البحث

عبارات مقترحة:

الطيب

كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...

الرقيب

كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

الجميل

كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...

أين شبابنا من الاقتداء بهذا (مصعب بن عمير)

العربية

المؤلف محمد بن مبارك الشرافي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. أهمية القدوة الصالحة .
  2. تأملات في حياة مصعب بن عمير .
  3. أول سفير في الإسلام .
  4. حاجة الشباب للقدوة الصالحة . .

اقتباس

مَعَنَا هَذَا الْيَوْمَ سِيرَةُ فَتًى خَالَطَ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ وَذَاقَ حَلَاوَةَ الدَّينِ فَتَرَكَ مِنْ أَجْلِهِ الدُّنْيَا وَمَلَذَّاتِهَا، وَاخْتَارَ الآخِرَةَ عَلَى تِجَارَةِ أُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَبَرَ لَمَا خَالَطَ فُؤَادَهُ حُبُّ الآخِرَةِ وَجَنَّتِهَا. أَيْنَ مَنْ يَقْتَدِي بِمُصْعَبَ وَأَيْنَ مَنْ يَنْتَهِجُ نَهْجَ الصَّحَابَةِ عِلْمَاً وَعَمَلاً وَدَعْوَةً؟ أَيْنَ مَنْ يَنْتَشِلُ نَفْسَهُ مِنَ الانْغِمَاسِ فِي الشَّهَوَاتِ الْفَانِيَةِ وَاللَّذَّاتِ الْكَاذِبَةِ؟ أَيْنَ مَنْ يَرْتَقِي بِنَفْسِهِ إِلَى ذُرَا الْمَجْدِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ طَالِبَاً لِلْعِلْمِ، مُعَلِّمَاً لِلنَّاسِ الْخَيْرَ؟

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِين الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَفْضَلِ رُسُلِهِ وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الْأَمِين، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبَهِ حَمَلَةِ لِوَاءِ الدِّين، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالدُّعَاةِ وَالصَّالِحِين، وَعَلَى كُلِّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّين، وَسَلِّمْ تَسْلِيمَا كَثِيرَا.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَتَعَلَّمُوا سِيرَةَ أَصْحَابِ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقْتَدُوا بِهِمْ، فَإِنَّ قَصَصَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ تَزِيدُ الْإِيمَان، وَمآثِرَهُمْ تَرْفَعُ الْهِمَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَجَمَعَنَا بِهِمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيم.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَعَنَا هَذَا الْيَوْمَ سِيرَةُ فَتًى خَالَطَ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ وَذَاقَ حَلَاوَةَ الدَّينِ فَتَرَكَ مِنْ أَجْلِهِ الدُّنْيَا وَمَلَذَّاتِهَا، وَاخْتَارَ الآخِرَةَ عَلَى تِجَارَةِ أُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَبَرَ لَمَا خَالَطَ فُؤَادَهُ حُبُّ الآخِرَةِ وَجَنَّتِهَا.

إِنَّهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ من بني عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، يُكَنَّى: أَبَا مُحَمَّدٍ، وَكَانَ فِي صِغَرِهِ فَتًى مَكَّةَ شَبَابَاَ وَجَمَالاً، وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ تَكْسُوهُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ، وَكَانَ أَعْطَرَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ يُرَى بِمَكَةَ أَحْسَنَ لَمَّةَ وَلا أَنْعَمَ مِنْهُ.

بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو فِي إِلَى الإِسْلامِ، فَأَتَاهُ فَصَدَّقَهُ وَأَسْلَمَ، وَكَتَمَ إِسْلامَهُ خَوْفًا مِنْ أُمِّهِ وَأَقَارِبِهِ، فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِرًّا يَتَعَلَّمُ مِنْهُ الدِّينَ وَيَسْمَعُ القرآن، فَبَصُرَ بِهِ أَحَدُ أَقَارِبِهِ وهو يُصَلِّي، فَأَخْبَرَ أُمَّهُ وَقَوْمَهُ بِذَلِكَ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ نَاشِرَةً شَعْرَهَا رَافِعَةً صَوْتَهَا نَادِبَةً حَظَّهَا.

وَقَالَتْ: لا أَلْبَسُ خِمَارًا وَلا أَسْتَظِلُّ وَلا أَدَّهِنُ وَلا آكُلُ طَعَامًا، وَلا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى تَدَعَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْمَعْ لِكَلَامِهَا وَلَمْ يُجِبْ طِلْبَتَهَا، وَثَبَتَ عَلَى دِينِهِ وَبَقِيَ عَلَى إِسْلَامِهِ, حَتَّى خَرَجَ مُهَاجِرَاً الْهِجْرَةَ الأُولَى إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ رَجَعَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعُوا، وَهُوَ مُتَغَيِّرُ الْحَالِ مُتَقَشِّفٌ، قَدْ بَدَا عَلَيْهَ الْإِنْهَاكُ وَشَظَفِ الْعَيْشِ، وَلَكِنْ مَنْ خَالَطَتْ بَشَاشَةُ الْإِيمَانِ قَلْبَهُ اسْتَغْنَى بِهَا عَنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمُلْهِيَاتِهَا.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَسْلَمُ مُصْعَبُ بْنُ عُمْيَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَكَانَ لَهُ الشَّرَفُ أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَعَ أَنَّهُ زَالَ عَنْهُ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ لَذَائِذِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا، إِلَّا أَنَّهُ عَاشَ عِيشَةَ الْمُؤْمِنِ الصَّابِرِ الزَّاهِدِ، فَجَاعَ وَتَعَذَّبَ فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَشْرِ دَعْوَتِهِ. بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِأَهُمُ الْقُرْآنَ، وَيُعِلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَيُفَقِهَهُمْ فِي الدِّين.

أَيَّهُا الشَّبَابُ: إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- غَدَا دَاعِيَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ وَتَرْكِ الْوَثَنِيَّةِ، فأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ  الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِهَمَا رَجُلَانِ كَانَ لَهُمَا الأَثَرُ الْبَالِغُ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ وَحِمَايَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ هَاجَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِلَيْهَا، إِنَّهُمَا أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

 كَانَ مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَدْ نَزَلَ عَلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ أَحَدِ أَشْرَافِ الْخَزْرَجِ، وَأَحَدِ النُّقَبَاءِ الذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ بِمَكَّةَ، فَكَانَا يَخْرُجَانِ إِلَى مُجْتَمَعَاتِ النَّاسِ وَمُنْتَدَيَاتِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمُ مُصْعَبٌ الْقُرْآنَ، فَخَرَجَ ذَاتَ مَرَّةٍ مَعَ أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ بَنِي النَّجَّارِ مَعَهُمَا رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

فَجَاءَ مَنْ أَخْبَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَأُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، "وَكَانَا سَيَّدَا الْأَوْسِ" بِأَنَّ الدَّاعِيَةَ الْمَكِّيَّ قَدْ نَزَلَ قَرِيبَاً مِنْ دِيَارِهِمَا، وَأَنَّ الذِي جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ: لا أَبَا لَكَ يَا أُسْيَد: انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الْفَتَى الْمَكَّيِّ الذِي جَاءَ بُيُوتَنَا لِيُغْرِيَ ضُعَفَاءَنَا وَيُسَفِّهَ آلِهَتِنَا، وَحَذِّرْهُ مِنْ أَنْ يَطَأَ دِيَارَنَا بَعْدَ الْيَوْمِ، وَلَوْلا أَنَّهُ فِي ضِيَافَةِ ابْنِ خَالَتِي أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَأَنَّهُ يَمْشِي فِي حِمَايَتِهِ لَكَفَيْتُكَ ذَلِكَ.

أَخَذَ أُسَيْدٌ حَرْبَتَهُ وَمَضَي نَحْوَ الْبُسْتَانِ، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ مُقْبِلَاً قَالَ لِمُصْعَبَ: وَيَحْكَ يَا مُصْعَبُ، هَذَا سَيَّدُ قَوْمِهِ وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلَاً: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَإِنَّهُ إِنْ يُسْلِمْ تَبِعَهُ فِي إِسْلَامِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَاصْدُقِ اللهَ فِيهِ، وَأَحْسِنْ عَرْضَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ.

فَجَاءَ أُسَيْدٌ حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْجَمْعِ، وَالْتَفَتَ إِلَى مُصْعَبَ وَصَاحِبِهِ وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَى دِيَارِنَا وَأَغْرَاكُمَا بِضُعَفَائِنَا؟ اعْتَزِلا هَذَا الْحَيَّ إِنْ كَانَ لَكُمَا بِنَفْسَيْكُمَا حَاجَة!

فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ بِوَجْهِهِ الْمُشْرِقِ بِنُورِ الإِيمَانِ، وَخَاطَبَهُ بِلَهْجَتِهِ الصَّادِقَةِ، وَقَالَ: يَا سَيَّدِ قَوْمِهِ، هَلْ لَكَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْلِسُ إِلَيْنَا وَتَسْمَعَ مِنَّا، فَإِنْ رَضِيتَ مَا قُلْنَاهُ قَبِلْتَهُ, وَإِنْ لَمْ تَرْضَهُ تَحَوَّلْنَا عَنْكُمْ وَلَمْ نَعُدْ إِلَيْكُمْ! قَالَ أُسَيْدٌ: لَقَدْ أَنْصَفْتَ، فَرَكَزَ رُمْحَهُ فِي الْأَرْضِ وَجَلَسَ.

فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ يَذْكُرُ لَهُ الْإِسْلَامَ وَجَمَالَ التَّوْحِيدِ وَقُبْحَ الشِّرْكِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَانْبَسَطَتْ أَسَارِيرُهُ وَأَشْرَقَ وَجْهُهُ وَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الذِي تَقُول، وَمَا أَجْمَلَ ذَلِكَ الذِي تَتْلُو! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَفَرِحَ مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالَ لَهُ: تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثِيَابَكَ وَتَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولَ اللهِ وَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَقَامُ أُسَيْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى بِئْرٍ فَتَطَهَّرَ بِمَائِهَا، وَشَهِدِ شَهَادَةَ الْحَقِّ  وَصَلَّى رَكَعَتَيْنِ، ثُمَّ انْطَلَقَ رَاجِعَاً، وَبَقِيَ مُصْعَبٌ وَأَسْعُدُ بْنُ زُرَارَةَ مَكَانَهُمَا.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: ثُمَّ إِنَّ أُسَيْداً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَجَعَ وَقَدْ وُلِدَ مِنْ جَدِيدٍ، رَجَعَ وَقَدْ نَبَذَ الْوَثَنِيَّةَ وَاسْتَبْدَلَ حُبَّ الْأَصْنَامِ بِطَاعَةِ الرَّحْمَن, رَجَعَ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلَاً - وَكَانَ يَنْتَظِرُهُ - قَالَ: أَحْلِفُ بِاللهِ لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ أُسَيْدُ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الذِي ذَهَبَ بِهِ!

فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ فَكَلَّمَانِي بِكَلَامٍ رَقِيقٍ، وَزَعَمَا أَنَّهُمَا سَيَتْرُكَانَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ سَمِعُوا بِمَكَانِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَاجْتَمَعُوا لِقَتْلِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِحْقَارَكَ وَهُوَ ابْنُ خَالَتِكَ، فَإِنْ كَانَ لَكَ بِهِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكْهُ، فَوَثَبَ سَعْدٌ وَأَخَذَ الْحَرْبَةَ مِنْ يَدَيْ أُسَيْدٍ وَقَالَ: مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ عَنِّي شَيْئَاً، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَاءَهُمَا وَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَمِّتَا.

وَقَدْ قَالَ أَسْعَدٌ لِمُصْعَبَ حِينَ رَأَى سَعْدَاً: هَذَا وَاللهِ سَيِّدُ مَنْ وَرَاءَهُ، إِنْ تَابَعَكَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ اثْنَانِ مْنْ قَوْمِهِ، فَأَبْلِ اللهَ فِيهِ بَلَاءً حَسَنَاً، فَلَمَّا وَقَفَ سَعْدٌ قَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: أَجِئْتَنَا بِهَذَا الرَّجُلِ يُسَفِّهُ شَبَابَنَا وَضُعَفَاءَنَا؟ وَاللهِ لَوْلَا الرَّحِمُ بَيْنَنَا مَا تَرَكْتُكَ وَهَذَا!

فَلَمَّا فَرَغَ سَعْدٌ مِنْ مَقَالَتِهِ قَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوْ تَجِلْسُ فَتَسْمَعَ؟ فَإِنْ سَمِعْتَ خَيْرَاً قَبِلْتَهُ وَإِنْ خَالَفَكَ شَيْءٌ أَعْفَيْنَاكَ، قَالَ: أَنْصَفْتَ، فَرَكَزَ حَرْبَتَهُ ثُمَّ جَلَسَ، فَكَلَمَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَتَلا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ.

فَقَالَ سَعْدٌ: مَا أَحْسَنَ هَذَا! نَقْبَلُهُ مِنْكَ وَنُعِينُكَ عَلَيْهِ، كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا دَخَلْتُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَكَ وَتَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ وَتَرْكَعُ رَكَعَتَيْنِ، فَفَعَلَ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ ثُمَّ كَانَ سَبَبَاً فِي إِسْلَامِ قَوْمِهِ، وُكُلَّ هَذَا بِفَضْلِ اللهِ ثُمَّ بِدَعْوَةِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالِمِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مُصْعَبَاً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَقِيَ يَدْعُو النَّاسِ إِلَى اللهِ حَتَّى هَاجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدِمَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ الْمَدِينَةَ، فَلازَمَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَحَضَرَ مَعَهُ غَزْوَةَ بَدْرٍ الْكُبْرَىَ، ثُمَّ كَانَ حَامِلَ لِوَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ التِي نَالَ الشَّهَادَةَ فِيهَا.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: بَدَأَتْ مَعَرْكَةُ أُحُدٍ وَكَانَتِ الدَّوْلَةُ وَالنَّصْرُ فِي أَوَّلِهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ لَمَا حَصَلَتْ مُخَالَفَةٌ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَعْضِ الْرُّمَاةِ صَارَتْ الدَّوْلَةُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ الذِي أَصَابَهُ ابْنُ قَمِئَةَ اللَّيْثِي، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الشَّبَهِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قُتِلَ مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شَهِيدَاً فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفَارَقَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَذُقْ مِنْ مَلَذَّاتِهَا شَيْئَاً، وَلَكِنْ نَرْجُو اللهَ لَهُ الْمَلَذَّاتِ التِي لا تَنْقَطِعُ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ التِي وَعَدَ اللهُ الْمُتَّقِينَ.

رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ، -رَضيَ اللَّه عنهُ- أَنَّهُ أُتِيَ بطَعامٍ وكانَ صائِماً، فقالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيرٍ، رضيَ اللَّه عنه وهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَه مَا يُكَفَّنُ فيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ إِنْ غُطِّيَ بِها رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاُه، وإِنْ غُطِّيَ بِهَا رِجْلاه بَدَا رأْسُهُ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ.. وقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنا عُجِّلَتْ لَنا. ثُمَّ جَعَلَ يبْكي حَتَّى تَرَكَ الطَّعامَ.

أَيُّهَا الشَّبَابُ: أَيْنَ مَنْ يَقْتَدِي بِمُصْعَبَ وَأَيْنَ مَنْ يَنْتَهِجُ نَهْجَ الصَّحَابَةِ عِلْمَاً وَعَمَلاً وَدَعْوَةً؟ أَيْنَ مَنْ يَنْتَشِلُ نَفْسَهُ مِنَ الانْغِمَاسِ فِي الشَّهَوَاتِ الْفَانِيَةِ وَاللَّذَّاتِ الْكَاذِبَةِ؟ أَيْنَ مَنْ يَرْتَقِي بِنَفْسِهِ إِلَى ذُرَا الْمَجْدِ  وَمَعَالِي الْأُمُورِ طَالِبَاً لِلْعِلْمِ، مُعَلِّمَاً لِلنَّاسِ الْخَيْرَ؟

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمَاً نَافِعَاً وَعَمَلاً صَالِحَاً اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلمينَ وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعَدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينَ.

اللَّهُمَّ أعطنا ولا تحرمنا اللَّهُمَّ أكرمنا ولا تُهنا, اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَليْنَا اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا, اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَيْشَ السُّعَدَاءِ, وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ، وَالحَشْرَ مَعَ الأَتْقِيَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ.

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ صَحَابَتِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعيِهِم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ وَمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.