السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة - الجمعة |
فما موقف المسلمين تُجاه هذا اليوم؟ أماتوه فأقبروه في مقابر الغفلة والجهل والنسيان، فجعلوه يومًا تغلق فيه جميع مرافق المسلمين طوال اليوم، وتلبس فيه أقبح الملابس، فبعدما كان الرجل منّا يذهب طوال الأسبوع إلى مكان عمله بأحسن ملابسه؛ لمقابلة مديره وزملائه تراه يأتي في يوم عيد المسلمين ليقابل ربه بلباس النوم أو الرياضة, وكأن هذا اليوم لا يستحق تعظيمًا ولا تفخيمًا, بل أصبح يوم النومِ والضياع والسهر والمعاصي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خص بعض والشهور والأيام بمزيد من الفضل, ورفع بعض البشر في القدر والأجر, أحمده -سبحانه- وأشكره على جزيل نعمائه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, يخلق ما يشاء ويصطفي من يشاء, يرفع ويخفض ويقبضٌ ويبسط, يُعز ويُذل, يُؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء, بيده الملك إنه على كل شيء قدير, وأشهد أن محمد عبده ورسوله اصطفاه الله من البشر, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, اصطفاهم الله لصحبة نبيه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-, فهي أفضل الوصايا, وأجمل العطايا, وأكمل الوفايا, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيُّها المسلمون: إنَّ يومكم هذا يومَ الجمعة يوم عظيم جليل، قد خُصَّ بمزيد من التشريف والتفضيل, يوم مباركة أوقاته، طيبةٌ ساعاتُه، يوم اصطفاه الله من بين سائر أيام الأسبوع، قال كعب الأحبار: "إنَّ الله -عزَّ وجل- اختار الشهور واختار شهر رمضان، واختار الأيَّام واختار يوم الجمعة، واختار الليالي واختار ليلة القدر، واختار الساعات واختار ساعة الصلاة".
فيوم الجمعة هو خيَرة الله من الأيَّام، والله يخلق ما يشاء ويختار، وله الحكمة البالغة فيما يختار من خلقه, ولقد جعل الله له من الخصائص والمزايا ما شرف بها على غيره.
يومُ الجمعة ليس كسائر الأيَّام، بل هو سيِّد الأيَّام، قال ذلك جبريل -عليه السلام-، وقاله نبيُّنا والمعنى أنَّه سيِّد أيَّام الأسبوع، كما أنَّ يوم الأضحى أفضل أيَّام العام.
وبلغ من فضل هذا اليوم وشرفه أن العلماء قد اختلفوا في المفاضلة بينه وبين يوم عرفة, وبهذا نخرج من اختلاف العلماء: "أيُّ اليومين أعظم؟ يوم الجمعة أم يوم عرفة ويومُ الأضحى؟ وهما وجهان لأصحاب الشافعي، والتحقيق ما ذكرت: أنَّ يوم الجمعة هو بالنسبة إلى أيَّام الأسبوع أفضل الأيَّام، ويوم عرفة ويوم الأضحى هما أفضل الأيَّام بالنسبة إلى أيَّام العام، فإذا اتفق يوم عرفة ويوم الجمعة في يوم واحد ازداد ذلك اليوم شرفًا على شرف، وعظمة على عظمة.
وما وردت به النصوص من فضائل هذا اليوم أكثر من أن تحصى في مقام كهذا, فحق لكل مسلم أن يحتفل بهذا اليوم؛ لأنه عيده كما في معجم الطبراني عن أبي هريرة مرفوعًا: "يا معشر المسلمين: هذا يوم جعله الله لكم عيدا".
قال ابن القيِّم: "ورسول الله سيِّد الأنام، ويوم الجمعة سيِّد الأيَّام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزيَّة ليست لغيره مع حكمة أخرى، وهي أنَّ كلَّ خير نالته أمَّته في الدنيا والآخرة فإنَّما نالته على يده، فجمع الله لأمَّته بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظم كرامة تحصل لهم فإنَّما تحصل يوم الجمعة، فإنَّ فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنَّة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنَّة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم يُسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يردُّ سائلهم، وهذا كلُّه إنَّما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقِّه أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته".
فما موقف المسلمين تُجاه هذا اليوم؟ أماتوه فأقبروه في مقابر الغفلة والجهل والنسيان، فجعلوه يومًا تغلق فيه جميع مرافق المسلمين طوال اليوم، وتلبس فيه أقبح الملابس، فبعدما كان الرجل منّا يذهب طوال الأسبوع إلى مكان عمله بأحسن ملابسه؛ لمقابلة مديره وزملائه تراه يأتي في يوم عيد المسلمين ليقابل ربه بلباس النوم أو الرياضة, وكأن هذا اليوم لا يستحق تعظيمًا ولا تفخيمًا, بل أصبح يوم النومِ والضياع والسهر والمعاصي.
أيها الأحبة: سأخبركم بحقيقة الأمر، وآتيكم من ذلك بالمبتدأ والخبر، وإن كنتم غافلين ساهين عن فضله فهلمَّ إليَّ بسمعكم لعلَّنا نتذَّكَّر. فأقول، وبالله أتأيَّد في هذا اليوم الأنوار الأزهر المحجَّل الأغر.
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "تحشر الأيام على هيئتها، وتحشر الجمعة زهراء منيرة، أهلها يحفون بها كالعروس، تهدى إلى خدرها، تضيء لهم يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضا، وريحهم كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان، لا يُطرقون تعجبا حتى يدخلوا الجنة، لا يخالطهم أحد إلا المؤذِّنون المحتسبون" [رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه والحاكم و إسناده حسن].
وعن أنس بن مالك: "عرضت الجمعة على رسول الله ، جاءه بها جبريل- عليه السلام- في كفِّه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك… الحديث. [رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد].
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأتيناه من بعدهم، هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له", وروى مالك في الموطأ وأبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تِيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مُصِيخَة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا الجنّ والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها", قال كعب: ذلك في كلّ سنة يوم، فقلت: بل في كل جمعة، فقرأ كعب التوراة فقال: صدق رسول الله.
إخوة العقيدة: من بركات هذا اليوم العظيم، أنه ما من مسلم يهلك في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله شر فتنة القبر وعذابه، إذا كان هذا المسلم من أهل الخير والصلاح، فإنه يرجى له خير كثير لو مات يوم الجمعة أو ليلته، روى الإمام أحمد وغيره عن رسول الله قوله: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر".
أيها المؤمنون: هذا اليوم العظيم، ستكون فيه نهاية العالم، وستكون فيه نهاية الحياة على وجه الأرض، وفي هذا اليوم سيكون قيام الساعة، والساعة أدهى وأمر، وسيكون حشر الناس والقضاء بينهم إما إلى جنة وإما إلى نار، وما دام الأمر كذلك، فإنه كما جاء في الأثر أنه في ليلة الجمعة، "ما من شيء إلا وهو مشفق وجِلٌ خائف من قيام الساعة إلا الثقلين الإنس والجن".
فسبحان الله!! كل مخلوقات الله -جل وعلا- تخاف ليلة الجمعة، تخاف من قيام الساعة، إلا هذين الثقلين، وعجباً لابن آدم، فإنك ما تراه أغفلَ ولا أفجرَ ولا أطغى في يوم من الأيام، منه في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، وما رصد قوم لهم عبثاً أو لهواً أو فجوراً أو فسوقاً إلا وجعلوه في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، فيا ويح ابن آدم ما أظلمه وما أفجره، وما أفسقه!.
فاتقوا الله -عباد الله- اتقوا الله تعالى، واعرفوا لهذا اليوم حقه ومنزلته، عظموا هذا اليوم، وخصوه دون غيره من الأيام ببعض أعمالكم.
أيها الناس: سلفكم يقولون عن الجمعة كانت الطرق لتضاء بالسرج ليلة الجمعة وفجرها؛ للبكور لمساجدها, علموا فضلها فرغبوا فيه وسارعوا له, ونحن علمنا فضلها ففرطنا فيه فخسرنا ويوم القيامة نتحسر ونندم, ونحن نظلم طرقها نهارا فضلا عن ليلها نحيه في الجلسات والاستراحات, وعلى أمور يندى لها الجبين ويشيب لها الصغير.
اسمعوا أهمية التبكير للجمعة, ففي الصحيحين أنه قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسلَ الجنابة, ثم راح فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقْرَن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".
وقد ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد والثوري وغيرهم إلى أن التبكير إليها يكون من أول النهار، قال الشافعي -رحمه الله-: "ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس كان حسنًا", منا من يأتي قبل الخطبة بساعة والأكثر قرب دخول الإمام, والغالب منا بعد دخول الإمام, وهناك من يأتي عند الإقامة أو قريبا منها.
احرص -يا عبد الله- على صلاة الجمعة وخطبتها، التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده, والشهادة له بالوحدانية ولنبيه بالرسالة, وتذكير العباد بأيام الله, وتحذيرهم ونهيهم عما يقرب لهم من سخطه وناره، فالخطبة شرط من شروط صحة الجمعة، وحضورها واستماعها أمر مقصود ومتأكد في حق المصلين.
فالإنصات للخطبة إذا سمعها أمر واجب، ومن لم ينصت كان لاغياً، ومن لغا فلا جمعة له، روى مسلم في صحيحه قوله: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا", ما أعظمه من حديث.
من مس حصا المسجد أو عبث بشيء من متاعه والإمام يخطب فقد لغا في جمعته، وما من دين على وجه الأرض يلزم مؤمنيه في يوم من أيام الأسبوع أن يأتوا يوم الجمعة بالاستماع والإنصات، كأشد ما يكون الاستماع والإنصات إلى خطبة الجمعة، لا يلتفتون عنها بشيء، ولا يردون السلام ولا يشمتون العاطس، كلهم آذان صاغية، كأن على رؤوسهم الطير.
فانتبه -يا عبد الله- لا تفسد جمعتك بعبث أو غيره، توجه بسمعك وقلبك إلى الخطبة, ولا تتكلم حال الخطبة ولا تكن من الذين غلب عليهم الكسل أو عدم المبالاة, يملون من الجلوس ربع ساعة لاستماع ذكر أو موعظة، ولهذا تجدهم يأتون في آخر الخطبة حتى لا يكثر ويطيل الجلوس، وبعضهم إذا جاء متأخراً فإنه لا يجلس يظل واقفاً حتى تقام الصلاة، ولو طلب من أحدهم أن يجلس في غير هذا المكان لجلس الساعات الطوال، في لهو أو لعب أو غيره، فأي حرمان للعبد أكثر من هذا؟!!.
روى البخاري ومسلم في تصحيحيهما عن النبي أنه قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".
يقول أهل العلم في شرح هذا الحديث: "لما كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام وكان العيد مشتملاً على صلاة وذبح وقربان, وكان يوم الجمعة يوم صلاة لا ذبح فيه ولا قربان, جعل الله -سبحانه وتعالى- التعجيل والتبكير فيه إلى المسجد بدلا من القربان وقائماً مقامه، بمعنى أن الذي يبكر إلى الصلاة يوم الجمعة كان له من الأجر كمن اشترى شيئاً مما ذكر في الحديث, ووزعه على فقراء المسلمين، فمن ذهب في الساعة الأولى كان كمن اشترى من ماله الخاص بدنه فذبحها ثم وزعها على فقراء المسلمين, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا الفرق العظيم بين أجر من يبكر ويأتي في الساعة الأولى, ومن يتأخر ويأتي في الساعة الخامسة الأخيرة، إنه الفرق بين من يتصدق ويتبرع بالبدنة وبين من يتصدق ويتبرع بالبيضة, فانظر لنفسك ماذا أنت تختار؟.
ولو حصل لك ظرف معين في أحد المرات وتأخرت لظرف خارج عن إرادتك فاحرص أيضا أن تكون على الأقل مع من يقرب بقرة، أو على الأقل دجاجة، لكن يكون طبعك وديدنك مع البيضة دائماً فهذا أيضاً من الحرمان، أما إذا دخل الخطيب فإن البيضة أيضاً، أنت لست من أهلها؛ لأن الملائكة تطوي صحفها وتجلس تستمع إلى الخطبة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين, فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.