البحث

عبارات مقترحة:

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

الوارث

كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

الوسطية بين الحقيقة والادعاء

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. معنى الوسط في اللغة والشرع   .
  2. الوسطية في القرآن الكريم .
  3. المسلمون أمة وسط .
  4. الوسطية التي يريها الأعداء .
  5. أهل الوسطية الحقة. .

اقتباس

إن الدعوة للوسطية هي الدعوة للدين الحق والقول الحق والمنهج الحق، الذي دلت عليه النصوص الشرعية الصحيحة، الذي هو في حقيقته عدل كله وخير كله لا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي هدانا للدين القويم، ومنّ علينا بأن جعلنا من أمة وسط هي خير أمة أخرجت للناس، وأصلي وأسلم على خير مبعوث بعث لخير أمة؛ نبي الهدى والرحمة، حبيب الله أبي القاسم، سيد بني هاشم، الذي تركنا على المحجة البيضاء! ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين.

وبعد:

عباد الله: تتردد على أسماعنا في هذه الفترات الأخيرة كثير من المصطلحات التي أصبحت تطرق بكثرة، وتساق في كثير من وسائل الإعلام بشكل مبهم أو بطريقة حق يراد به باطل؛ ومن هذه المصطلحات التي راجت كثيراً وانتشرت في زماننا هذا مصطلح "الوسطية"، وكلكم قد سمع بهذه اللفظة من هنا أو من هناك، فما معنى الوسطية في الحقيقة؟ وما المقصود بها اليوم؟ ولماذا يركزون على ترديدها والحديث عنها كثيراً؟.

إن الوسطية الحقيقية حق جاء بها الدين وأمر بها الشرع وذكرها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم، وكل معاني الوسطية في الشريعة الإسلامية واللغة العربية تتحدث عن العدل والفضل والخيرية، والتوسط بين طرفين. وقد استقر عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة "الوسط" أرادوا معاني: الخير والعدل والنّصَفَة، والجودة والرفعة والمكانة العالية.

وذكرها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم بمعنى التوسط بين منهجين فقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة : 143]. يقول الإمام الطبري -رحمه الله-: "إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين؛ فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهُّب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها" [ جامع البيان (2/6) ].

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "ولَمَّا جعل الله هذه الأمة وَسَطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال -تعالى-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج: 78] " [تفسير القرآن العظيم (1/191) ]. وفي سورة القلم يقول الله -تبارك وتعالى-: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) [القلم: 28] أي: أعدلهم، وفي سورة المائدة قال: (فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة: 89] أي من أعدله وأوسطه.

فنحن أمة وسط بين الأمم في منهجها ودينها، وهذا المنهج العدل الوسط هو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله -سبحانه وتعالى- بإتباعه والاقتداء به فقال: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف : 29]، والقسط هو العدل في كل شيء ولزوم الحد فيه بلا غلو ولا جفاء.

وانظر إلى الوسطية واضحة في مثل قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67]، وفي قوله -سبحانه-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77]، وقوله -جلّ وعلا-: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة: 201].

فالوسطية إذن هي منهج عدل وسط، وصراط قيّم مستقيم، بين الله -سبحانه وتعالى- معالمه، وطبقها على الواقع رسوله -صلى الله عليه وسلم- واقتدى به فيها أصحابه الكرام --رضي الله عنهم وأرضاهم-؛ فكانوا لا يُغلِّبون جانباً على حساب جانب آخر، وإنما قاموا بالتمسك بالدين كله بشموليته واتساعه، وكان منهم متخصصون في كل الميادين، وهذا هو العدل الوسط والمنهج السوي المستقيم.

يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا" [إغاثة اللهفان، 1/70].

عباد الله: لقد تبين لنا أنّ الوسطية والتوسط في الدين هي: كل حق بين باطلين من الاعتقادات والأعمال والأخلاق.

فمن سلَّم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعمل بما ورد في القرآن وصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العقائد والشرائع فهو من أهل هذه الوسطية والاعتدال والخير، وكلّ من تعدى حدود الشرع أو قصَّر عن القيام بها فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب عدوانه أو تقصيره.

إن المنهج الوسط ليس منهجا توفيقياً أو تلفيقياً بين طرفين متضادين، نضطر للتقريب بينهما حتى نصل لمرتبة وسط!, فإنه وإن كان في الغالب أنه يوجد في كل قضية طرفان مذمومان بينهما وسط ممدوح، إلا أن ذلك ليس بحتم لازم، فالصدق مثلاً يقابله الكذب، ومثله العدل يقابله الظلم، وليس أي منهما وسطاً بين رذيلتين.

والوسط بحسب اجتهاد البشر ليس بالضرورة أن يكون حقا أو خيراً، بل قد يرى الناظر -في بادي الرأي- قولا أو موقفاً وسطا بين باطلين، ومع ذلك لا يكون خيراً؛ بل قد يكون باطلا مثلهما، مثلما فعل المعتزلة, حين قالوا عن مرتكب الكبيرة: أنه في منزلة بين المنزلتين فلا يكون كافراً ولا مسلماً.

وهذا يعلمنا درساً أن المنهج الوسط أو الحكم على الأمر بأنه أمر وسط يقرره أهل العلم والشرع, وليس عوام الناس أو طلبة العلم وأنصاف العلماء.

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [البقرة : 143].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.

أما بعد:

أيها الناس: إن الوسطية التي أصبحت تطرق اليوم وتردد كثيراً في وسائل الإعلام هي منهج آخر وطريقة غير الطريقة الوسطية التي جاء بها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

إن الوسطية التي يرددونها اليوم هي التلفيق بين الكفر والإسلام كما في دعوات ما يسمى بوحدة الأديان ودعوات التقريب بين السنة والشيعة.

ومن أصحاب الوسطية المزعومة ما يردده بعض الإعلاميين والمنتسبين إلى الدعوة الذين يعطون الفرصة -باسم الحوار- لذوي الأقلام المسمومة والأفكار المشبوهة لينفثوا بين الناس سمومهم وأفكارهم.

ومن هذه الوسطية الذميمة اتباع الترخصات المذمومة والفتاوى الشاذة, التي أساسها اتباع الهوى بتتبع الأقاويل المخالفة للدليل، والتي قال فيها بعض العلماء: "من تتبع الرخص تزندق", وللأسف يعملون ذلك بحجة اتباع الوسطية وسلوك المنهج الوسطي ومن خالفهم في شيء من ذلك اتهموه بالتشدد والغلو والبعد عن المنهج الوسط.

ومن العجيب أنّ كلاً يدعي الوسطية لنفسه؛ فالخارجي يدعي أنّ مذهب الخوارج "وَسَط"، والمرجئي يدعي أنّ مذهب المرجئة "وَسَطَ"، والعقلاني يدعي أنّ منهجه "وَسَط"، والمفرط يدعي أنّ منهجه "وَسَط"، وحتى العلماني وغيره يدعي أنّ منهجه "وَسَط" !!.

ولكن الوسطية لا تعرف بمجرد الدعاوى، وإنما تعرف بالدلائل والبينات.

والدعاوى ما لم يقيموا عليها

بينات أصحابها أدعياء

إن الوسطية الحقة تعرف بطاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والتسليم لهما ظاهراً وباطناً كما قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65].

هذه هي الوسطية الحقة تختلف كل الاختلاف عن الوسطية الباطلة التي يتحدثون عنها والتي يعنون بها إحداث منهج جديد يلائم أهواء المكلفين ومتطلبات العصر كما يقال!, فهذا المنهج وإن زعم أصحابه أنه منهج وسط إلا أنه بعيد كل البعد عن الوسطية.

وخلاصة القول: إن الدعوة للوسطية هي الدعوة للدين الحق والقول الحق والمنهج الحق، الذي دلت عليه النصوص الشرعية الصحيحة، الذي هو في حقيقته عدل كله وخير كله لا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط؛ لأنه من لدن لطيف خبير. (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام : 153].

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.