البحث

عبارات مقترحة:

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

الرزاق

كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...

وهو الذي ينزل الغيث من بعدما قنطوا

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد البصري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. من الابتلاء منع القطر .
  2. نزول المطر من مظاهر حمة الله .
  3. وجوب شكر الله تعالى   .
  4. المطر قد ينزل عذابا .
  5. تصرفات خاطئة تحصل من بعض الناس .

اقتباس

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَن يَغتَرُّ بِنُزُولِ المَطَرِ على كُلِّ حَالٍ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ لا يَنزِلُ إِلاَّ رِضًا مِنَ اللهِ، وَيحسَبُ أَنَّ تَقلُّبَهُ في نِعَمِ رَبِّهِ دَلِيلُ رِضاهُ عَنهُ وَإِنْ أَسرَفَ وَعَصَاهُ، وَلَيسَ الأَمرُ كَذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلاَّ لَكَانَت بِلادُ المُسلِمِينَ أَكثَرَ البِلادِ مَطَرًا، وَلَكَانَت بِلادُ الكُفرِ أَقَلَّهَا غَيثًا وَخَيرًا، وَالوَاقِعُ عَلَى العَكسِ مِن ذَلِكَ، وَلَكِنَّ...

الخطبة الأولى:

أما بعد:

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، تَذَكَّرُوا أَنَّ اللهَ يُرِيدُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ، (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُم وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا). تَذَكَّرُوا أَنَّ اللهَ بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَأَنَّهُ سُبحَانَهُ قَرِيبُ الغِيَرِ، يَعجَبُ مِن قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُربِ غِيَرِهِ، يَنظُرُ إِلَيهِم يَائِسِينَ قَنِطِينَ، وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّ مَا بهم سَيَنكَشِفُ عَن قَرِيبٍ، (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ).

لَكِنَّهُ سُبحَانَهُ مَعَ إِرَادَتِهِ اليُسْرَ بِعِبَادِهِ ورَحمتِهِ بهم وَلُطفِهِ فَإِنَّهُ يَبتلِيهِم بِأَنَوَاعٍ مِنَ البَلاءِ، كَمَا قَالَ سُبحَانَهُ: (وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، يَبتَلِيهِم سُبحَانَهُ لِيَعلَمَ مِنهُم صِدقَ الوَلاءِ وَعَظِيمَ الرَّجَاءِ، وَلِيَنظُرَ صَحِيحَ التَّوبَةِ مِنهُم وَذُلَّ الدُّعَاءِ، فَيَجزِيَ الصَّادِقِينَ كَرِيمَ الجَزَاءِ وَعَظِيمَ الثَّنَاءِ، وَيَرفَعَ دَرَجَاتِهِم في الدُّنيَا وَفي الأُخرَى، ويُهلِكَ المُكذِّبِينَ المُستَكبِرِينَ عَنِ العِبَادَةِ، المُعرِضِينَ عَنِ التَّوبَةِ المُصِرِّينَ عَلَى الخَطِيئَةِ، وَيُنِيلَهُم مِنَ الذَّمِّ وَالعُقُوبَةِ مَا يَلِيقُ بهم مَا دَامُوا عَلَى تِلكَ الحَالِ، (وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتَّى نَعلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُم وَالصَّابِرِينَ وَنَبلُوَ أَخبَارَكُم).

وَلَقَد كَانَ مِنِ ابتِلاءِ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالى لِعِبَادِهِ في هَذِهِ البِلادِ مَنعُ القَطرِ عَنهُم وَحَبسُهُ، وَقِلَّةُ المِيَاهِ في آبَارِهِم وَغَورُهَا وَشُحُّها، وَيَستَسقِي المُسلِمُونَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً وَسَنَوَاتٍ مَتَوَالِيَةً وَيَستَغِيثُونَ، وَيَدعُونَ وَمَا يَكَادُون يُجَابُونَ وَلا يُسقَونَ، وَمَا يَزدَادُ مَطرُ السَّمَاءِ إِلاَّ قِلَّةً وَامتِنَاعًا، وَمَا تَزدَادُ مِيَاهُ الأَرضِ إِلاَّ غَورًا وَنَقصًا، حتى لَيُصَابُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِاليَأسِ وَالقُنُوطِ، فَيَستَبطِئُونَ نُزُولَ الغَيثِ وَيُصبِحُونَ مُبلِسِينَ، وَلِكنَّ فَضلَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَاسِعٌ، وَرَحمتُهُ بِالمحسِنِينَ مِنهُم أَقرَبُ، فَهَا هُو سُبحَانَهُ يُغِيثُهُم هَذِهِ الأَيَّامَ، فَيَنزِلُ المَطَرُ بِرَحمتِهِ في أَنحَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ البِلادِ صَيِّبًا مِدرَارًا، فَلَهُ تَعَالى الحَمدُ عَلَى مَا أَعطَى، وَلَهُ الشُّكرُ عَلَى مَا أَولى، وَنَسألُهُ المَزِيدَ مِن فَضلِهِ وجُودِهِ، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ).

وَلا شَكَّ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- أَنَّ إِنزَالَ الغَيثِ مِن أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ تَعَالى عَلَى عِبَادِهِ، وَلا رَيبَ أَنَّ مِنَّةَ اللهِ عَلَيهِم بِالمَاءِ عَظِيمَةٌ وَكَبِيرَةٌ، فَهُوَ حَيَاةُ أَبدَانِهِم وَطَهَارَةُ أَجسَامِهِم، وَهُوَ حَيَاةُ زُرُوعِهِم وَقِوَامُ مَوَاشِيهِم، (وَجَعَلْنَا مِنَ المَاء كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤمِنُونَ).

وَقَد ذَكَرَ سُبحَانَهُ إِنزَالَهُ المَاءَ في مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ مِن كِتابِهِ المَجِيدِ، وَجَعَلَهُ آيةً مِن أَعظَمِ آيَاتِهِ في الكَونِ، وَامتَنَّ عَلَى العِبَادِ بِإِنزَالِهِ؛ ممَّا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ نَفعِهِ لهم وَكَبيرِ احتِيَاجِهِم إِلَيهِ وَاضطِرَارِهِم لَهُ، قَالَ جَلَّ وَعَلا: (أَلم تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأَرضِ ثُمَّ يُخرِجُ بِهِ زَرعًا مُختَلِفًا أَلوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصفَرًّا ثُمَّ يَجعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكرَى لأُولي الأَلبَابِ)، وَقَالَ تَعَالى: (أَلم تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصبِحُ الأَرضُ مُخضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، وَقَالَ سُبحَانَهُ: (وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَسمَعُونَ)، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (أَوَلم يَرَوا أَنَّا نَسُوقُ المَاء إِلى الأَرضِ الجُرُزِ فَنُخرِجُ بِهِ زَرعًا تَأكُلُ مِنهُ أَنعَامُهُم وَأَنفُسُهُم أَفَلا يُبصِرُونَ)، وَقَالَ جَلَّ مِن قَائِلٍ: (وَأَنزَلَ لَكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهجَةٍ مَا كَانَ لَكُم أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا)، وَقَالَ سُبحَانَهُ: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَسَالَت أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا)، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا)، وَقَالَ سُبحَانَهُ: (وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسكَنَّاهُ في الأَرضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)، وَقَالَ سُبحَانَهُ: (أَفَرَأيتُمُ المَاءَ الذي تَشرَبُونَ * أَأَنتُم أَنزلتُمُوهُ مِنَ المُزنِ أَم نحنُ المُنزِلُونَ)، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (قُلْ أَرَأَيتُم إِنْ أَصبَحَ مَاؤُكُم غَورًا فَمَن يَأتِيكُم بِمَاءٍ مَعِينٍ).

وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَإِذَا تَبَيَّنَّا حَاجَتَنَا المَاسَّةَ إِلى هَذِهِ النِّعمَةِ العَظِيمَةِ، وَأَنَّهُ لا قُدَرَةَ لَنَا عَلَى جَلبِهَا إِذَا غَارَت وَاستَعادَتِها إِذَا نَضُبَت، أَو إِغداقِها إِذَا شَحَّت وَزِيَادَتِهَا إِذَا نَقَصَت، فَإِنَّ الوَاجِبَ عَلَينَا أَن نَشكُرَ اللهَ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَى بَلادِنَا مِن هَذَا الغَيثِ الَّذِي أَنزَلَهُ عَلَى مُعظَمِ مَنَاطِقِهَا هَذِهِ الأَيَّامَ، فَالشُّكرُ يَحفَظُ النِّعَمَ وَيُقَيِّدُهَا، وَتَكرَارُهُ يَزِيدُهَا وَيُنَمِّيهَا، وَبِدَوَامِهِ دَوَامُها وَضَمَانُ استِمرَارِهَا، قَالَ سُبحَانَهُ: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ)، وَقَالَ تَعَالى: (وَسَنَجزِي الشَّاكِرِينَ).

وَإِنَّ شُكرَ اللهِ سُبحَانَهُ يَجِبُ أَن يَكونَ بِكُلِّ أَركَانِ الشُّكرِ؛ بِالقَلبِ اعتِرَافًا وَإِقرَارًا، وَبِاللِّسانِ تحدُّثًا وَثَنَاءً، وَبِالجَوَارِحِ وَالأَركَانِ طَاعَةً وَعَمَلاً، إِنَّهُ بِنِسبَةِ النِّعَمِ إِلى مُولِيهَا وَمُسدِيهَا، إِنَّهُ بِأَدَاءِ مَا افتَرَضَهُ الخَالِقُ الرَّازِقُ مِن فَرَائِضَ وَوَاجِبَاتٍ، وَتَركِ مَا نَهَى عَنهُ مِن مَعَاصٍ وَمُحَرَّمَاتٍ، واستِعمَالِ النِّعَمِ في طَاعَتِهِ وَعَدَمِ الاستِعَانَةِ بها عَلَى شَيءٍ مِن مَعَاصِيهِ، قَالَ تَعَالى: (اِعمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكرًا، وَقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ)، وَقَالَ تَعَالى: (وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَن يَغتَرُّ بِنُزُولِ المَطَرِ على كُلِّ حَالٍ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ لا يَنزِلُ إِلاَّ رِضًا مِنَ اللهِ، وَيحسَبُ أَنَّ تَقلُّبَهُ في نِعَمِ رَبِّهِ دَلِيلُ رِضاهُ عَنهُ وَإِنْ أَسرَفَ وَعَصَاهُ، وَلَيسَ الأَمرُ كَذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلاَّ لَكَانَت بِلادُ المُسلِمِينَ أَكثَرَ البِلادِ مَطَرًا، وَلَكَانَت بِلادُ الكُفرِ أَقَلَّهَا غَيثًا وَخَيرًا، وَالوَاقِعُ عَلَى العَكسِ مِن ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ، لا يَعلَمُونَ أَنَّ تَوَالِيَ النِّعَمِ مَعَ استِمرَارِ المَعصِيَةِ قَد يَكُونُ استِدرَاجًا مِنَ اللهِ سُبحَانَهُ، فَإِنَّهُ سُبحَانَهُ يَقُولُ: (سَنَستَدرِجُهُم مِن حَيثُ لا يَعلَمُونَ)، وَعَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا رَأَيتَ اللهَ يُعطِي العَبدَ مِنَ الدُّنيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ استِدرَاجٌ"، ثم تَلا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ).

وَإِنَّنَا لا نَقُولُ هَذَا الكَلامَ -أَيُّهَا الإِخوَةُ- سُوءَ ظَنٍّ بِاللهِ سُبحَانَهُ، وَلَكِنَّنَا نُحَذِّرُ أَنفُسَنَا وَإِخوَانَنَا مِنَ الغَفلَةِ عَن سُنَنِ اللهِ وَتَركِ شُكرِهِ -جَلَّ وَعَلا- وَكُفرَانِ نِعَمِهِ، فَكَم مِن أُمَّةٍ كَانَ مَسَاؤُها نَعِيمًا وَتَرَفًا ثم كَانَ صَبَاحُها جَحِيمًا وَعَذَابًا! وَكَم مِن دَولَةٍ كَانَ لَيلُها لَعِبًا وَلهوًا وَطَرَبًا ثم كَانَ نَهَارُهَا قَتلاً وَفَتكًا وَطَردًا وَتَشرِيدًا! (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ)، (وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)، (لَقَد كَانَ لِسَبَإٍ في مَسكَنِهِم آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِزقِ رَبِّكُم وَاشكُرُوا لَهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعرَضُوا فَأَرسَلنَا عَلَيهِم سَيلَ العَرِمِ وَبَدَّلنَاهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَينِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمطٍ وَأَثلٍ وَشَيءٍ مِن سِدرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَينَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ).

فَتَأَمَّلُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- في هَؤُلاءِ المُعَذَّبِينَ، فَمِنهُم قَريَةٌ (كَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ)، وَأُخرَى (ظَالِمَةٌ)، وآخَرُونَ (أَعرَضُوا). نَعَمْ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- الكُفرُ بِأَنعُمِ اللهِ وَالظُّلمُ لِلنَّفسِ وَلِعِبَادِ اللهِ وَالإِعرَاضُ عَن شَرعِ اللهِ وَعَن طَاعَتِهِ, كُلُّ أُولئِكَ ممَّا يَجلِبُ عَلَى القُرَى وَأَهلِهَا الجُوعَ وَالخَوفَ، وَيَمنعُهُمُ الأَمنَ وَالخَيراتِ وَنُزُولَ الأَمطَارِ وَالبَرَكَاتِ، وَيُنزلُ عَلَيهِمُ العَذَابَ وَيُحِلُّ فِيهِمُ النِّقمَةَ.

وَفي المُقَابِلِ فَإِنَّ شُكرَ النِّعمِ وَأَدَاءَ الحُقُوقِ كَفِيلٌ بِتَوَافُرِ النِّعَمِ وَتَوَالِيهَا، عَن أَبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: "بَينَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرضِ فَسَمِعَ صَوتًا في سَحَابَةٍ: أَسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرَجَةٌ مِن تِلكَ الشِّرَاجِ قَدِ استَوعَبَت ذَلِكَ المَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في حَدِيقتِهِ يُحَوِّلُ المَاءَ بِمِسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبدَ اللهِ، مَا اسمُكَ؟ قَالَ: فُلانُ، لِلاسمِ الَّذِي سَمِعَ في السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبدَ اللهِ، لِمَ تَسألُني عَنِ اسمِي؟ فَقَال: إني سَمِعتُ صَوتًا في السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: أَسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَما إِذْ قُلتَ هَذَا فَإِني أَنظُرُ إِلى مَا يخرُجُ مِنهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ". فَهَذَا جَزَاءُ مَن شَكَرَ النِّعَمَ وَاستَعَانَ بِهَا عَلَى مَا يُرضِي اللهَ وَأَدَّى حَقَّ اللهِ فِيهَا.

فَاحمَدُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيكُم مِن هَذَا الغَيثِ المُبَارَكِ، وَاسأَلُوهُ سُبحَانَهُ أَن يَجعَلَهُ رَحمَةً لَكُم وَقُوَّةً وَبَلاغًا إِلى حِينٍ، وَاشكُرُوهُ يَزِدْكُم وَيُبَارِكْ لَكُم، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ في أَوقاتِهَا مَعَ الجَمَاعَةِ، وَاستَقِيمُوا عَلَى الصِّرَاطِ وبَادِرُوا إِلى الطَّاعَةِ، أَدُّوا الحُقُوقَ إِلى أَهلِهَا وَلا تَبخَسُوا النَّاسَ أَشيَاءَهُم وَلا تَعثَوا في الأَرضِ مُفسِدِينَ، وَارحَمُوا مَن في الأَرضِ يَرحمْكُم مَن في السَّمَاءِ، فَرِّجُوا كُرَبَ المَكرُوبِينَ، وَأَنظِرُوا المُعسِرِينَ، أَطيبُوا المَطعَمَ، وَاحذَرُوا أَكلَ الحَرَامِ، وَتُوبُوا إلى اللهِ مِن جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ، أَصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم، وَصِلُوا أَرحَامَكُم، وَاحذَرُوا كُلَّ مَا يَقطَعُ صِلَتَكُم بِرَبِّكُم وَيَجلِبُ سَخَطَهُ عَلَيكُم، ثم أَبشِرُوا بَعدَ ذَلِكَ بِالخَيرَاتِ وَالبَرَكَاتِ وَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ، فَإِنَّ خَزَائِنَ اللهِ مَلأَى، لا يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأَرضِ وَلا في السَّمَاءِ، (إِنَّمَا أَمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وَهُوَ لم يَخلُقِ الخَلقَ لِيُعَذِّبَهُم وَلَكِنْ لِيَرحمَهُم.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، (مَا يَفعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم، وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا).

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ، وَاشكُرُوهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيكُم وَلا تَجحَدُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ كَمَا أَنَّ المطرَ نِعمَةٌ مِنَ اللهِ ورَحمةٌ فَإِنَّهُ جُندٌ مِن جُنُودِهِ المُطِيعِينَ، يُهلِكُ بِهِ مَن كَذَّبَهُ وَعَصَاهُ وَخَالَفَ أَمرَهُ، كَمَا أَهلَكَ بِهِ قَومَ نُوحٍ، قَالَ سُبحَانَهُ: (كَذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبدَنَا وَقَالُوا مَجنُونٌ وَازدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَني مَغلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحنَا أَبوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنهَمِرٍ * وَفَجَّرَنا الأَرضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمرٍ قَد قُدِرَ * وَحَمَلنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلوَاحٍ وَدُسُرٍ * تجرِي بِأَعيُنِنَا جَزَاءً لِمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَد تَرَكنَاهَا آيَةً فَهَل مِن مُدَّكِرٍ * فَكَيفَ كَانَ عَذَابي وَنُذُرِ).

وَمَا زِلْنَا نَرَى إلى وَقتِنَا الحاضِرِ الأَعَاصِيرَ المُرَوِّعَةَ وَالفَيَضَانَاتِ المُدَمِّرَةَ، يُرسِلُهَا اللهُ عَلَى كَثِيرٍ مِن دِيَارِ الكُفرِ وَالفُسُوقِ، فَتَنسِفُ المَنَازِلَ وَتَهدِمُ المَسَاكِنَ، وَتَقتَلِعُ الأَشجَارَ وَتُتلِفُ الحُرُوثَ، وَيَغرَقُ فِيهَا النَّاسُ وَتَهلَكُ بِسَبَبِها الدَّوَابُّ وَالمَوَاشِي؛ ولِذَا فَقَد كَان نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- يَفزَعُ عِندَ رُؤيَةِ السَّحَابِ ولا يَفرَحُ بِهِ فَرَحًا مُطلَقًا كَمَا يَفعَلُ النَّاسُ اليَومَ؛ لأَنَّهُ يَخشَى أَن يَكونَ عَذَابًا، قَالَت عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا-: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الغَيمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَن يَكُونَ فِيهِ مَطَرٌ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيتَهُ عَرَفتُ في وَجهِكَ الكَرَاهِيَةَ! فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُني أَن يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ قَد عُذِّبَ قَومٌ بِالرِّيحِ، وَقَد رَأَى قَومٌ العَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمطِرُنا". وَكَانَ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِني أَسأَلُكَ خَيرَهَا وَخَيرَ مَا فِيهَا وَخَيرَ مَا أُرسِلَت بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرسِلَت بِهِ". وَكَانَ إِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَونُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقبَلَ وَأَدبَرَ، فَإِذَا أَمطَرَت سُرِّيَ عَنهُ. وَكَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعدَ والصَّوَاعِقَ قَالَ: "اللَّهُمَّ لا تَقتُلْنَا بِغَضَبِكَ، ولا تُهْلِكْنا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنا قَبلَ ذَلِكَ".

فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَاحمَدُوهُ أن جَعَلَ المَطَرَ عَلَيكُم نِعمَةً وَرَحمَةً، وَاشكُرُوهُ بِالقِيَامِ بما أَوجبَهُ عَلَيكُم وَأَمَرَكُم بِهِ، وَالانتِهَاءِ عَمَّا حَرَّمَهُ عَلَيكُم وَنَهَاكُم عَنهُ، وَاحذَرُوا مِنَ الأَشَرِ وَالبَطَرِ وَتَجَاوُزِ الحَدِّ بِالفَرَحِ، فَإِنَّ بَعضَ النَّاسِ يَحدُثُ مِنهُم في أَيَّامِ نُزُولِ الأَمطَارِ تَجَاوُزَاتٌ لا تَلِيقُ بِالشَّاكِرِينَ؛ مِنَ الخُرُوجِ بِنِسَائِهِم في البَرَارِي غَيرَ مُحتَشِمَاتٍ، أو الجُلُوسِ في العَرَاءِ وَعَدَمِ تَوَخِّي الأَمَاكِنِ السَّاتِرَةِ، أَو إِهمَالِ الصِّغَارِ وَالجُهَّالِ يَخُوضُونَ في مَجَارِي الأودِيَةِ أَو يَسبَحُونَ في السُّدُودِ وَالمُستَنقَعَاتِ؛ ممَّا يُعَرِّضُ حَيَاتَهُم لِلخَطَرِ، أَو تَركِ الحَبلِ عَلَى الغَارِبِ لِلشَّبَابِ وَالمُرَاهِقِينَ وَعَدَمِ السُّؤَالِ عَنهُم، حَيثُ يَخرُجُونَ لِلنُّزهَةِ وَيَترُكُونَ الصَّلاةَ، وَقَد يَتَنَاوَلُونَ المُحَرَّمَاتِ وَيَفعَلُونَ المُنكَرَاتِ، وَيَعبَثُونَ بِسَيَّارَاتِهِم وَيَتَعَدَّونَ الحُدُودَ، وَكُلُّ ذَلِكَ ممَّا لا يَلِيقُ بِالمُؤمِنِينَ الشَّاكِرِينَ. فَاحذَرُوا ذَلِكَ، وَاسأَلُوا اللهَ البَرَكَةَ فِيمَا نَزَلَ، فَإِنَّهُ لا قِيمَةَ لَهُ مَا لم يُبَارِكِ اللهُ فِيهِ، وَالقَحطُ الحَقِيقِيُّ أَن يَمحَقَ اللهُ البَرَكَةَ ممَّا في أَيدِي النَّاسَ وَيَسلُبُهُم إِيَّاهَا بِسَبَبِ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي، في صَحِيحِ مُسلِمٍ وَغَيرِهِ عَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: "لَيسَتِ السَّنَةُ بِأَن لا تُمطَرُوا، وَلَكِنَّ السَّنَةَ أَن تُمطَرُوا وَتُمطَرُوا وَلا تُنبِتَ الأَرضُ شَيئًا".