العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الصيام |
أينَ من ترَبَّعوا على عُرُوشهم لِعشراتِ السِّينينَ؟ وجَثَوا على قُلوبِ شُعُوبهم مُفسدينَ؟ ألم تَرو هلاكَهُمْ وتَشهَدُوا خِزيَهُم في العالَمينَ؟ أليسَ في ذالكَ عِبرةٌ لأُولي القُلُوبِ والعِرفَانِ؟! من أعظَمِ دُروسِ القِصَّةِ: أنَّ نورَ اللهِ مَهْما حَاوَلَ المُجرِمُونَ طَمسَهُ فإنَّهُ غَالِبٌ وَظَاهِرٌ، وأنَّ الطُّغاةَ مهما تَطاولُوا فإنَّهم مُهلَكونَ! وإنْ أثـَّروا في عقُولِ الدَّهماءِ حيناً، فإنَّ قلوبَ العبادِ بيدِ اللهِ تعالى يُصرِّفها كيف يشاءُ، تَأَمَّلُوا: سَحَرَةُ فِرعَونَ، أوَّلُ النَّهارِ سَحَرَةٌ، وآخرَهُ شُهدَاءُ بَرَرةٌ. فأينَ مِنحُ فِرعونَ وأعطياتُهُ! أينَ جُلساؤهُ وَوُزَرَاؤُهُ؟ فَهذا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ يَقْضي بانْتِصَارِ العَقِيدةِ على الحَيَاةِ، والعزيمةِ على الأَلَمِ، وانتِصَارِ الإنسانِ على الشَّيطانِ! ولنا في فِلِسطِينَ هذهِ الأيامُ أعظَمُ خَبَرٍ ومُدَّكَرٍ!
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله قصَّ علينا من نَبأِ المُرسَلِينَ مَا فِيهِ عِبرَةٌ لِلمؤمنينَ، أعزَّ اللهُ أولِيَاءَهُ وَنَصَرَ المُتَّقينَ، وأَذَلَّ الطُّغاةَ وأَهلَكَ المُستكبرينَ، نشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ ربُّ العالَمينَ، ونشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدَاً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ اللهُ بخيرِ شَرْعٍ ودِينٍ، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ، ومن تَبِعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ: عبادَ اللهِ: اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ تقواهُ، واشكرُوا فضائِلَهُ ونَعمَاهُ.
عبادَ اللهِ: نَحنُ في شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ، وَقَد وَقَعتْ فِيهِ وَقعَةٌ امْتَلَأ القُرَآنُ بِهَا تِكْرَارَا وإظْهارَا طُولاً واخْتِصَارا! حتى صارتْ هذهِ القِصَّةُ مَحَلَّ تَعَجُّبٍّ لِكَثِيرٍ مِن المُتَأمِّلينَ والمُتَدَبِّرينَ مَا سِرُّ هذا التِّكرارِ العجِيبِ؟
وَلكِنَّ أهلَ العِلمِ عليهم رَحمَةُ اللهِ أدرَكُوا أنَّ مِن الأَسْرَارِ بَعْدَ تَسلِيَةِ قَلْبِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وأصحابِهِ بِما سَيَحِلُّ بِهم بَعدَ اعتِنَاقِهم لِدِينِ اللهِ وَدَعْوةِ النَّاسِ إليهِ، أنَّ فِيها تَعلِيماً وإرشادَاً لِمُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في كَيفِيَّةِ بِناءِ دَولَةِ الإسلامِ وتَنظِيمِ شُئونِها وَرَسْمِ مَنْهَجِها!
ذلِكَ لأنَّ أغلَبَ قَصَصِ الأنبِياءِ الآخَرِينَ تُعالِجُ مَوقِفَاً مُعَيَّنَاً أو تَقضِي على ظَاهِرَةٍ مُعَيَّنَةٍ أو تُرشِدُ إلى أمْرٍ مُعَيَّنٍ! لَعلَّكُم أدرَكُتُم يا مُؤمِنُونَ القِصَّةَ؟ نَعَم إنَّها قِصَّةُ مُوسى -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- مَعَ فِرعَونَ الطَّاغِيَةَ! وهيَ قِصةُ صِراعٍ طَويلٍ بين الحقِّ والباطلِ، فقد ابْتَلى اللهُ بَنِي إِسرَائِيلَ بِفرعَونَ.
وَبَنُو إسرَائِيلَ كَانُوا خِيَارَ أَهْلَ زَمَانِهِم. وَهُمْ مَنْ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ على العَالَمِينَ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُكرِمَهُم! وَلَكِنَّهُ اسْتَضْعَفَهُمْ لِأَنَّهُم لا مَنَعَةَ لَهُم وَلا قُوَّةَ فِي أيْدِيهم، فَصَارَ لا يُبَالِي بِهم، وَلا يَهْتَمُّ بِشَأنِهِم، وَبَلَغَتْ بِهِ الحَالُ أَنَّهُ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ خَوْفَا مِن كَثْرِتِهِمْ، فَيَصِيرُ لَهُم المُلْكُ. وَصَار يَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ يَسْتَبْقِيهِنَّ لِلاسْتِذْلالِ والخِدْمَةِ! حَقَّاً إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الذينَ لا قَصْدَ لَهم فِي إِصْلاحِ دِينٍ، ولا دُنْيَا.
فأرادَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أنْ يُنقِذَ هذهِ الفِئَةَ المُؤمِنَةَ بموسى ابن عمران -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص: 5- 6].
وتأمَّل يا مُؤمن: فِرْعَونُ قد حُذِّر من أَحدِ غلمانِ بني إسرائيلَ! وأمُّ موسى خَافت على ولِيدِها مِنْ بَطْشِ فِرعَونَ وجندِه فَيَشاءُ اللهُ أنْ يتربَّى الغلامُ في بيت الطَّاغيةِ! فَيُغْذِّيَهُ ويُرَبِّيَهِ في قصرِهِ وتحتَ رعايتِه وإشرافِه! ثُمَّ فِرعَونُ يَبحَثُ بِنَفسِهِ لِمُوسى عنِ المَرَاضِعِ (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)!
وَتَنْتَهِي مُدَّةُ الرَّضَاعِ، وَيبلُغُ موسى أشُدَّهُ، ويَكتَمِلُ نُضجَهُ، وفي يومٍ يَتَجوَّلُ مُوسى في المدينةِ، في وقت تَغفو فيه العيونُ (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَـاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) [القصص: 15]. فَأجمَعوا على قَتلِهِ، فَنَصَحهُ نَاصِحٌ بالخروجِ من البلادِ (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص: 21].
حتى دَخَلَ مَدينَ وَقَضَى فيها أَبَرَّ الأَجَلينِ وأوفَاهُمَا، ثُمَّ استَأذَنَ صِهرَه بِالرُّجوعِ إلى مِصرَ التي قَتلَ فيها بالأمسِ رَجُلاً! فَهل يا تُرى نَسيَ موسى أنَّهم يَطلُبُونَهُ ثأراً؟ حقَّاً إنِّها إرادَةُ اللهِ الذي قَالَ: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يا مُوسَى) [طه: 40]، وفي الطريق اشتدَّ البَردُ، وَفَقَدَ النَّارَ، وَضَلَّ الطَّرِيقَ.
وبينما هو في هذه الظروفِ القَاسِيَةِ (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) [طه: 10]، فَأَتاها فإذا هي نُورٌ عَظيمٌ يَتَلأَلأُ، وَعندَهَا خيرٌ كَثيرٌ: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه: 11- 14].
وهنا نُبِّئَ مُوسى وأُرسلَ، وَيأتِيهِ أمرُ اللهِ بالدَّعوة! اذهبْ إلى رَأسِ الكُفرِ والطُّغيانِ (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) [طه: 24] وموسى يَعرِفُ مَنْ هو فِرعونُ! فَيسألُ اللهَ العونَ وتَيسيرَ الأمرِ وَشرحَ الصَّدرِ، ويأخذُ أخاهُ هارونَ وَيتَوجَّهَانِ إلى فِرعونَ، وفي أوَّلِ لِقاءِ بَعدَ الرِّسالَةِ يَبْدَأُ دَعوَتَهُ بِقَولِهِ: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ) [طه: 47] هكذا من أوَّلِ لَحظَةٍ، لِيُشعِرَهُ أنَّهُ لَيس ربَّاً ولا إِلَهاً، فيتعجَّبُ فِرْعَونُ لِمَا يَرَى ويَسمَعُ! فَآخِرُ العهدِ بهِ أنَّه كانَ رَبِيبَاً في قَصرِهِ، وأنَّه هَرَبَ من القَتلِ! (أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [القصص: 18].
بل أيُّها المؤمنِونَ: وَطَلَبَ من فرعونَ بكلِّ صَرَاحَةٍ ووضوحٍ: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى) [طه: 47] أَتَيَاهُ بِأَمْرَينِ، دَعَوتُهُ إلى الإسلامِ، وَتَخْلِيصُ هَذا الشَّعْبِ الشَّرِيفِ مِنْ قَيدِهِ وَتَعبِيدِهِ لَهُم، فَيَتَحَرَّرُوا وَيُقِيمُ فِيهم مَوسى شَرْع اللهِ وَدِينَهُ. فَيسألُهُ فِرْعَونُ أوَلَكَ ربٌّ غَيرِي: (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50].
ويُسقَـَطُ في يدِ فِرعَونَ، بعد انتصارِ مُوسى على السَّحَرَةِ فَيلجَأُ إلى القُوةِ، ويهدِّدُ بالسَّجَنِ والعَذَابِ الأليمِ، وهذه لُغةُ الطُّغَاةِ والمُجرِمِينَ في كُلِّ عَصْرٍ ومِصْرٍ (لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء: 29].
أيُّها المسلمونَ: وحين نَتَجَاوزُ كَثِيراً من المَشاهدِ وَنَصِلُ إلى نِهايةِ القصَّة، نجدُ أنَّ موسى والمؤمنونَ معهُ يَفرِّونَ بِدينِهم من وجهِ الطَّاغيةِ بأمرِ اللهِ، ويُصرُّ فِرعُونُ وجندُه على الَّلحاق بهم، بعد تَدَخُّلِ أهلِ الأَهوَاءِ والمَصَالِحِ، لِيهيِّجُوا فـِرْعَونَ على موسى ومن معه، وَيُخَوِّفُونَـهُ عَاقِبَةَ التَّهاوُنِ في أمرِهِـم.
ثم ها هيَ المعرَكَةُ تَصِلُ إلى ذِروتِها، فَمُوسى وقومُهُ بِوحي من الله يَسِيرُونَ لَيْلاً لأنَّهم مُّتَّبَعُونَ! حتى صاروا أمامَ بَحْرٍ مُتلاطِمٍ! ليس لَهم سَفِينَةٌ، ولا يَملِكُونَ خَوضَهُ، وما هُم بِمُسَلَّحِينَ، وقد قَارَبَ فِرعونُ وجنودُه يَطلُبونَهم وهم لا يَرحَمُونَ، (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 61]، فَيَبلُغُ الكَربُ مَداهُ، وَيصِلُ الضِّيقُ مُنتَهَاهُ.
إلاَّ أنَّ مُوسى -عليهِ السَّلامُ- (قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62]، بهذا الجزمِ والثَّبَاتِ واليَقِينِ! فالبحرُ والسَّمَواتُ، والأَرَضُونَ والبَشَرُ، كلُّهم مُلكٌ للهِ رَبِّ العالَمينَ يُصرِّفُهم كَيفَ يَشاءُ وهو أحكمُ الحاكِمينَ، ثمَّ ها هو طريقُ النَّجَاةِ يَنفَتِحُ من حيثُ لا يَحتَسِبُون (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَسَاً) [طه: 77]، فَيَنْشَقُّ طَرِيقٌ يَابِسٌ كأنَّه لَمْ تُصبْهُ قَطْرَةُ مَاءٍ من قبلُ! فَتَسيرُ الطَّائِفَةُ المًؤمِنَةُ واللهُ يَرقبُها، فَيُنَجِّيهمُ اللهُ تعالى، فلمَّا تَكاملَ قومُ موسى خَارِجِينَ، وَقومُ فِرعونَ دَاخِلِينَ، جَاءَهم المَوجُ من كلِّ مَكَانٍ، فَكَانُوا مُهلَكِينَ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 8- 9]. وَكانَ ذالِكَ يَومَ عَاشُورَاءَ فَصَامَهُ مُوسى ومُحمدٌ والمُؤمِنُونَ شُكراً للهِ تَعالى.
أقول ما تسمعون وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم فاستغفروا من كلِّ ذنب إنِّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وليِّ الصالحينَ، ولا عدوانَ إلَّا على الظَّالِمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على إمامِ المُرسَلينَ، وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ وإيمَانٍ إلى يومِ الدِّينِ. أمَّا بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 36].
إخوة الإيمانِ: وبينَ البدايةِ والنِّهايةِ في هذه المَلْحَمةِ العَظِيمَةِ، عددٌ من الدُّروسِ والعبرِ. كَيفَ تَنْتَهي وَنحنُ نَرَى مَصارِعَ الطُّغاةِ والظَّالِمينَ! فأينَ من ترَبَّعوا على عُرُوشهم لِعشراتِ السِّينينَ؟ وجَثَوا على قُلوبِ شُعُوبهم مُفسدينَ؟ ألم تَرو هلاكَهُمْ وتَشهَدُوا خِزيَهُم في العالَمينَ؟ أليسَ في ذالكَ عِبرةٌ لأُولي القُلُوبِ والعِرفَانِ؟!
من أعظَمِ دُروسِ القِصَّةِ: أنَّ نورَ اللهِ مَهْما حَاوَلَ المُجرِمُونَ طَمسَهُ فإنَّهُ غَالِبٌ وَظَاهِرٌ، وأنَّ الطُّغاةَ مهما تَطاولُوا فإنَّهم مُهلَكونَ! وإنْ أثـَّروا في عقُولِ الدَّهماءِ حيناً، فإنَّ قلوبَ العبادِ بيدِ اللهِ تعالى يُصرِّفها كيف يشاءُ، تَأَمَّلُوا: سَحَرَةُ فِرعَونَ، أوَّلُ النَّهارِ سَحَرَةٌ، وآخرَهُ شُهدَاءُ بَرَرةٌ. فأينَ مِنحُ فِرعونَ وأعطياتُهُ! أينَ جُلساؤهُ وَوُزَرَاؤُهُ؟ فَهذا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ يَقْضي بانْتِصَارِ العَقِيدةِ على الحَيَاةِ، والعزيمةِ على الأَلَمِ، وانتِصَارِ الإنسانِ على الشَّيطانِ! ولنا في فِلِسطِينَ هذهِ الأيامُ أعظَمُ خَبَرٍ ومُدَّكَرٍ!
بل اسْأَلُوا الدُّعاةَ الذينَ ذَهبُوا لِدُولِ السُّوفَيْتِ وَمَا وَرَاءَها وقَدْ غُيِّبَتْ شُعُوبٌ عَن الإسلامِ وقُطِعُوا عن المُسلِمِينَ وحَكَمُوهُم بالحَدِيدِ والنَّارِ وَسَامُوا مُسلِمِيهم سُوءَ العَذَابِ هَلْ أطْفَئَوا فِيهم نُورَ اللهِ كلا ورَبِّي لَقد شَعَّ فيهِمُ النُّورُ وَاَقبَلَ فِيهم أشبالٌ يَحمِلُونَ هَمَّ الإسلامِ وَصَدَقُ اللهُ العَظِيمُ: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8].
عبادَ اللهِ: لقد عاش المُسلمونَ في أيامِ فِرعَونَ ظُروفاً عَصِيبَةً، وصِلَ بهم الحالُ كَما قَالَ التَّابِعِيُّ الجَلِيلُ مُجَاهِدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أنَّهُم خَافَوا أنْ يُقتَلُوا فِي الكَنَائِسِ الجَامِعَةِ، فَأُمِرُوا أنْ يَجْعَلُوا بُيُوتَهُم مَسَاجِدَ! فَيؤمرُون بالصَّبرِ والصَّلاةِ والاستِعَانةِ باللهِ، وبالتَوكُلِ عليهِ، (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) [الأعراف: 28].
فالصَّلاةُ سِمةُ المُسلمِ في الرَّخاءِ والشِّدةِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]. والتَّوكُّلُ على اللهِ زَادٌ لَهُم في كلِّ حالٍ، والدُّعاءُ وصِدقُ الُّلجوءِ إلى اللهِ فيهِ الفَرَجُ من الكُرُوب والخلاصُ من الظَّالِمِينَ. (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس: 85-86].
إخوة الإسلامِ: ورابعُ الدُّروسِ تَكشُّفُ الخِدَاعِ الذي يُمارِسُهُ المُجرِمُونَ والطُّغاةُ على عامَّةِ النَّاس وجُهَّالِهم (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [طه: 71]. قَالَ ابنُ كثيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَفِرْعَونُ يَعلَمُ أنَّ هذا الذي قَالَهُ من أبطَلِ البَاطِلِ، وإنَّما قالَهُ تَستُّرَاً وتَدلِيساً على رَعَاعِ دَولَتِهِ وَجَهَلَتِهِم. فَيَا لِلَّهِ، العَجَبُ صَارُوا يُشفِقُونَ مِنْ إفسَادِ مُوسى وقَومِهِ، أَلا إنَّ فِرعونَ وقومَهُ همُ المُفسِدونَ ولكنْ لا يَشعرُونَ".
القِصَّةُ تُشعِرُكَ أيُّها المُؤمِنُ: بِربَاطِ العَقِيدَةِ والدِّينِ مَهمَا كانَت فَواصِلُ الزَّمَنِ، فَيومُ نَجاةِ مُوسى -عليهِ السَّلامُ- يَومُ فَرحٍ عَظِيمٍ، وقد قالَ نبيُّنا مُحَمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ"، فَلم يَزلِ المُسلمونَ بحمدِ الله تعالى يَتَواصَونَ بِسُنَّةِ مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بِصيامِ هذا اليومِ، يَرجُونَ بِرَّه وَفضَلَهُ.
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
اللهم وأعزَّ الإسلام والمسلمينَ وأذلَّ الكُفرَ والكافِرينَ ودمِّر أعداءَ الدينَ واجعل هذا البلد آمنا مُطمئنَّاً وسائِر بلادِ المسلمين، وَوفِّقْ ولاتَنَا وولاةَ المسلمينَ لِما تُحِبُّ وترضى وأعنهم على البر والتقوى واغفر لنا ولِوالِدينا وللمسلمينَ يا ربَّ العالمينَ.
عباد الله: اذكروا الله العظيمَ يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر واللهُ يَعلمُ ما تَصنعُونَ.