السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
إنَّ دراسةً يسيرةً لما يُنشرُ في هذه الوسائل يبين أن أغلبه لا يرقى إلى ثقافةٍ حقيقيةٍ وعلمٍ يُنشرُ، أو خُلقٍ يُقتدى به؛ وإنما هو تفاهةٌ وترفٌ وتكرارٌ، وكذبٌ وللوقت إهدار، وإذا وُجدَ ما يَنشرُ القيم ويعرض النفع فسيُواجِهُه البعضُ باستهتار!.
الخطبة الأولى:
الحمد لله العليِّ الكبير، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له اللطيف الخبير، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الداعي لأكمَلِ دين وأهدى سبيل، عليه وعلى آله وصحبه أزكى الصلاة والتسليم.
نظر الله زمن الجاهلية لأهلِ الأرض -كما في الحديث- فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب؛ لشركٍ كانوا عليه، وتفاهاتٍ، وإضاعةٍ للقيم، فجاءَ الإسلامُ لينهضَ بالأمةِ كلِّها ديناً وتوحيداً، وليُتمِّم مكارمَ الأخلاق، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه، يحث على معالي الأمور بقرآنٍ كريمٍ، ومنهجٍ نبويٍّ سليم، ربَّى -صلى الله عليه وسلم- عليه صحابتَه فاستطاعوا -بتوفيق الله سبحانه- في عشر سنوات تحريرَ العربِ من الشرك، ووضع قيمٍ وأخلاقٍ جذبت مَنْ حولها ليقتدوا بها، بل غلبت حضاراتٍ كالروم وفارس اجتاحتها بقيم الإسلام وبمعالي الأمور، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وقدّموا للعالمِ حضارةً وعِلْماً استوعب الناسَ أجمعين، بقواعدَ تُصلحُهم، وترفعُ هِّمتَهم، وتزكو بهم.
لكن الخطرَ نزل بضعفِ الهمم العالية، لتتخلف الأمة بتفاهاتٍ غالبة، ليس بسبب الجهل؛ فالأميّةُ قلّت، ووسائلُ الإعلام والتواصل انتشرت، العالمُ تقارب وتواصل، الثقافةُ وطلبُ العلم بالتقنية سهلت، غابت أميّةُ القَلَمِ لكنَّ أميةَ العقل حَضَرت، وُجد الجهل رغم أن المدارسَ والجامعات انتشرت!.
فالتوحيدُ الذي جاء الإسلام به وبُعث الرسل لأجله ابتعد بعض الأمة عنه، انشغلوا بتقديس أشخاص، وأشركوا مع الله آلهةً أخرى، وربما ألحد بعضهم وهم متعلمون. الأخلاقُ ضعفت اليوم في أوساط المسلمين، بل العالمُ يحتضرُ أخلاقيّاً بغيابِ قيم العدلِ والأمانةِ والحق والوفاءِ التي ضعفت وتشوهت بانتشار التوافه والغثاء، أمةٌ مصابةٌ بالخلاف بينها، وضياع أوطاننا وإراقة الدماء، بل تعيشُ تفاهةً في وسائل التواصل شوهاء.
بناءُ الأسرة اهتز بالانشغال بهذه الوسائل ومكانةُ الوالدين ضعفت، والبر بهما أصبح غريباً، والعقوق مشتهراً، تماسك المجتمع وتكاتفه تخلخل، والخلاف انتشر، والجرأةُ على بعض القيم والمحرمات في تلك الوسائل صار مستعِراً، تسارعٌ لخصومةٍ وافتراق، وإفساد لأجلِ تفاهاتٍ سياسية فتتحولُ بلدانهم إلى خراب.
العالمُ اليوم يُدار بطريقة عجيبة! فشرذمةٌ من يهودٍ متسلطين سيطروا على بلدٍ مقدسٍ للمسلمين، اسمها فلسطين، به يتحكمون، الحقوق كلها تتجمَّع عندهم وتقامُ لأجلهم، بينما حقوق المسلمين غائبة، من لاجئين ومحرومين ومظلومين، والعالم بمنظماته لا يهتم، يدّعون نهضةً بالعالم ويساهمون في تدميره وليس في توجيهه، هذا في الدول!.
أما الأفراد منا فيعيشون لهواً وغفلةً مُسيطرةً، حتى المسلمين الذين دينهم ينيرُ عقولَهم ويرفع همتهم كغيرهم تأثروا بثقافةٍ تافهةٍ غالبةٍ أصبحت طاغية، فسقطت الهممُ العالية بما لا يرقى بفكرٍ ولا عقلٍ ولا علمٍ، حتى وصلنا لزمن سيادة التفاهة وثقافتها المنتشرة.
إن وسائل التواصل أظهرت بتنوعها من واتس وتويتر وسناب شات وفيسبوك وغيرها مما لا نعرفه أو نتابعه، ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في إظهار سلبياتٍ عندنا -شئنا أم أبينا- سرقت أوقاتنا وكشفت عن ضعفٍ في الخُلق والقيمِ، وبيّنت ثقافةً تافهةً يتابعها كثيرون منا بمشاهداتٍ هائلة لتوافه، لا يُضيِّعون بها أوقاتهم فحسب، بل يتابعون ضياعَ أوقات غيرهم وسخافاتهم، وترف الأغنياء ومباهاتهم، سبحان الله! ومن يطالع المعروضَ بهذه الوسائل يكتشفُ عاجلاً كيف نساهم بتشويه مجتمعاتنا بنشر ذلك ومتابعته!.
تشويهٌ ينشرِ الإشاعة بلا تثبت ولا تروّ، اتهامٌ للأشخاص في ذممهم وأعراضهم، وتشويهٌ للبلد والجمعيات، إشاعةٌ تُخلُّ بالأمن والمجتمع وتنشرُ الكذبَ والجريمةَ والخوف والقلق في أوساط الناس ولا يبالي بآثارها ناشرُها، فالمهمُّ عنده تحقيقُ سبقٍ بنشرها ولو كانت كذباً أو تمّ نفيها لاحقاً، لكنه نالَ إثمَ نشرِها وأثرها.
ولقد ثبت وجود مراكز بالعالم مُفسدة تستهدفُ أمنَنا وبلادنا تبثّ التغريدات والشائعات بهدف تدميرنا وزرع الفتن بيننا! (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83]، يظنُّ أنه سلم من الإثم والغيبة مَن يكتبُ باسمٍ مستعار أو يرمز ويلمزُ بكلامٍ، وهؤلاء يتركُون بابَ المناصحة المشروعة والشفافيّة والوضوح ثم يدّعون الإصلاح! وهذا يعطيك دليلاً على ثقافةِ تفاهةٍ منتشرةٍ في وسائل التواصل عندنا، إشاعةٌ وإسرافٌ وترفٌ ينافي أبسطَ قواعد العقل والأخلاق والقيم، فأسرار البيوت أصبحت مكشوفةً عبرها ومعرضةً لاطلاع الغريب واختراق البعيد، والفضيحة والتهديد، والبنات يظهرْن فيها بتبرجٍ وسفور!.
أناسٌ عبر السناب وغيره يُشغلون الأمةَ بالتفاهات، ومتابعوهم يلاحقونهم على ما فيهم من عوج، ليتنافسوا بإظهار التوافه، يتابعون خلال سنابه أو غيره أفعالاً خادشةً للحياء وقد تكون محرّمةً، أقلُّ ما يقالُ عنها إنها لا تليق أن تُنشر أو تُشاهدَ؛ فكيف بانتشارها ومتابعة الصغير والكبير لها؟ يكذب أحدهم فيشتهر، ومع نفيها فالناس يصدّقونها! يقلدون النساء! أفعالٌ هستيريّة لكبيرٍ بلحيته أو لمجنون في عقله! أفتريدون ثقافةً للتفاهة وضياعاً للهمم والعزائم أكثر من ذلك؟!.
أصبح الإسرافُ والترف والمباهاة ظاهرةً معروضة في هذه الوسائل يتباهى بها التافهون وأغنياء مستمتعون بما يأكلون وما يشترون وللهدايا يُبذّرون، وكيف يسافرون، يظهرون سياراتهم وهواتفهم وما يملكون، وما دروا أن المتابعين لهم مُنشغلون بذلك الترف ويقلّدون، مع أن العالمَ القريب من حولِهم مسلمون خائفون وجائعون، بالصباح والمساء يُقصفون، بينما هم في وسائل التواصل غافلون لا يعقلون، وفي تفاهاتهم ولهوهم وترفهم سادرون، ألا يخشى المترفون أن يكونوا ممن حقَّ عليهم قولُ الله فيُدمَّرون؟ (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112]، فمظاهر الإسراف والترف سببٌ للتدمير وفقد النعم، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].
عباد الله: إنَّ دراسةً يسيرةً لما يُنشرُ في هذه الوسائل يبين أن أغلبه لا يرقى إلى ثقافةٍ حقيقيةٍ وعلمٍ يُنشرُ، أو خُلقٍ يُقتدى به؛ وإنما هو تفاهةٌ وترفٌ وتكرارٌ، وكذبٌ وللوقت إهدار، وإذا وُجدَ ما يَنشرُ القيم ويعرض النفع فسيُواجِهُه البعضُ باستهتار!.
أصبحنا نتهاونُ برؤيةِ المحرمات ونعتادُها بكثرةِ المقاطع، وظهور لنساءٍ متبرجات وموسيقى وغناء، مشاهداتٍ مُخلة، وكلُّها باسم: لا تفتكم مشاهدته. مقطعٌ غريب. مقطعٌ مضحك. وغيره من عناوين لامعةٍ جذّابة، لا يُستثنى منها رجلٌ ولا امرأةٌ ولا أطفال أو غيرهم، أسهل شيء فيها اتهامُ الناس والحديثُ بأعراضهم، والناس يُصدّقون، بينما الله يقول: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور:16]، وكلُّ ذلك باسمِ متابعةِ وسائل التواصل وثقافتها الجذّابة بالتوافه المعروضة، وكأننا لسنا محاسبين على ما نكتب ونقول ونشاهد! (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء:36].
وسائل أعطت بطرحها صورةً عن المجتمع -شئنا أم أبينا- مشوهة، مع إضاعةٍ للوقت، وأثّرت على التواصل والصحة والودِّ بين الأسر، وكثرةُ استخدامها والتأثر بها يبيِّنُ أهميةَ الحديث عنها وضرورةَ الاهتمام بها؛ إضافةً لمخاطر أخرى حولَها تدعو للانتباه لها، فالبيوتُ مملوءةٌ ومتأثرةٌ باستخدامها، والجرأةُ الزائدةُ بما يُعرض تتعدّى الثوابتَ والقيم وأنظمة الدول مما يثيرُ الفتنة والمجونَ، ويحتاج لوقفاتٍ ووقفات حولَها.
اليوم أصبح كل أحد يرسل ما يأتيه، لا يبالي إن كان محرماً أو صدقاً أو يناسبُ عقلاً أو يثيرُ إشاعة، وكأن بعضَ الناس ضاع عقلهم وتمييزهم بمتابعة هذه الوسائل ونشر ما فيها للمشاهير: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116].
إخوتي: إننا حين نتكلم عن هذه الوسائل للتواصل ونقد ما فيها لسنا نُعمِّمُ الشرَّ والتفاهة، كلا والله! فالخيرُ في هذه الأمة باقٍ بدعاةٍ ومثقفين وأناسٍ جادين، ومن يتابع ذلك يلحظ فيها -بحمد الله- تناولاً راقياً للفكر، وعلاجاً مناسباً للمشكلات، ومتنفساً رائقاً للهموم، وصوتاً مُعبِّراً عن الحق، وعرضاً لمآسي الأمة وآلامها شرقاً وغرباً، وحديثاً عن هموم الناس جعلت المسؤول يتجاوبُ معها، وكذلك وعظاً ونصيحةً وإرشاداً وتذكيراً بالحق في وقته، وذكراً لله، وصلاة وسلاماً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رأينا أثراً إيجابياً لها في الحفاظ على تماسك دول! لكن المؤلم أن ذلك خيرٌ قليل أمام رُكامٍ كبيرٍ من تفاهةٍ تنتشر في هذه الوسائل، وتلقى رغبةً وقبولاً ومتابعةً، لا تستغرب معه قول القائل: "لا غرابة لكثرة متابعي الدجال الذي ورد ذكره في الحديث، فإن هذه الوسائل بتفاهة ما يطرح بها وكثرة متابعيها تثبت صحة ذلك".
أحدُ عقلاء السناب ومشاهيره يقول: "لو أني طرحت المواعظ وأكثرت منها لما تابعني الناس بها"؛ وهذا يدلُّ على حجم تفاهةٍ أصبح يقود استخدامها! نسأل الله العافية! يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوُا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا" رواه الترمذي.
اللهم اهدنا للعقل والخير والهدى والصلاح، وأعطنا من خير هذه الوسائل ما يرضيك، وجنبنا فيها ما يغضبك. أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: وسائل التواصل -إخوتي- تحتاج في استخدامها لاستشعار أنها نعمةٌ من الله رزقنَا الله إياها، قرَّبت البعيد، فالمسافرُ يُطمئِنُ أهلَه، وهي سبب للصلة والتواصل ولمعرفة أخبار الناس وأحوالهم وشجونهم وشؤونهم، وللتحذير بوقتٍ قياسي لما تتعرَّضُ له الأمةُ من كيد.
هي نعمة تستحقُّ منا الشكر، وشكرُها باستخدامها بالمفيد، وهذه الوسائل أيضاً تؤكِّدُ معنىً إيمانيا عظيما للرقابة الذاتية، فالله رقيبٌ عليك يا عبد الله في هذا الجهاز، أنت تستخدمه بنفسك بخصوصية وأرقام سرية لا يعرفها إلا أنت، أنت من ترسل وأنت من يستقبل، أنت من ينشر، لا رقيب عليك إلا الله، فإن أسأتَ تأثم وإن أصلحت تُؤجر؛ فاسعَ لأن تعبدُ الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، احرص أن تتعامل معها بما يُرضي الله عنك.
كما أنها وسائلُ أكَّدت مسؤوليةَ الدولةِ والأبِ والأسرةِ والمدرسةِ والتعليمِ بمجملهِ، والإعلام بأكملهِ، كلُّهم مسؤولون أمام الله بمراقبة هذه الوسائل ووضع الأنظمة الزاجرة والمؤدّبة لمن يحاول العبث من خلالها أو ينشرُ فيها ما يُسئُ لبلده أو للناس أو يتطاول على ثوابت الدين، نعم، نحتاج لتطبيقِ أنظمةٍ زاجرةٍ عادلةٍ تُؤدِّب من يتعامل معها وتصلحه، فليس من المعقول انتشارُ مقاطع تؤثر على أمننا وبلادنا وتشوّه سمعتنا ثم يعتبرُ هذا الشخص نفسه حُراً لا يلمسه أحد! هذا غير صحيح، نحتاجُ لأنظمةٍ رادعةٍ تُطبّقُ على المتطاولين من خلال هذه الوسائل لنحاربَ شرورَها ومخاطرَها، ونحسنَ استخدامها.
نسأل الله أن يرزقنا شكر نعمته، وأن يهدينا جميعاً للخير والهدى والصلاح والتوفيق. اللهم احفظ علينا أمننا، وأدم علينا النعم وارزقنا شكرها وباركها، وانصر جندنا المرابطين، ووحد كلمة الأمة، وأنقذ مستضعفها، واكفنا شر الطغاة والمرجفين، وأصلح ولاة أمور المسلمين. والحمد لله رب العالمين.