاة والسلام- ودوابّه التي يركبها حمار أو بعير..! مات ولم يركب سيارة ولا طيارة، ولم يملك أرصدة فلكية في البنوك.. مات ولم يسكن قصرًا منيفاً، بل لم يعش عُشر ما نعيشه اليوم من رفاهية وراحة.
ومن المقطوع به أنه حصل له من انشرح الصدر وطيب العيش ما لم يحصل لمن ملكوا أعظمَ العقارات، وركبوا أفخم السيارات، وسكنوا أوسع وأجمل القصور، فلماذا؟
إن الجواب سهل ويسير: إنه الإيمان، وتوثيق الصلة بالرحيم الرحمن، الذي لا سعادة ولا انشراح للعبد إلا بالقرب منه، مصداقاً لقوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97].
أيها الإخوة: إذا كان الأمر كذلك؛ فحقٌّ على الناصح لنفسه أن يبحث عن الأسباب الحقيقية لشرح الصدر، وهي - بحمد الله - كثيرة، يلحظها من له أدنى تأمّل في الكتاب والسنة، ومن أعظمها:
1- توحيد الله تعالى: فبحسب كمال توحيد العبد وقوّته وزيادته يكون انشراحُ صدره، ذلك أن المؤمن كلما ازدادَ عِلمه بما يجب لله –تعالى- من التوحيد، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ كان أكثر خوفاً من الله، وأشد تعظيماً له، وآتاه الله نوراً في قلبه يُبصر به الشبهات فيدحضها، والشهواتِ فيدفعها.
تأمل الفرق بين من قال الله عنه: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)[الزمر: 22]، وبين من قال عنه: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 125].
ومِن أعظم ما يعين على تحقيق المراتب العالية من هذا التوحيد، هو السبب الثاني من أسباب شرح الصدر، وهو:
2- العلم: والمراد به العلم الشرعي، الموروث عن محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو العلم النافع الذي كثُر مدحُ أهله في الكتاب والسنة، إذ هم أهل الخشية، وبحسب نصيب أهل العلم من العمل بهذا العلم والدعوة إليه يكون انشراحُ صدورِهم، وانظر في سير العلماء الذين انتفعت الأمةُ بعلمهم، كيف كانوا أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم عيشاً، مع قلة ذات يد البعض منهم!
وتأمل أخي في كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حينما سُجن ظلمًا فقال: "فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب، ما يصنع أعدائي بي، إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"؟!
وكان يقول في محبسه بالقلعة: "لو بذلتُ لهم ملء هذه القلعة ذهبًا ما عَدَل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير". ونحو هذا.
وأبلغ من هذا في وصف حال ابن تيمية ما ذكره تلميذُه ابن القيم عنه حيث يقول: "وعَلِم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا، تلوح نضرةُ النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتدَّ بنا الخوف، وساءت مِنّا الظنون، وضاقت بنا الأرضُ أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كلُّه، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً! فسبحان من أشهد عبادَه جنتَه قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من رَوحِها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قُواهم لطلبها، والمسابقة إليها" (ينظر في النقول السابقة: تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون: 1/96).
وهذا العلم - عباد الله - من بركاته أنه يَقود إلى السبب الثالث من أسباب شرح الصدر، ألا وهو:
3 - محبة الله -عز وجل-: بكل القلب والإنابة إليه، والإقبال عليه، والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، وكلما ازداد العبدُ منها زاد أُنسه بالله، وانشرح صدرُه، وبضد ذلك؛ فإن مِن أعظم أسباب ضيق الصدر، والقلق: الإعراضُ عن الله، وتعلقُ لقلب بغيره، والغفلةُ عن ذكره، ومحبةُ ما سواه، فإن مَن أحب شيئاً غيرَ الله عُذّب به، وسُجِن قلبُه في محبة ذلك الغير، وكم شاهد الناسُ من هذا عِبَراً! هذا متعلّق بحبيب! وآخر بحبيبة! وثالث بمال! ورابع بمنصب! حتى صرفتْهم تلك التعلقات عن الله، فكانت سبباً في شقوتهم، وصدق الله إذ يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124].
4- وذكر الله عز وجل: مِن أعظم أسباب شرح الصدر، كيف لا! وخالق هذه الصدور العالم بما يُؤنسها ويَشرحها يقول: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب)[الرعد: 28]، فمَن لم يطمئن قلبُه بالذكر، ولم يرتح لسماع الآيات والعظات؛ ففي قلبه مرضٌ ولا شك، فليبادر إلى علاجه في مشافي القرآن والسنة، وإلا: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين)[الزمر: 22].
عباد الله:
5 - والإحسان إلى الخلق: ونفعُهم بما يَقدر عليه الإنسانُ مِن جاهٍ أو مالٍ أو بدَنٍ أو غيرها من أنواع الإحسان؛ كل ذلك من أسباب شرح الصدور، ولا تكاد ترى كريماً محسناً إلا وتجده منشرح الصدر، طيب البال، وبعكس ذلك البخيل بماله أو جاهه أو غيرهما؛ فله من نكد العيش وعِظَمِ الهمّ نصيبٌ وافر.
6- تطهير القلب من أمراضه: كالحسد والحقد والنفاق، فإن هذه الصفات إذا وُجدت في القلب لم يَكَد يَنتفع بما ذَكَرنا، إلا كما يُنتفع باللبن إذا خالطه الماءُ الكثير الذي يُفسِده، بل وجودها منافٍ لكمال التوحيد، وبعيد عن آثار العلم.
7- التقليل من الكلام والأكل والنوم والمخالطة الزائدة عن حدها: فإن هذه الأشياء - وإن كانت مباحة - إذا زادت عن حدّها المعقول أورثت في القلب قسوة، وفي البدن ثقلاً عن الطاعات، وفي الصدر ضيقاً وحسرة، فأما إن وقع الشخصُ في المحرم من هذه الأمور، كالغيبة والنميمة والكذب، والنوم عن الواجبات، أو النظر إلى المحرمات؛ فلا تسأل عن القسوة حينها، إن كان في القلب حياة! وإلا: فما لجرح بميتٍ إيلامُ.
8- العفو عن الخلق: فإن الحقد غمامةٌ سوداء تُظِلُّ القلب، وسحابة كئيبة تُخيّم على الصدر، مؤذِنةٌ بأمطارٍ من الهمّ والنكد، حتى إذا ما عفى الإنسانُ عن أخيه، وعمن أخطأ عليه؛ رفعه الله، وزاده عزّة، وانشرح صدرُه، حتى ربما بكى من أثر انقشاع تلك الغمامة: "وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه"(صحيح مسلم ح: 2588).
نفعني الله وإياكم بهديه، وصلى الله وسلم علة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
8 - فإن من أعظم أسباب شرح الصدر، ودفع القلق: أن يكون الإنسان قويّ القلب، لا يستسلم للأوهام ولا ينفعل لها، ولا ينزعج من الخيالات التي متى استسلم لها أحدثت له الخوفَ من كل شيء، والغضبَ من أتفه الأسباب، وجعلَته يتوقّع حدوثَ المكاره في كل حين، وامتلأ قلبُه بالهموم والغموم والأمراض القلبية والبدني.
وهذا كله يزول ويضمحل ويتلاشى إذا اعتمد القلبُ على الله، وتوكّل عليه، ولم يستسلم لأوهامه وخيالاته السيئة، ووثِق بالله وطمع في فضله؛ حينئذ يندفع عنه بذلك الهمومُ والغمومُ، وتزول عنه كثيرٌ من الأسقام القلبية والبدنية، ويحصل للقلب سرور وانشراح لا يمكن التعبير عنه.
وبضد هذا: فإن التفكير في هموم الماضي، والتكدّر منها، والاسترسال في ذلك غمٌّ على غم، يتذكر الإنسانُ شخصاً ظلَمه، وآخر اعتدى عليه، أو مصيبةً حلّت به! ولو فكّر المؤمنُ أن هذا كله لا يزيده إلا حزناً وهماً، مع أنه لن يغير من القدر شيئاً؛ لأعرض عنه وتَركه، ولهذا كان من أعظم مزايا عيش أولياء الله في الدنيا والآخرة أنهم: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[يونس: 62].
فهم لا يخافون من المستقبل، ولا يحزنون على الماضي، ولقد كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الهم والحزن، وأرشد أمّته بوصية عظيمة فقال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل" (صحيح مسلم ح: 2664).
فانظر - رعاك الله - كيف جمع طبيبُ القلوب -صلى الله عليه وسلم- في هذه الوصية القصيرة العظيمة "بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة على كل حال، والاستعانة بالله، وعدم الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار، وبين الاستسلام للأمور الماضية النافذة التي لا حيلة فيها، ومشاهدة قضاء الله وقدَره.
وجعل الأمور قسمين: قسماً: يمكن العبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه، أو دفعه أو تخفيفه، فهذا يُبدي العبد فيه مجهوده، ويستعين بمعبوده، وقسماً: لا يمكن فيه ذلك، فهذا يطمئن له العبد، ويرضى ويسلّم، فمن راعى هذا الحديث وجعله نبراساً سَعِد، وزال عنه من الهمّ والغمّ شيءٌ كثير" (بتصرف من كلام ابن سعدي في "الوسائل" 2/488. من مراجع الخطبة: زاد المعاد 2/23، خطب ابن سعدي (207)، الوسائل المفيدة لابن سعدي 2/491).
اللهم أصلح فساد قلوبنا، واشرح صدورنا، ونور أفئدتنا، ويسر أمورنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين