البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أهل السنة والجماعة |
يقول ابن القيم في معنى التواضع: أن يتلقى [الإنسان المتواضع] سلطان الحق بالخضوع له، والذل والانقياد والدخول تحت رقه، بحيث يكون الحق متصرفا فيه تصرف المالك في مملوكه؛ فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع؛ ولهذا فسر النبي الكبْر بضده فقال: "الكبر بطر الحق وغمص الناس".
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إكمالا لموضوع الأسبوع الماضي، قلنا إن الحق هو ما تضمن الدليل الصحيح من غير التفات إلى كثرة المقبلين أو قلة المعرضين، فالحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق؛ والحق -كذلك- ما كان متفقا مع المنطق، والفطرة السليمة، والعقل الراجح. وقد تقدم تفصيل ذلك فيما مضى.
حديثنا اليوم عن موقفنا من الحق إذا جاءنا. ما هو موقفنا من الحق إذا جاء بمواصفاته التي عرفناها؟.
إن من سمات الرشد في الإنسان قبول الحق، وإن الناس أمام هذه السمة على قسمين: منهم من يحب الحق ويقبله مهما كان، على نفسه أو الوالدين أو الأقربين يقبله، ومنهم من ينتقي من الحق ما وافق هواه ويرفض ما دون ذلك حتى لو تبين له، كما قال -سبحانه-: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور:48-49].
حديثنا اليوم -إن شاء الله- عن أسباب رفض الحق.
أيها الإخوة: الاعتداد الكبير بالعقل، والاستكبار على ما لا يتفق مع العقل ولو كان نصا شرعيا، مرض من أمراض الكِبْر؛ الكبر يؤدي إلى رفض حق، الكبر داء مخيف يصنع حاجزا من الرفض في كل مستكبر، يقول عنه -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، قال رجل: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة"، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق، وغمط الناس"، وفي رواية: "وغمص الناس"، أي: احتقار الناس.
بطر الحق: رفضه وإنكاره، العلو والاستكبار الذي يجعلك ترفض الحق هذا هو الكبر، مرض قلبي، إذ إن القلب تكتنفه أمراض معنوية كثيرة هي أشد خطرا من الأمراض الحسية: البخل، الحسد، الريبة، الغل. ومن أخطرها الكبر. وإذا مرض القلب بمرض الكبر رفض صاحبه الحق بحسب استفحال هذا المرض في قلبه.
وعكس الكبر التواضع، والتواضع حالة صحية جميلة للقلب، وهو خلق محمود؛ لأن فيه تسليما للحق.
انظر كيف نفى الله الكبر عن من أذعن من الحق من رهبان نصارى الحبشة: يقول -سبحانه-: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) [المائدة:82-85]. إذاً؛ نجاهم خلق التواضع من الاستمرار في الشرك، بل أورثهم جنة الخلد من الله -عز وجل-.
يقول ابن القيم في معنى التواضع: أن يتلقى [الإنسان المتواضع] سلطان الحق بالخضوع له، والذل والانقياد والدخول تحت رقه، بحيث يكون الحق متصرفا فيه تصرف المالك في مملوكه؛ فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع؛ ولهذا فسر النبي الكبْر بضده فقال: "الكبر بطر الحق وغمص الناس". انتهى كلام ابن القيم، رحمه الله.
فبطر الحق رده وجحده، والدفع في صدره، كأن للحق صدرا، يقول: في صدره كدفع الصائل، وغمص الناس: احتقارهم وازدراؤهم، ومتى احتقرهم وازدراهم دفع حقوقهم، وجحدها، واستهان بها.
من أهم أنواع التواضع: التواضع للدين، ألا يعارض نصا من كتاب أو سنة بعقله، التواضع للدين والانقياد لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وعدم الاستسلام والإذعان والإخبات أكبر سبب لضلال إبليس، وغالب المشركين... كقوله -تعالى-: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)، فاليقين في قلوبهم موجود، لكنهم جحدوا هذا اليقين وجحدوا ذلك الحق ظلما وعلوا وكبرا، وقوله -تعالى-: (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام:33].
أيها المسلمون: لقد جعل الله -تعالى- للحق هيبة كبيرة حتى يخفض المؤمنون له رؤوسهم وتخبت له قلوبهم؛ ولذلك جعل الحق اسما من أسمائه، فقال -سبحانه-: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور:25]، وقال -تعالى-: (رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ)، وقال -أيضا-: (اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ).
ولأجل مهابة الحق جعله الله مقدما، وأمر الناس أن يقدموه وأن يتبعوه، قال -تعالى-: (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس:35]، كيف تجعلون الله الذي يهدي للحق كالوثن الأعمى الأصم الذي يُهدَى ولا يهدِي؟ لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا! (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
وبين أن من سمات العلم النافع الإخبات للحق: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الحج:54].
لكن؛ ما زال كثير من الناس -رغم ذلك- لا يرون للحق هيبة، فإما يرفضون الحق كله أو يرفضون منه ما خالف أهواءهم أو خالف مصالحهم، عفانا الله وإياكم من ذلك!.
ومن أسباب رفض الحق -بعد الكبر- ضعف الإيمان، وضعيف الإيمان لا يقر على حال، فساعة يغلب في قلبه باعث الشهوة فيرفض الحق، وساعة يغلب باعث الدين فيلين للحق، وهكذا؛ لذلك، ترى ضعيف الإيمان له أوبات وأوبات هنا وهناك.
ومن الناس من لا يخضع للحق وينيب إليه إلا في الشدائد إنابة اضطرار لا إنابة اختيار، قال ابن القيم في وصفه لهم: "فإن أناب أحدهم ساعة بالذكر والدعاء والابتهال فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه، فهو ينيب ببعضه ساعة ثم يترك ذلك مقبلا على دواعي نفسه وطبعه".
ومن أسباب رفض الحق بعد الكبر وضعف الإيمان: الجهل، وهو على نوعين: إما أن يكون الإنسان جاهلا بخطورة هذا الخُلُق: "الكبر ورفض الحق"؛ فيستهين بالحق ويستصغر الأمر، وإما أن يكون جاهلا بحقيقة المسألة التي يرفضها ذاتها أو الأمر ذاته.
النوع الأول هو المشكل، أما الثاني فهو أمر طبيعي؛ لأن كثيرا من الناس لا يقبلون الحق لجهلهم أنه الحق، فمتى ما تبين لهم قبلوه.
أما الأول فهو يعرف الحق، ولكن لا يقبله لجهله بمدى قبح الطبع وخطورة الإثم.
من أسباب رفض الحق: أسلوب صاحب الحق؛ ولذلك وصى الله -تعالى- نبيه موسى وأخاه -عليهما السلام- أن يخاطبا فرعون المتكبر بأسلوب لين حتى لا تأخذه العزة بالإثم فيستكبر؛ ذلك أن الكبر الذي في قلب فرعون لا يكسره -إن كسره شيء- إلا الأسلوب اللين...: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44].
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آية في خلق اللين وخلق الحلم، فبهما -بعد الله تعالى- استجاب الناس لدعوته، بين الله -تعالى- أن اللين كان سببا لإقبال الناس على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ).
ومن أسباب رفض الحق "التعصب"، والتعصب في الجملة مذموم إلا أن يكون لحق قطعي ثابت كدين الإسلام، أو عقيدة التوحيد، أو حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو سنة الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، دون أن يؤدي هذا التعصب إلى ظلم أو حيف، ودون أن يحمل التعصب صاحبه على رفض الحق أو قول الباطل، أو اتخاذ موقف ظالم، أو بخس لحق ما، حتى لو حصل من وراء ذلك إعزاز دين أو منهج، فالإسلام لا يعز بباطل، ولا ببخس حقوق: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8].
ولهذا أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالحق حتى لو جاء من الشيطان، كما في حادثة أبي هريرة -رضي الله عنه- عندما قال له الشيطان: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صدقك، وهو كذوب، ذاك الشيطان" أخرجه البخاري.
التعصب للرأي أو لعالم ما أو لقريب أو قبيلة أو جماعة أو مذهب أو غير ذلك بحيث ينتصر لهم أو يعادي من أجلهم ويوالي من أجلهم ولو بغير حق تعصب جاهلي أحمق، كما قال دريد:
ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ | غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشدْ غَزِيَّةُ أَرْشدِ |
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، ولما سئل عن نصره وهو ظالم قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره".
فلنستجب للحق إذا تبين؛ فإنها علامة المسلم في هيئتها الراشدة.