الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | علي باوزير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
في هذه الفترة العصيبة من حياة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- سورة عظيمة، سورة تضمنت من أولها إلى آخرها قصة واحدة، قال الله -عز وجل-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف: 3] يقول عطاء بن أبي رباح في هذه السورة: "ما استمع أحد إلى هذه السورة إلا استراح وذهب ما به من الهم". هذه السورة هي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد --صلى الله عليه وسلم--، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
أيها المسلمون -عباد الله-: طلب بعض الفضلاء أن نتحدث في هذه الخطبة عن حرمة الدماء، وعن القتل بغير حق، فقلنا: قد تكلمنا عن هذا كثيرا، وبحت الأصوات في هذا، وناد الدعاة والخطباء من كل مكان، ولكن أين القلوب والعقول؟
يكفينا فقط حديثا واحدا يلخص لنا ما نعيشه اليوم، يروي لنا أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجًا" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: "الْقَتْلُ" فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَقْتُلُ الآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ-: "لَيْسَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَابْنَ عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ" فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ-: "لاَ، تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ لاَ عُقُولَ لَهُمْ" [رواه ابن ماجة].
أيها الأحباب الكرام: قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنوات قلائل اشتد أذى المشركين به وبأصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم-، وتطاولوا عليهم، وتجرؤوا عليهم كثيرا، خاصة بعد وفاة أبي طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يحوطه وينصره، ويدافع عنه، فلما اشتد البلاء بهم صار بعض الصحابة يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: "يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ ألا ترى حالنا" فيحثهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، على الصبر، ويأمرهم بالثبات، وعدم الاستعجال، ويبشرهم بأن وعد الله -سبحانه وتعالى- آت وقادم لا محالة.
وفي هذه الفترة العصيبة من حياة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- سورة عظيمة، سورة تضمنت من أولها إلى آخرها قصة واحدة، قال الله -عز وجل-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف: 3] يقول عطاء بن أبي رباح في هذه السورة: "ما استمع أحد إلى هذه السورة إلا استراح وذهب ما به من الهم".
هذه السورة -أيها الأحباب- هي سورة يوسف التي قصت علينا قصة الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إبراهيم -عليهما السلام جميعا-.
نزلت هذه السورة -أيها الأحباب- لتقص علينا قصة ابتلاء من أعجب الابتلاءات التي حصلت في تاريخ الناس، لتكون هذه القصة عبرة وموعظة وتسلية لأهل البلاء أفرادا كانوا أم شعوبا.
دعونا نعيش -أيها الأحباب- في هذه الدقائق مع هذه القصة العجيبة، وما فيها من الأحداث، يوسف -عليه السلام- كان شابا في مقتبل عمره، وكان جميلا خلوقا مؤدبا طائعا بارا، فأحبه والده، وفضله على إخوانه، فلما رأى إخوانه هذا التفضيل من أبيهم ليوسف عليهم قالوا: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [يوسف: 8].
حسدوا يوسف، وحقدوا عليه، فلما تملك الحقد قلوبهم بدؤوا يتآمرون ويخططون كيف يتخلصون من يوسف -عليه السلام-؟ قالوا: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [يوسف: 9] اقتلوه أو اذهبوا به بعيدا، ثم اجتمع رأيهم في الأخير على أن يلقوه في بئر عميق يموت فيه دون أن يشعر به أحد، أو يأتي بعض المسافرين فيلتقطوه.
وبالفعل خططوا وقرروا وبدؤوا في التنفيذ، ويوسف -عليه السلام- لا يدري بهذه المؤامرة، ولا يدري بهذه المكيدة العظيمة، خرج مع إخوانه وهو مستأمن لهم، قد أمن جانبهم لا يخشى منهم سوء، كيف وهم إخوانه وأشقاؤه، فإذا بهم يغدرون به، ويخدعونه، ويتآمرون عليه، فيلقونه في البئر.
وضع نفسك -أيها الحبيب- مكان يوسف -عليه السلام- فتى صغير أخذ من حضن أبيه الدافئ، وألقي في بئر عميق، لا ماء ولا طعام ولا مغيث، ينتظر الموت أن يأتيه، وهو في هذا المكان السحيق، والألم يعتصر قلبه، وأكثر ما يؤلمه أن الخيانة جاءت من إخوانه، ولم تأت من أعدائه.
وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة | على المرء من وقع الحسام المهند |
الله -تعالى- يرسل إليه فرجا، فيأتي بعض المارة المسافرين فيلتقطونه، ولكن يأخذونه ويبيعونه كبيع العبيد، فيؤخذ وهو ابن الكريم ابن الكريم ابن نبي الله بن نبي الله، يؤخذ فيباع بيع العبيد فيشتريه رجل ليجعله في قصره خادما، وكان عزيزا مسئولا.
وتخيلوا حال النبي الكريم وهو يعمل في بيت رجل لا يعرف الله -عز وجل-، ولا يؤمن به، وتمر به الأيام وهو على هذا الحال من البلاء، ولم يقف الأمر عند ذلك، فيأتيه من البلاء ما هو أشد وأعظم، تفتن به امرأة العزيز، فتراوده عن نفسه، وهو الشاب الفتي القوي الجميل الغريب الذي ليس له أهل في هذه البلاد، تأتيه هذه المرأة وتدعوه وتراوده على نفسه: (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23] وهو لا يخشى عقابا، ولا يخاف لوما ولا عتابا، ولو كان غير يوسف -عليه السلام- في هذا المقام لرأى أن هذه فرصة لا تعوض، وفرصة لا تفوت، ولكنه عليه السلام يعرف أن هذا ابتلاء من الله -سبحانه وتعالى-، وأن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الذي ابتلي به بإلقائه في البئر.
ففتنة الشهوة أعظم وأشد على النفس، ولكنه عليه السلام استعصم بالله -سبحانه وتعالى- وقال: (مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف: 23].
أبى أن يتنازل عن شيء من دينه، وأبى أن يتخلى عن إيمانه، وفر هاربا بنفسه ودينه، فتلحقه المرأة، وتقطع قميصه، حتى إذا كشف أمرها، ألقت التهمة عليه، واتهمته بالباطل، أنه كان يريد السوء بها، ويوسف -عليه السلام- في موقف لا يحسد عليه، كيف يتخلص من هذه الورطة العظيمة، فينجيه الله -سبحانه وتعالى-، ويظهر صدقه، ويظهر كذبها عيانا بالدليل الواضح.
ولكن مع ذلك هذه المرأة المفتونة لم تهدأ، فذهبت تجمع له النساء، وتكيد له المؤامرات من أجل أن تثبت للناس حقها في محبة يوسف، ولأجل أن تضغط عليه ليلبي لها ما تريده من فعل الفاحشة والجريمة، وتقول: (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف: 32].
فينظر يوسف -عليه السلام- يجد أنه بين أمرين لا ثالث لهما: إما الفاحشة، وإما السجن، فيقول: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 33] فيؤخذ ويرمى في السجن، ويمكث فيه سنين عديدة، لا لجريمة فعلها، ولا لذنب اقترفه، وإنما لأنه أراد أن يكون عفيفا شريفا؛ لأنه تمسك بدينه، وأبى أن يتنازل عن شيء منه، فيشتد عليه البلاء.
إخوته رموه في البئر بلا ذنب! وهؤلاء القوم رموه في السجن أيضا بلا ذنب! فما أشده وأعظمه من ابتلاء! لا يصبر عليه ولا يطيقه إلا القليل!
وتمر السنوات على هذا النبي الكريم وهو في السجن بغير ذنب ولا جريمة اقترفها، يعيش بين المجرمين والظالمين، وأصحاب السوابق والجرائم.
ولكن عجبا لحاله وهو في هذا الوضع الصعب وهو في السجن بين المجرمين، لم ينقطع عن عمله وأداء رسالته ودعوته إلى الله -سبحانه وتعالى-، فيدعوهم إلى الله -سبحانه وتعالى- دون ملل ولا كلل، ويبين لهم العقيدة والتوحيد: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف: 39].
ولو كان غير يوسف هو الذي وضع في هذا السجن في هذا الحال لجلس يندب حظه العاثر، ويبكي على ما أصابه من الابتلاءات، وينقطع عن العمل، ولا يفعل شيئا كحال كثير من اليائسين، ولكن يوسف -عليه السلام- بإيمانه، كان يعلم أن فرج الله -سبحانه وتعالى- آت لا محالة.
وبالفعل تمر السنوات على يوسف -عليه السلام- فيأتيه الفرج حين يتمكن من تفسير الرؤيا التي رآها الملك في منامه، فيخرجه الملك من السجن، وتظهر براءة يوسف -عليه السلام- من التهمة التي اتهم بها، وأدخل بها السجن، وتعترف امرأة العزيز بمؤامرتها ومكيدتها.
ويمكن الله -سبحانه وتعالى- ليوسف -عليه السلام- فيصير مسئولا عن خزائن الطعام، لا يصرف شيئا منها إلا بأمر يوسف -عليه السلام-.
فيأتيه إخوته بعد أن صار عزيزا، وقد أنهكتهم المجاعة يبحثون عن الطعام، فيقفون بين يديه وهم لا يعرفون أنه يوسف، قد كبر وتغيرت ملامحه كثيرا.
وهنا يقع يوسف -عليه السلام- في ابتلاء وامتحان جديد، اليوم قد صار مسئولا، وصار صاحب منصب وجاه، وإخوته الذين ظلموه وأساءوا إليه، وفعلوا به الأفاعيل، واقفين بين يديه، يستطيع أن يفعل بهم ما يشاء، وينتقم منهم كما يريد، خاصة وأنهم لا زالوا في غيهم، ولا زالوا في حقدهم حين يتهم أخوه بأنه سرق صواع الملك، يقول إخوته: (إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ) [يوسف: 77] يعنون يوسف -عليه السلام-، وكانوا يتهمونه بالسرقة في صغره، فلا زالوا يحملون الحقد عليه، ولا زالوا يكيلون التهم الباطلة إليه، ولكن مع ذلك كله غلب يوسف -عليه السلام- غلب الحلم والعفو على الغضب والانتقام، وقال لهم: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 92] ولو كان غير يوسف لوجد هذه الفرصة سانحة لأجل أن ينتقم من إخوانه الذين فعلوا به ما فعلوا.
فانظروا -أيها الأحباب- إلى هذه الابتلاءات المتعددة المتتالية، ابتلاء الأخذ من حضن أبيه الدفئ! ابتلاء المؤامرة والمكيدة التي كادها له إخوانه! ابتلاء الإلقاء في البئر! ابتلاء أخذه وبيعه كالعبيد! ابتلاء عمله كخادم في قصر رجل لا يؤمن بالله! ابتلاء المرأة التي راودته عن نفسها! ابتلاء الاتهام بالباطل في عرضه! ابتلاء الإلقاء في السجن سنين عديدة! وكذلك أيضا الابتلاء بالمنصب! والابتلاء بالمسئولية! والابتلاء بالجاه والسلطان! وابتلاء مجيء إخوته إليه! وقدرته على الانتقام منهم! ولا ننسى الابتلاء العظيم الذي كان يشعر به حين يتذكر أباه ذاك الرجل النبي الكريم الذي لا زال يبكي ولده منذ فارقه حتى عمي من شدة البكاء! وقال: (وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) [يوسف: 84 - 85].
ولكن مع هذا كله اسمعوا إلى الموعظة البليغة التي وعظنا بها يعقوب -عليه السلام- حين قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
وبعد:
أيها الأحباب الكرام: سورة يوسف نزلت في تلك الفترة العصيبة من دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- نزلت لتقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه: اصبروا فإن بعد العسر يسرا، وإن بعد الكرب فرجا، وإن بعد الشدة راحة وعافية، وإن فرج الله -سبحانه وتعالى- قريب، ونصره آت لا محالة، ولكم في يوسف -عليه السلام- خير عبرة وعظة.
شاب صغير يأخذ من والده ويفارقه سنوات طويلة، فلا ينقطع أمله، ولا ينقطع أمل والده، بل يظل كل واحد منهما معلق رجاءه بالله -سبحانه وتعالى-، وأن الله -عز وجل- لابد أن يكشف هذه الغمة.
يعقوب -عليه السلام- بعد السنوات الطويلة من الفراق يقول لأولاده: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87] متى يقول يعقوب هذا؟ قيل: إنه قال هذه الكلمات بعد أربعين عاما من فراق يوسف -عليه السلام- ولا زال أمله بالله، ويقول: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) حتى أن أولاده سخروا منه لما أرسل يوسف -عليه السلام- قميصه لوالده، قال أبوه قبل أن يصل القميص إليه: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ) [يوسف: 94] فسخروا منه، و (قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا..) [يوسف: 95 - 96] فماذا قال لهم يعقوب -عليه السلام-؟ (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف: 96].
حقا من يعرف الله -تعالى- حقا، ومن يعرف قدر الله، ويعلم رحمة الله، ويعلم صفات الله -سبحانه وتعالى-، ويعلم من هو الله، يعلم أنه لا يأس أبداً في العلاقة مع الله -سبحانه وتعالى-.
يعلم أن الله -عز وجل- وإن طال الأمد لابد أنه راحم عباده، لابد أنه كاشف ما نزل به من البلاء، لابد أن يأتيهم بفرج من عنده سبحانه، فلا يجوز لمسلم أن ييأس من رحمة الله أبداً مهما كان ومهما حصل، وهذا المغزى هو الذي نزلت سورة يوسف لأجل بيانه، ولهذا ختمها الله -سبحانه وتعالى- بذكر حال الرسل حين يشتد بهم البلاء ويكذبهم أقوامهم، ولا يجدون منهم تابعا ولا مؤمنا، قال الله -عز وجل-: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف: 110].
فما أحوجنا -أيها الأحباب- أن نقرأ سورة يوسف في أيامنا هذه بتدبر وتمعن، وننزلها على الواقع الذي نعيشه اليوم، فإنها تسلية لنا -بإذن الله-، ووعد من الله -عز وجل-، قال الله -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يصلح أحوالنا كلها...