الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
ما أجمل التريّث في شأن الطلاق إن كره الرجلُ من زوجته شيئاً، فيمسكها بمعروف إلى أن ينظر في الأمر، ويقلِّب النظر، ويستشير أهلَ الخبرة في مثل هذه الأمور، حتى إذا ما عزم على الطلاق كان قرارُه ناضجاً، صادراً عن قناعة تامة، ودراسةٍ شاملة، فيسرّحَها بإحسان، ويفارقَها بالمعروف؛ امتثالاً...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل من كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل همٍ فرجاً، وجعل بعد العسر يسراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنعِم به رباً، وأكرِم به مشرِّعاً.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربُّه للرسالة مبلّغاً، وللأمانةِ مؤدّياً، فعاش حياتَه في سبيل ذلك صابراً محتسباً، مجاهداً مبيّناً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلَهم ما بقي في الكونِ لله ذاكراً، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فما أن يَشعر الوليُّ براحةٍ تامة عندما يَزف موليتَه إلى رجلٍ كُفء، إلا ويبدأ معه همٌ آخر؛ ألا وهو: همُّ التوفيق في الحياة الجديدة، ولعل أكبر شبحٍ يلوحُ في خاطر الأب، هو: شبح الحلال البغيض: الطلاق.
ومع الاعتراف بأن الطلاق قد يكون رحمةً وفرجاً في بعض الأحيان، إلا أنه ليس هو الأصل، فما شُرِعَ النكاح إلا ليدوم، وليحقِّق مقاصدَه في تحصين الزوجين، وقيامِ السكن بينهما، وطلب الذرية الصالحة، وحصول التواصل والتعارف بين الأُسَر والقبائل، وغير ذلك من المصالح العظيمة.
ولا أدلّ على رغبةِ الإسلام في ديمومة الزواج من تضييقه لفُرَص الطلاق على الزوج، فحرّم الطلاقَ في الحيض، وحرّم جمْع الثلاث دفعةً واحدةً، وحرّم على الزوج أن يطلّق زوجتَه في طهرٍ جامَعَها فيه، وحرّم عليه أيضاً -إذا طلّق زوجتَه الطلاقَ الرجعيَّ- أن يُخرِجَها من البيت إلا أن تأتي بفاحشةٍ مبيِّنة، وعلَّل ذلك بقوله: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق: 1].
وأمرَ الزوجَ -إذا رأى من زوجته ما يكره- أن يَعِظها، فإن لم ينفع الوعظُ هجرها في الفراش فقط، فإن لم تُجْدِ هذه الأساليبُ لجأ إلى الضرب غير المبرح.
ومع هذه الحواجز الكثيرة التي وضعها الشرعُ أمام الطلاق، وهي في الوقت نفسه فرصٌ كثيرة للمراجعة، وفَتْحٌ لأبواب الأمل في استثارةِ عواطف المودّة، وتهدئةِ رياح الشِّقاق.. ومع هذا كله إلا أن المتأمل في أحوال كثيرٍ من المتزوجين -وخصوصاً في السنوات الأخيرة- يجد أنه يأبى أن يستفيد من هذه الفرص الكثيرة، فيستعجِل ويبادِر إلى اتخاذ قرارِ الطلاق من غير تأملٍ ولا تروٍ، فصرتَ لا تستغرب -هذه الأيام- أن تسمع أن فلاناً طلّق في الليلة الأولى، وآخر في اليوم التالي، وثالث بعد أسبوع!
وبحسب إحصائياتِ وزارة العدل السعودية، فقد بلغت نسبةُ حالاتِ الطلاق عام 1435هـ نسبةً مخيفة، حيث بلغت نسبةُ الطلاق ما معدّله: حالةُ طلاقٍ كل خمس ساعات! ولا ريب أن هذه النسبة مخيفة ومقلقة جداً، وآثارُها الاجتماعية والأمنية تحتاج إلى تعاونٍ من الجميع.
والمهم هنا -ونحن نشهد حالاتِ زواجٍ كثيرة هذه الأيام- أن ننظر في أهمّ أسبابِ استفحالِ هذه الظاهرة، التي قضتْ على بيوتٍ زوجيةٍ في مَهْدها، علّها أن تُساهم في كبحِ جماحِ هذه القرارات غير المدروسة، والتي ترتَّب عليها مفاسدُ كثيرة، ومن ذلك:
1- جهلُ الزوجين أو أحدهما بما على كل واحدٍ منهما من الحقوق، وما عليه من الواجبات، فيحصل التقصير، وتُنتهك الخصوصيات، ثم يترتب على ذلك مشاكلُ كثيرة.
2- التقصير من الطرفين في السؤال عن الآخر، إما اعتماداً على ثناء الآخرين، أو لغير ذلك من الأسباب، فإذا تم الزواجُ تكشّفت أمورٌ لا تُحْمد، كان يمكن معرفتها بالسؤال والتحري.
3- الجهل بطبيعة النفس البشرية، فترى بعضَ الأزواج يطلب من الآخر -بلسان حاله أو مقاله- أن يكون كما يريد في تصوراته، ومشاعره، وسلوكياته! وفي هذا تجاهلٌ لسنةٍ من سُنن الله في الأنفس، وهي أن العلاقة الزوجية -في الأصل- إنما تقوم على التخالف وليس على التماثل.
4- تدخّل أهل الزوجين في حل المشكلات من أول مرّة، وعند أدنى مشكلة ولو كانت صغيرة! والمشاهد أن هذا يزيد الأمر تعقيداً.
5- الترف الذي تربّت عليه كثيرٌ من الفتيات، فهي خرجت من بيتِ أهلها وهي لا تعرف الطبخَ، ولا إدارةَ المنزل، ولا كيفيةَ التعامل مع الطوارئ، وتريد من زوجها المكبّل بالديون، أن يُسكّنها في أحسن بيت، ويُحضِر لها خادمة، في سلسلة من الطلبات التي تُثقل كاهِلَه، وربما وصفته بالبخل، يتبع ذلك رغبةٌ في كثرة الخروج، والتباهي أمام الصديقات بما لديها من مظاهر الترف!
هنا يجد الزوجُ نفسَه أمامَ تحدٍ لا يُطيقُه، فلا يجد أحسنَ من التخلص من هذه الزوجة المترفةِ التي لم تعْتد تحمّلَ أدنى مسؤولياتِ الحياة الزوجية، ولا تقف طلباتُها عند حدّ.
6- أن من الأزواج من يريد استعراضَ عضلاته، ويُظهر قوةَ سيطرته على المرأة، فيتعامل معها بفوقية، وأساليبَ تصلح للعسكرية لا للحياة الزوجية، فتضيق المرأةُ ذرْعاً بهذا، مما يجعلها تطلب الطلاق.
7- أن بعض الأزواج -بسبب هذا الانفتاح الإعلامي- يضع في ذهنه صورةً لزوجته، مقارنةً بما يراه في الأفلام والمسلسلات، فإذا دخل عليها وجد خلافَ ما تصوَّر؛ فيُسقَط في يده!
وفي المقابل: بعضُ الزوجات يضعنْ صورةً افتراضية للزوج، مقارنة بما تراه أو تسمعه في الفضائيات، فإذا قارنت أُسقِط في يدها.
8- ومن الأسباب: العجلة والتهور في إطلاق كلمة الطلاق لأتفه سبب، وأدنى موقف؛ فهذا يطلق زوجته لأنه اختلف مع صاحبه في أمر حقير فيحلف أحدهما أو كلاهما بالطلاق حانثاً، أو يستضيف ضيفاً، فيحلف بالطلاق إلا حضر، فيأبى الآخر، فتكون النتيجة خرابَ بيتٍ، وتمزيقَ أسرة، وتشريدَ أولاد.
9- ومن الأسباب: أن بعض الأزواج وبعض الزوجات يضخّم التوافه، ويجعلها كأنها قضايا مصيرية، فهذا يطلقُ زوجتَه لأن الملح زاد في الطعام أو نقص، أو لأن القهوة تأخّرت عن الضيوف قليلاً!
وفي مقابل ذلك: زوجةٌ تَغضب لأن زوجها لم يسافر بها كما سافرت أختُها للبلد الفلاني، أو لأن أثاث البيت لم يُغيَّر من بضع سنوات!
أيها المسلمون: ومن الأسباب:
10- غيابُ مبدأ الحوار بين الزوجين، وفرضُ الرأي بالقوة من كلا الطرفين أو أحدهما، وإن كان هذا يَكثر في جانبِ الرجال؛ فكم شكت النساءُ من بعض الأزواج الذين يمارسون فرضَ هيبَتهم وأوامرِهم بالتهديد والوعيد، فتجد أحدَهم لا يَعرف في كلامه إلا ألفاظ الطلاق في مدخله ومخرجه، وفي أمره ونهيه، وما علم أنه بذلك ممن اتخذ آياتِ الله هزواً! فلا هو أرضى ربَّه، ولا حافظ على بناء أسرته، بل هدم بيتَه، وخسر أهلَه.
إن الحكيم حقاً هو من يدفع أهلَه للقيام بما يريد بدافعِ المحبة والتقدير والاحترام، بل والرغبةِ في الأجر والثواب من الله، وكم هو الفرق بين من تخدِم زوجَها وتنفّذ أوامرَه خوفاً وهلعاً، وبين من تخدِمه محبةً واحتراماً!
وحسبك -أيها الزوج- أن تتأمل في قصة الإفك جيداً، ولك أن تتصور مشاعرَ رجلٍ عاديٍّ يتحدث الناسُ في بلده أن زوجتَه متَّهمَة -مجرد تهمة- بالفاحشة! فما ظنُّك إذا كان المتَّهم هو أتقى الخلق وأنقاهم صلى الله عليه وسلم؟
ومع ذلك كله، يحاور زوجتَه: "أما بعد، يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً فسيبرّئك الله، وإن كنت ألمَمتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه،..." في قصة طويلة مشهورة [رواها البخاري ح(2661)، مسلم ح(2770)، وتتمة الشاهد: "قالت عائشة -رضي الله عنها-: فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقالته قَلُصَ دمعي، حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما قال! فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-! فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-! فقلت -وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيراً من القرآن- : إني والله لقد عرفتُ أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدّقتم به، فإن قلت لكم: إني بريئة -والله يعلم أني بريئة لا تصدِّقوني بذلك- ولئن اعترفتُ لكم بأمرٍ والله يعلم أني بريئة لتصدقونني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، قالت: ثم تحولتُ فاضطجعتُ على فراشي].
هكذا يقرر صلى الله عليه وسلم مبدأَ الحوار، ويقدّر الظرفَ النفسيَّ الرهيب الذي يَعصف بزوجته الصغيرةَ السنّ، الكبيرةَ العقل، فلم يعاتبها على ردِّها، بل ولا على تحوّلها واضطجاعِها على فراشها وتحولها إلى الجدار.
والسؤال الذي نوجّهه لكل زوج: كم هي نسبةُ ضخامةِ المشاكل التي تمر بحياتك الزوجية بالنسبة لمشكلة تُهمة الفراش النبوي؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
11- فمن أسباب الطلاق: غيابُ ذلك الأصل العظيم الذي تقوم عليه الحياة الزوجية - عند كثير من المطلِّقين- ألا وهو المبيّنُ في قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19].
وقد قرر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذا الأصل الجليل بقوله: "لا يَفرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر" [رواه مسلم ح(1469)].
كم من رجلٍ كره امرأةً، فأمسك عليها، فأنجبت له أولاداً بررة، قاموا بنفعه، ونشْرِ فخره وذكره! وكم من رجلٍ فُتن بامرأةٍ ذهبت بلبِّه! وأفسدت عليه دينَه ودنياه وأهلَه؟!
أين من المطلقين من يفقه أن الحياة الزوجية لا تقوم على الحب فقط؟! بل هي قائمةٌ على أسس متعددة منه: الحب، والرحمة، والوفاء، والمروءة، وغيرها من المعاني الجميلة.
إخوة الإسلام: ما أجمل التريّث في شأن الطلاق إن كره الرجلُ من زوجته شيئاً، فيمسكها بمعروف إلى أن ينظر في الأمر، ويقلِّب النظر، ويستشير أهلَ الخبرة في مثل هذه الأمور، حتى إذا ما عزم على الطلاق كان قرارُه ناضجاً، صادراً عن قناعة تامة، ودراسةٍ شاملة، فيسرّحَها بإحسان، ويفارقَها بالمعروف؛ امتثالاً لأمر الله -تعالى-: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)[الطلاق: 2]، فيفارقها فراقاً لا تشاتم فيه ولا تخاصم، بل هو طلاقٌ يستشعر تلك القاعدة القرآنية التي قرّرها ربُّنا في آيات الطلاق: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة: 237]، وهو طلاقٌ لا قهر فيه على أخذِ شيءٍ من مالها.
أيها الإخوة المؤمنون: وكلّ ما سبق الحديثُ عنه إذا كانت الرغبةُ في الطلاق مِن قِبَل الزوج، أما إذا كانت الرغبةُ والاستعجالُ فيه من قِبَل الزوجة؛ فهنا يأتي دورُ الزوج والولي في العلاج، والتأني في الموضوع، ذلك أن بعضَ المتزوجات حديثاً قد تطلب الطلاق لأنها لم ترتح مع زوجها في أول الأيام.. ولم تجد الاندماج التام؛ فتتصارع في نفسها مشاعرُ فراق أهلها مع مشاعر الخوفِ من المستقبل، فلقلَّة خبرتها بالحياة الزوجية ربما بادرتْ بطلب الطلاق بحجة أنها ما ارتاحت، أو لغير ذلك من الأسباب التي يَغلب في فيها النظرُ العاطفي، فتحتاج إلى صبرٍ حتى تكون مقنِعة!
وكم هو جميلٌ أن يكون الزوج هادئاً متروياً في مثل هذه الحال؛ فيبقي زوجتَه عند أهلها مدةً من الزمن لتتروى وتُفكِّر، فإن كان هناك سببٌ ظاهرٌ عولج، حتى لا يكون قرارُ الطلاق سريعاً.
وقد وقفتُ بنفسي على وقائعَ طلبتْ فيها الزوجةُ الطلاقَ وبسرعة، وذكرتْ بعضَ الأعذار التي أشرتُ إليها، فوافق ذلك عقلاً من الزوج، وحسنَ تروٍ، وعدم تعجلٍ، فما هي إلا أيامٌ وإذا بالزوجة تعود، وتُنجب منه ذرية، وصارت السعادةُ ترفرف على ذلك البيت الذي كاد أن يتقوّض بنيانُه.
أيها الإخوة: لو أن كلّ من أراد الطلاق تأنى وتريّث، واستخار واستشار، وراعى حدودَ الله في هذا الباب؛ لقلّت نسبةُ الطلاق بشكلٍ كبير، فليتق اللهَ مَن يدخل غمارَ الحياة الزوجية، وليتعرف على أحكام دينه، وليستشرْ وليستخرْ، ولا يَعْجَل.
هذه -يا عباد الله- أهمُ أسباب الطلاق في مجتمعنا، فما الحلّ؟ وكيف نخفِّف من هذه النِّسَب المروّعة؟
هذا ما سنحاول الإجابةَ عنه في الأسبوع القادم -إن شاء الله-.
رزقني اللهُ وإياكم الفقهَ في دينه والبصيرة فيه، وأصلح أحوال المسلمين، وألّف بينهم بخير.