الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | عبد البديع أبو هاشم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - الدعوة والاحتساب |
بدأت السورة بقسم عظيم من الله الجليل -سبحانه وتعالى- بحرف من الحروف التي لا يعرفها إلا من يقرأ ويكتب الحروف الهجائية: "أ، ب، ت، ث... "، وهكذا فلا يعرفها إلا قارئ، ولا يمسك بالقلم إلا كاتب، فيقسم الله -تعالى- بهذه الأدوات التي هي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، نحمده -سبحانه وتعالى- ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به -سبحانه- من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 4 – 5]، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه وخليله، ما تعلم بالقلم، وإنما علمه رب القلم، (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء: 113]، فعلمُه من السماء، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وتسليماته على نبينا ورسولنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وتمسك بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأحبة الكرام: فمواصلة لحديثنا عن "سلسة مقاصد السور القرآنية"، والذي نتعرف من خلاله على سور القرآن سورة سورة، تعرفا عاما، شاملا لاسمها، ونزولها وفضلها إن وجد، وسياقها، وهدفها، وتناسبها مع السور الأخرى، نواصل هذه السلسة المباركة، ونعيش هذه اللحظات الطيبة مع سورة القلم.
تلكم السورة التي عرفت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وفيما بعده؛ كما أنزل الله
عرفت باسم: "ن والقلم"، والبعض يختصر فيقول: "سورة ن"، والبعض يختصر ويقول: "سورة القلم"، واشتهرت عندنا وفي زماننا وفي مصاحفنا: "سورة القلم".
ويقول المفسرون -رحمهم الله تعالى-: إنما سميت بهذا الاسم لذكر القلم في مفتتحها كقسم يقسم الله به: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1].
ولكن الأمر أبعد من ذلك، وأعمق من ذلك، فإن الله أقسم بالقلم وبما يسطرون؛ فسميت: "سورة القلم"، ولم تسم سورة السطور أو السطر أو المسطور، أو ما إلى ذلك، مما ينتجه القلم، فإن قلما لا يكتب لا فائدة له، فما يكتبه هو ثمرته، فحق أن تسمى بثمرة القلم، إن كان هذا هو المقصود، ولكن لله حكمة بالغة في تسميتها بالقلم، وذلك نعرفها -إن شاء الله تعالى- في الحديث عن هدف السورة.
"سورة القلم" ذكر بعض المفسرين من خلال بعض الروايات: أنها كانت ثانية السور نزولا في مكة، فأجمعوا على أنها سورة مكية نزلت قبل الهجرة، ونزلت في أوائل العهد المكي، ولكن قيل نزلت، وكانت السورة الثانية بعد العلق، وهذا قول غير صحيح، فالسورة من خلال آياتها وأحداثها تشعر أنها كانت في مكة، نعم كانت في أوائل العهد المكي، ولكن بعد فترة، بعد أن قال الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، فأنذر النبي -عليه الصلاة والسلام- بني فلان وبني فلان، العشائر القريبة منه.
فبدأ المكذبون يظهرون وأولهم: أبو لهب -لعنة الله عليه- فلعل "سورة المسد" نزلت قبلها؛ لأن أبا لهب يومها قال: "تبا لك يا محمد"، فرد الله عليه عن رسوله -صلى الله عليه وسلمَ-: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد: 1].
ومضى الأمر واجتمع المكذبون ماذا يقولون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلَم-، وبماذا يصفونه من الأوصاف التي تنفر الناس عنه.
إذاً، حصلت دعوة جهرية، وهناك من أقبل ويتزيدون كل يوم، فخشيت قريش فراحوا يفرقون بين النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وبين أصحابه، فلذلك تأخر الأمر، وحكى الله قولهم: (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [القلم: 51].
وذكرت السورة كذلك: فضيحة لواحد من الكافرين، فضحه الله -تعالى- بأن نسبه مطعون، وأن نسبته لأبيه غير صحيحة، وأنه من حرام في الجاهلية، وفي الإسلام كذلك، هذه حرمة يعترف بها أهل الجاهلية أن يولد الولد وينسب لغير أبيه، يولد من رجل آخر غير أبيه وينسب إلى أبيه، فهذا ولد زنا، وولد حرام في الجاهلية، والإسلام يقر على ذلك.
وكان الأمر مستورا عليه حتى كان عمدة في قومه، ورأسا في قبيلته، وقد ستر الله عليه، لكنه كذب وعاند وصلف وجحد، وما كان الله -تعالى- ليطعن واحدا هذه الطعنة، ولا يفضحه هذه الفضيحة إلا بعد صبر وحلم وعفو، فالله -تعالى- عفو كريم، يعفو ويحلم، ويترك المجرم في إجرامه لعله يتوب، ويعلمه وينذره، ويحذره، ويسوق له من النذر ما شاء، وفي النهاية حينما يرى جمود قلبه،، وصلف طبعه، وعدم طواعيته لأمر الله، الله -تعالى- يكشف عنه الستر، فيفضح بين أهله وقومه، كما فعل مع المنافقين في المدينة، ما فضحهم إلا في العام التاسع في الهجرة، صبر عليهم تسع سنوات، وقبل وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- بعام واحد فضحهم في سورة التوبة فضيحة لم يروا مثلها.
فالسورة يترجح: أنها نزلت في مكة، ولكن بعد فترة، وتعتبر من الأوائل أيضا.
وهي أول سورة قرآنية نزلت مفتتحة بحرف مفرد؛ كـ "الم، طه، يس، ق، ص، حم"، هذه السور بدأها الله -تعالى- بحروف مفردة، وسورة القلم واحدة منها، هي أول السور نزولا على الإطلاق في هذا الشأن، وهي تسع وعشرون سورة في القرآن كله بدأت بالأحرف المفردة، أولها نزولا: سورة القلم، وآخرها ترتيبا في المصحف هي: سورة القلم، ليس بعدها سورة أخرى افتتحت بحرف مفرد، فهي أول نزولا، وآخر هذه السور ذكرا في ترتيب السور في المصحف.
والنزول من عند الله، وترتيب السور في المصحف من عند الله أيضا، ولله الحكمة البالغة.
"سورة القلم" تكلم العلماء في المراد بالقلم، الله قال: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1]، هذه الكلمة عنها علماء اللغة كلمة عامة، فما في يدك قلم، وما في يدي قلم، وفي العصور السابقة كانت عندهم أقلام، وفي الدنيا كلها أقلام، والأقلام تملأ الحياة في البيوت والمصانع والمصالح، وفي كل مكان.
ومن أشرف الأقلام: قلم تكتب به الملائكة الأطهار الأبرار أعمال العباد، فتسجل عليهم: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
وأشرف الأقلام على الإطلاق: ما ورد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أنه قال، ومثل هذا من ابن عباس وهو لا يعلم الغيب، وما كان يدري ابن عباس هذا إلا سماعا من تحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فهو كلام نسب لابن عباس، لكنه بالتأكيد نقله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فهذا هو المصدر الوحيد لعلم الغيب في الأرض، يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال القلم: وما أكتب يا ربي؟ قال: اكتب ما هو كائن ويكون إلى يوم القيامة" اكتب الحاضر الآن، واكتب ما سيكون من المقدرات إلى يوم القيامة، ولله مقادير في خلقه، أملى الله على القلم وكتب القلم في اللوح المحفوظ، أو في غيره، وهذا ما نقول عنه: كل شيء مكتوب.
هذه هي الأقدار التي قدرها الله في خلقه كتبها الله بهذا القلم، لم يمسك به أحد، إنما يملي الرحمن -سبحانه وتعالى-، ويستجيب القلم لأمر الله، ولله أن يفعل ما يريد.
ولكن لأن الكلمة عامة، فالأفضل عند العلماء وفي مجال العلم أن تبقي العام على عمومه، وذلك لتتشرف الأقلام التي في أيدينا، وليتشرف الممسك بالقلم، والذي يحسن الإمساك بالقلم، بتشرف الإنسان بأنه يقرأ ويكتب، يحصل على محو الأمية، ويشرف بهذه الشهادة، ويتفاخر بها بين الناس، أي أنه يفك الخط كما يقال، يكتب، وربما وضع القلم في جيبه خصيصا ليعلن من يراه أنه يستعمل هذه الأداة، يعرف هذا القلم، ويعرف كتابته، دون أن يتكلم، وضعه هكذا ظاهرا للناس يعلن: أني أستطيع استخدام هذا القلم فخرا، وله أن يفخر، ويفخر من حسن خطه، ويفخر كذلك من يكتب من رأسه، يؤلف ويصنف، يفخر بهذا.
كل هذه محاسن وفضائل، لذلك ترك هذه الكلمة على عمومها يشرف كل الأقلام التي في الدنيا.
ولعلكم تدركون كيف أن القلم الآن عصب حياة، ودائرة معارف، وأداة لا يستغني عنها صغير أو كبير، طالب أو موظف أو معلم، الكل يستعمل الأقلام، وإن تطورت في أيامنا في زر نضغط عليه، فيكتب الزر حرفا على شاشة، أو نحو ذلك، هو أيضا نوع حديث من الأقلام، فكرة جديدة للقلم يكتب بها.
إذاً، نلاحظ أن القلم عنوان على هذه السورة، إذاً، سيزكي الله أحد الناس، أو بعض الناس، أو فئة من الناس في هذه السورة، بذكر القلم؛ لأنه عنوان شرف، فإنه دليل على العلم، طالما يكتب، إذاً، قابل للتعليم، أو هو يتعلم أو متعلم، وربما كان معلما.
بدأت السورة بقسم عظيم من الله الجليل -سبحانه وتعالى- بحرف من الحروف التي لا يعرفها إلا من يقرأ ويكتب الحروف الهجائية: "أ، ب، ت، ث... " وهكذا.. فلا يعرفها إلا قارئ، ولا يمسك بالقلم إلا كاتب، فيقسم الله -تعالى- بهذه الأدوات التي هي أداة ضرورية للعلم: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1] أي وما يكتبون في السطور، (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم: 2] صلى الله عليه وسلمَ، يعني ما أنت بمجنون بسبب ما تبلغ من الرسالة التي أنعم الله عليك بها، لما سمعوه يقرأ القرآن حسدوه، وقالوا: إنه لمجنون؛ كما جاء في آخر السورة: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [القلم: 51] لست يا محمد -عليه الصلاة والسلام- بما أنزل عليك من رسالة ربك لست بمجنون.
والذي ليس مجنونا إذا هو عاقل، وذكر القلم والسطر والكتابة إذًا هو عالم، وإن كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، كما يقرأ الناس، لم يتعلم القراءة عند أحد، ولم يتعلم الكتاب على يد عالم أو معلم، ولكن علم العلم، فأعجز الكاتبين بالأقلام، وأعجز الفصحاء والبلغاء والعلماء، وهو الأمي، فكانت أميته معجزة صلى الله عليه وسلمَ، كانت أميته دليلا على أنه رسول من عند الله.
بدأت السورة بهذا القسم الذي يبرأ النبي -صلى الله عليه وسلمَ- من هذه التهمة.
بل إنك صاحب فضل عظيم قد لا يجده العلماء والكاتبون والقارئون: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4] صلى الله عليه وسلمَ.
أما هم، فهم المكذبون يا محمد -عليه الصلاة والسلام-، أنت لم تكذب على ربك بما تبلغ من رسالة، وإنما هم المكذبون بآياتنا على لسانك، فلا تطعهم، فلا تطع المكذبون، فإنهم يراوغونك على الدين ويساومونك: إن أردت مالا، إن أردت رياسة، إن أردت... ما أردت جمعنا لك، وفرنا لك، ولكن اترك هذا الدين وما تقوله، فرفض النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبى، بما حدثت به الروايات: "والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري -وهذا مستحيل- على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله" على يدي وبسببي، "أو أهلك دونه"، أو أموت في سبيل ذلك، وإن لم يظهر بعد، ويظهره الله على يدي من بعدي، يعني لن أترك بلاغ الدين أبدا -عليه الصلاة والسلام-.
وفضح الله الوليد بن المغيرة؛ لأنه اعتدى على رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وعلى القرآن بالاتهامات الباطلة، حيث بعثه قومه لكي يسمع إلى محمد -عليه الصلاة والسلام-، ويقول فيه قولا ينفر عنه الناس، وكان الوليد شاعرا فحلا خطيرا، أشعر العرب، ويعترف بذلك، ولا ينازعه أحد، فاستمع فما سمع إلا حقا، ولا وجد إلا صدقا، فرجع إلى قومه،، وقال: يا قومي والله إنكم لتعلمون أني أشعر العرب، وأشعركم، أي أكبر شاعر فيكم وفي العرب كلهم، ثم أخذ يمدح فيما سمع، ويقول: "والله ما نطق بهذا الكلام أحد -أي من البشر-، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة"، طلاء جميل، في السمع والإحسان، الشكل الخارجي طلي، أي عليه طلاء جميل، له حلاوة في داخل ومذاقه، ومن الخارج عليه طلاوة، "وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق"، خيره كثير، "وإنه يعلو وما يعلى عليه"، قالوا: حسبك، يكفيك هذا ماذا تقول! ما بعثك قومك إلا لتقول قولا، يعني ما بعثناك لتمدح، وإنما بعثناك لتذم في محمد وقرآنه، فانظر ماذا تقول، إنك تدعو إليه، وتصدقه، قال إذاً دعوني أفكر، أي أدبر الأمر، فخلا بنفسه، واتخذ غرضا ثابتا ببصره، وركز واستحضر شيطانه، وقوى الشر في نفسه، فقال باطلا، خالف به الحق الذي اعترف به من قبل، قال الله -تعالى- تصويرا لهذا الموقف: (ثُمَّ نَظَرَ) [المدثر: 21] نظر أي ركز نظره (ثمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) ثم قتل كيف ، ثم قتل كيف قدر، أي لعن * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر: 22 - 24] يعني ما هذا الكلام الذي يقوله محمد -صلى الله عليه وسلمَ- إلا سحر يؤثره عن جن تلبس به، أو يأتيه به، يعني عنده مس، والجني الذي يمسه يلقي عليه كلاما يتكلم هو به، ويزعم أنه كلامه. إذاً، هو مجنون، أي به جني، ومن كان به جني يسيطر الجني عليه، فيقول عنده ما يسمى بانفصام الشخصية، وهذا نوع أو لون من ألون الجنون، مرة يضحك، ومرة يبكي، مرة يستقبلك استقبالا حسنا، ومرة يسبك ويلعنك في وجهك، ما هذا؟ (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر: 24] أي إن هذا إلا كلام يؤثره عن جني، إذاً هذا كلام جني، (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر: 25] أي ما هذا إلا كلام من كلام البشر، وهذا هو خيط الجريمة الذي دلنا على كذب هذا الرجل، من يسمع كلامه يعلم أنه كذاب أفاك مفترٍ، لماذا؟ لأنه تخبط، فوصف القرآن بأنه كلام جن، ثم وصفه بأنه كلام إنس، هو كلام جن أم كلام بشر؟! إذاً أنت لا تعرف، ترددت بين شيئين فاشتبه عليك الأمر فأنت الذي بك الجنون، وليس لديك معرفة.
من أجل هذا الله -تعالى- قصه، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلمَ-: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ) [القلم: 10 - 12] كل هذه صفات ذميمة للوليد بن المغيرة، (عُتُلٍّ) أي جاف وغليظ وظالم، (بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم: 13] أي يعني فوق ذلك، أي كل ذلك ليس شيئا، كل هذه الصفات الذميمة قد تحتمل، قد نقبل الوليد بعمله هذا، لكن ما لا يحتمل، ما لا يسكت عنه أحد، أي أنه بعد كل ذلك: (زَنِيمٍ) أي ولد الزنا، ولكن كلمة القرآن كلمة إلهية ربانية كريمة، كلمة أدبية راقية: (زَنِيمٍ) هذه عند العرب معروفة: أنه ولد منسوب إلى غير أبيه، سمعها الوليد بن المغيرة بلاغا من الناس: أتدري بماذا هجاك محمد؟ قال: وماذا قال؟ قال يقولون: كذا وكذا: (زَنِيمٍ)، كان من المفترض أن يرجع الوليد إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ليقاضيه في هذه التهمة، من أين جئت بها، حفاظا على صورته الظاهرة على الأقل بين الناس وسمعته وشرفه، وكذا.. ولكن سرعان أن عاد إلى أمه وتحقق منها الخبر. إذاً، لا بد أن تدرك أنه صدق محمدا -صلى الله عليه وسلمَ- وهو يكذبه، لكنه عندهم مصدق لا يقول باطلا، ولا كذبا أبداً، فلما بلغته عنه أخذها، وصدقها، ولكن ذهب يتحقق من أمه، يا أماه: أنا ابن من؟ قالت: أنت ابن المغيرة يا وليد، قال: ما كنت لأكون ابنا للمغيرة، ولا كان المغيرة ليكون أبي، قالت: ما دهاك يا بني؟ من قال لك هذا؟ قال: قالها محمد، ومحمد لا يكذب أبداً -عليه الصلاة والسلام-، ولكن يقول هذا الكلام الحق بينه وبين أمه فقط، في بيت أمه، لا تسمعه قريش، ولا يسمعه الناس، قال: قالها محمد، ومحمد لا يكذب أبداً، قالت: يا بني كان أبوك عنينا لا ينجب، وكان ذا مال كثير فخشيت على ماله، فعمدت إلى الراعي فلان، فضاجعته، فأنت ابن الراعي فلان، وصدق الله ورسوله -صَلى الله عليه وسلم-. ولو كان المغيرة طأطأ رأسه لله، وتواضع وصدق، وآمن، لستره الله -تعالى- إلى آخر الدنيا. فكم من مستور حال ولا يعلم حاله إلا الله، ولكن الله يعفو عن كثير، لكنه لما عاند هكذا هذا العناد الشديد، وبعد أن عرف الحق أدبر واستكبر عنه، الله -تعالى- طعنه بهذه الطعنة التي لا بد أن تعلمها الدنيا.
هذه الحالة في الكافرين في كفار مكة يصورها الله -تعالى- لهم وللدنيا بحال أسرة كانت باليمن قريبة منهم في الجزيرة، ويعلمون خبرها، وكأن خبر هذه الأسرة شاع، فإنه كان حدثا خطيرا عجيبا، وذلك أن رجلا صالحا كان يجني ثمر حديقته بالنهار، فإذا دخل عليه أحد من المساكين لا يرده، ويتركه يأخذ ما يأخذ، ويقول: لن يأخذ أكثر من رزقه، ويقول: خذ ما شئت وانصرف، وهذا يأخذ، وهذا يأخذ، والكل يرزق، ويبقى الباقي لصاحب الحديقة، فلا يرد عنها مسكينا، مات هذا الأب يوما من الأيام، وله عشرة من الأبناء، فقالوا: كان أبونا وحيدا، فمهما أعطى من ثمار الحديقة ما تبقى يكفيه، ولكننا الآن صرنا عددا، فلو أخذ الفقراء منا شيئا لنقصوا من نصيبنا وحظنا، فتعالوا نجني ثمار حديقتنا في الغد صباحا باكرا قبل أن يستيقظ المساكين، ونتعاهد ألا يدخلها أحد منهم. وهم كذلك في الليل الله أرسل طائفًا مكا من الملائكة في الليل فاحرقها، فلم يبق فيها ولا ثمرا، صارت أرض سوداء محترقة، انطلقوا في الصباح المبكر، وهم يتخافتون، (فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ) [القلم: 21] كل نادى على الآخر، انطلقوا في طريقهم وهم يتخافتون فيما بينهم بالكلام، ويتفقون ويؤكدون على اتفاقهم: (أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) [القلم: 23 - 25] أي على اتفاق مبرم، وعهد موثق، لا ينفك أبدا، حتى وصلوا إلى حديقتهم، (فَلَمَّا رَأَوْهَا) لم يروا شيئا من حديقتهم، رأوا سورا وفيه أرضا محترقة، (قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) [القلم: 26] ضللنا الطريق يا إخواني، ينبغي أن نبحث عن حديقتنا من جديد، فلنركز في الطريق. وكأنهم استداروا يمينا وشمالا ليعودوا إلى الطريق القديم، فرأوا هذه أرض فلان، وهذه علامة فلان.. هذه حديقتنا بالفعل، ولكن ليس حديقة، هل أخذها أحد ووضع هذه مكانها؟! (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) [القلم: 26] في لحظة حينما رأوا هذه العلامات، قالوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [القلم: 27] بل حرمنا الله من حديقتنا كما عزمنا على حرمان عيال الله من الفقراء والمساكين، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ) [القلم: 27 - 28] أعدلهم، أصلحهم، ولا تخلو مجموعة من ناصح أمين دائما وأبداً، يجعل الله بين كل مجموعة فردا ناصحا، ينصحهم، ويذكرهم، (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لكم) أما قلت لكم بالأمس: اتقوا الله، لا داعي لهذا، لا تقدموا عليه، اخشوا وخافوا ربكم، أَلَمْ أَقُل لكم؟ وكأنهم قالوا كلاما لم يذكره الله، ولكنه يفهم مما بعد ذلك، قالوا: لا تلومنا الآن، الآن نحن لسنا في حاجة للملامة الآن، يكفي المصيبة التي حلت بنا، إن كانت عندك نصيحة أخرى انصحنا بها، قال: (لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) [القلم: 28]، اذكروا الله وسبحوه، وكل ذكر الله يسمى تسبيحا إجمالا في اللغة، (لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) يعني دعاهم أن يسبحوا بالتوبة والاستغفار والندم، (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ) [القلم: 29 - 30] أنت السبب، أنت الذي أشرت، أنت الذي بدأت، أنت الذي قلت.. وهكذا.. (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) [القلم: 31 - 32] تذكر الروايات: أن الله أبدلهم خيرا منها بالفعل.
ذكر الله قصة أصحاب الجنة في هذه السورة في هذا المكان مناظرة لكفار مكة: بينكم رجل هو نعمة، كما أنعم الله على أصحاب الجنة والحديقة بحديقتهم العظيمة، فهذه نعمة بينكم رسول الله، (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) [الحجرات: 7] هذه نعمة عظيمة جليلة، شجرة مثمرة، ثمرا يانعا لا تجدون مثله في الدنيا، فاغتنموه، فوزوا به، ولو أنكم اعتديتم عليه، وتعديتم حدود الله فيه، (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29]، الله سمح بهذا، لكن ما سمح بالاعتداء على رسوله، ولا بسبه، ولا بحرق القرآن، ولا بشيء من هذا، فلا تعتدوا، فإن اعتديتم فستكونون كأصحاب الجنة الذين اعتدوا على حق الفقراء والمساكين، فتحرمون من جنتكم هذه، وحديقتكم هذه، وشجرتكم المثمرة، وثمارها اليانعة، تحرمون من كل هذا، وينعم بذلك كله غيركم، وقد حدث بالفعل، نَعم بالنبي -صلى الله عليه وسلمَ- أهل يثرب، سمى يثربهم: "المدينة"، وصارت طيبة بحلول رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فيها، وصارت من أفضل بقاع الأرض، "من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليمت"، لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلمَ- هذا في شأن مكة، مع أن مكة مكرمة أيضا، ولكن المدينة أفضل في ذلك. كان الإمام مالك يحتج بعمل أهل المدينة؛ لأنهم هم أقرب الناس إلى آخر عهد برسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، المدينة من أفضل المدن في الدنيا بمن كانوا فيها خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فنعم به أهل المدينة، ولكن لأن أصحاب الجنة استغفروا، وقالوا: (عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) [القلم: 32] عاد إليهم النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إلى أهل مكة بعد ذلك، وهو أفضل مما كان، قوي شأنه، كثر جنده، قامت دولته، عز شأنه ما شاء الله، ورجع فاتحا لمكة، وفرح به أهل مكة، ونعموا به، ولكن مؤخرا، ودخل الناس يوم فتح مكة في دين الله أفواجا.
كانت هذه القصة معبرة وممثلة لحال أهل مكة، تحذرهم أولا بأن لا يقعوا فيما وقعوا فيه، ولكنهم لم يفهموا العبرة، فأصابهم مثل ما أصاب أصحاب الجنة، ذلك لأن الله -تعالى- يحق الحق، ويبطل الباطل، إذًا أصحاب الحق مكرمون، وأصحاب الباطل مهانون، لا يستوي المؤمن والكافر أبدًا، (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [القلم: 34]، إذاً، للطاغين جهنم -كما سيأتي في سورة القلم-، وكما سبق في سور أخرى، الله يريد أن يكون الناس أهل تقوى وأهل دين حتى يدخلهم الجنة التي أعدها لهم، وأعد الله لكل إنسان مكانا في الجنة، كما أعد لكل إنسان مكانا في النار، ولكن حث الناس على أن يدخلوا الجنة، فمن دخل الجنة وجد مكانا ومكانا، ومن دخل النار وجد مكانه فيها -نعوذ بالله من النار ونسأله الجنة-.
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم: 35]؟ في أي كتاب هذا؟ أم أننا عهدنا لكم بذلك ووثقنا العهد بالحلف والقسم قبل ذلك؟ أم لكم شركاء شرعت من دوننا أن الكافر والضال خير من المؤمن المتقي؟ أرونا هؤلاء الشركاء؟ فإنه سيأتي يوم القيامة يوم شديد من شدته يعبر عنه بأي شدة؟ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ)، إذا كشف عن الساق يعني يقول القائل مثلا: كنا في موقف كذا، وكشف الناس عن سيقانهم، معنى ذلك أن الموقف اشتد واحتدم، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) [القلم: 42] يعني هذا الموقف يوم القيامة بين يدي الله موقف شديد، (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) [القلم: 42] لا يوم مثله، في فزعه وهوله وعظمه وجلاله، ويوم الفصل، وفي الحديث: "يكشف الله -تعالى- عن ساقه"، وذلك تعبيرا أن الأمر شديد جدا، نشعر بذلك حين يقف الإنسان للحساب، نشعر بذلك حينما نقف للمحاسبة في امتحان شفوي، نقف للمحاسبة أمام ضابط شرطي أو قاض، أو نحو ذلك، من أهل الدنيا، فما بالك والوقفة بين يدي ملك الملوك -سبحانه وتعالى-؟ (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر: 16]، (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6].
وقد كان هؤلاء يدعون إلى الطاعة وإلى الدين الذي رمزه وقوامه وعمود: الصلاة: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم: 42]، يوم القيامة يعلن الله أنه الملك المتفرد بالملك يومها، والكل يخضع لله، فيدعى الخلق للسجود بين يدي الله -عز وجل-، فأناس -جعلنا الله منهم- يستطيعون الركوع والسجود، وينعمون بالخضوع للملك الرقيب الودود -سبحانه وتعالى-، وأناس آخرون يأتون ليسجدوا وينفذوا الأمر، فلا يستطيعون، تصلبت ظهورهم، يميزون بهذا حتى يعلم عنهم أنهم أهل العصيان، (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم: 43]، كانوا في الدنيا يدعون إلى الصلاة وإلى الطاعة وإلى الخضوع لله -عز وجل- (وَهُمْ سَالِمُونَ)، جعل الله جسمهم حافلا بالمفاصل التي تمكنهم من الركوع والسجود، ونحوه، ولكنهم عصوا ربهم -سبحانه وتعالى-، وتمردوا على أمر الله، فلا يمكنون من هذا الشرف الذي يرحمهم الله به يوم القيامة، (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ * فَذَرْنِي) [القلم: 42 - 44] اتركني، (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ) [القلم: 44 - 45] قد أطيل لهم في الأجل، أوسع لهم في الأرزاق في الدنيا، أعلي سلطانهم، فيظنون أنهم أهل شرف، وأهل عز، ثم آخذهم فجأة، (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: 45]، إلى خواتيم السورة، حيث يأمر الله نبيه -صَلى الله عليه وسلم- ولك أن تقف طويلا، وقفا لا يتسع له هذا المقام، قف طويلا هناك، وانظر من الذي يأمر بالصبر؟ ويأمر من؟ وبالصبر على من؟ الله العظيم الجلال القادر القهار الذي أمره بين الكاف والنون، يأمر نبيه نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلمَ- أن يصبر على الكافرين الذين كذبوا وكفروا بالله! أرأيت أي ملك من ملوك الدنيا يصبر رجاله على شعبه؟! أريدكم يا أعواني، يا بطانتي، أرجوكم أن تكونوا رحماء بالشعب، حتى وإن سبوني، حتى وإن لعنوني، حتى وإن مقتوني، حتى وإن خالفوا قانوني، عاملوهم برفق، ما رأيك بهذا الملك؟ إنه ملك رحيم، أرحم من رجاله، أرحم من سلطته، سبحان الله! هذا لم نجده في الدنيا إنما هو من أوصاف الله العظيمة، مع مع قهره وقوته التي لا حدود لها هو ذو رحمة لا حدود لها. إن كنت علمت عن رسولك -صلى الله عليه وسلمَ- أنه نبي الرحمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) [آل عمران: 159]، فاعلم أن الله أرحم بنا من رسولنا -عليه الصلاة والسلام-، بل هو أرحم بنا من أمهاتنا وآبائنا، (فَاصْبِرْ) يا محمد -عليه الصلاة والسلام-، يا نبي الله، (لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي اصبر حتى يحكم الله في أمر هؤلاء، (وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ) سيدنا يونس -عليه السلام- ماذا فعل؟ وعماذا ينهى نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام- أن يفعل ما فعل يونس؟
أول ما كذبه قومه: غضب، وتركهم وانصرف ودعا عليهم: أن يفصل الله في أمرهم، لم يصبر، لم يحلم عليهم، ذهب مغاضبا، فعاقبه الله وعاتبه بأن ابتلعه الحوت، ثم أخرجه وأعاده إلى قومه، فكان القوم بعد ذهاب يونس مغضبا كانوا قد أخطؤوا، فأدركوا خطأهم، ورجعوا إلى صوابهم، فقالوا: أغضبنا يونس، ويونس طيب، ما كان لنا أن نفعل هذا به، وقاموا على أمر الله الذي بلغهم إياه، وهو غائب عنهم، فعاد عليهم بعد فترة فوجدهم صالحين طيبين مصلحين، وكان قد زاد عددهم، وتناسلت أنسالهم، وولدهم يقاربون المائة ألف أو يزيدون، في حدود هذا، وتحديد العدد في الإسلام غالبا في أمور كثيرة لا يهم، إنما تراهم، تظن أنهم مائة ألف إنسان، تعدهم تجدهم يزيدون على ذلك، لكن بالنظر مائة ألف: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147] ليس شكا من الله، ولكـن يذكر العدد الإجمالي والعدد التفصيلي، (وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم: 48] يعني لا تستعجل لهم العذاب يا محمد، يكذبون ويعاندون ويحاربون، فاصبر عليهم، واصبر، واصبر، (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القلم: 48 - 50].
وتختم السورة الختام الأخير الذي يربط آخرها بأولها: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) [القلم: 51] أي يحسدونك ويقتلونك حسدا بأعينهم، والمحسود هذا لا شك أن في يده نعمة، فإن كل ذي نعمة محسود، ولو لم تكن في يده نعمة، هذا لا يحسد، على ما يحسد؟ ليس عنده شيء؟ طالما حسده الناس إذاً عنده ما يحسد عليه.
هي نعمة في أول السورة: (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم: 2] الرسالة، النبوة، القرآن، الذكر الجميل، (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [القلم: 51]، ويقولون ليصرفوا الناس عنك، ألا يفتن الناس بمنطقه العذب، بقوله الجميل، بالقرآن الذي يأتي به يعجز الناس، لئلا ينشغل الناس بهذا، فيصفونه بالجنون لصرف الناس عنه، (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) [القلم: 51 - 52]، وهنا مع ختام سياق السورة تلمح أن الله -تبارك وتعالى- نفى أولا عن رسوله -صلى الله عليه وسلمَ- تهمة الجنون بالقسم المؤكد، وفي آخر السورة وفي تمام الحديث حكى الله تهمة الجنون، فإنه مبرأ قبل أن يقولوا هذا الكلام، براءته ثابتة عند الله من الأزل، ليس مجنونا، ورغم ذلك يقولون: إنه لمجنون، تاريخه في العرب صلى الله عليه وسلمَ قبل أن يقول هذا الذكر، ويقرأه على الناس: ليس مجنونا، ومثله لا يجن، ومع ذلك يقولون: إنه لمجنون. فمقدمة حياته، وسابقة ذكره عند الله، ليس مجنونا، ورغم ذلك يقول هؤلاء الكفار في مواجهة هذه الحقائق الثابتة: إنه لمجنون، فقولهم باطل، لعنة عليهم، لعنهم الله بذلك.
إذاً، هذه السورة فيما رأينا هكذا هدفها: تزكية رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أنه ليس مجنونا، إذاً هو عاقل، بل هو أعقل الناس، وورد في الأحاديث الصحيحة: "لو وضعت أحلام الناس في كفة وحلم رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- في كفة لرجح حلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، والمقصود به العقل، لو وضعت عقول الناس جميعا في كفة، ووضع عقل النبي -صلى الله عليه وسلمَ- في كفة لرجح عقل رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- بعقول بني آدم كلهم. وإنه عاقل، نعم أمي لم يقرأ ولم يكتب كحال الناس، ولكن علم من رب الناس: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء: 113]، والأحاديث التي قالها بلسانه وبكلامه هو فضلا عن القرآن الذي بلغه عن ربه يعجز الناس أهل العلم إلى اليوم؛ كحديث: حبة البركة، وحديث: الذبابة إذا سقطت في إناء أحدكم، وأحاديث كثيرة، وحدث النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بغيب سوف يحدث فيما بعد، وقد حدث بالفعل، حدث أن أبا ذر سيموت غريبا ومات غريبا فعلا، حدث أن الحسين سيصلح الله به بين فئتين متقاتلتين، وقد حدث بالفعل، حدث بكذا وكذا، وقد حدث بالفعل، وعد صلى الله عليه وسلمَ سراقة أول ما أسلم وعده بسواري كسرى، حينما نفتح فارس يا سراقة سوف نعطيك سواري كسرى، سوار من الذهب خاصة بالملك، ولم تفتح فارس إلا بعد عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، وتحققت نبوته في حياة عمر -رَضي الله عنه-، ووهب عمر سراقة سواري كسرى، كما بشر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، لما تكلم من ألف وأربعمائة: أن أهل هذا الزمان الأخير سوف يرون صنفين من أهل النار، هو صلى الله عليه وسلمَ لم يرهما في زمانه: قوم بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، هذا الصنف سمعنا عنه، ومن رأى فقد رأى، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، وقد رأى الناس جميعا هذا الصنف الأخير أيضا، وذلك من تطبيق ومن صدق كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-.
فهذه السورة تزكي النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بنفي تهمة الجنون الذي اتهمه بها الكفار في مكة، وتزكيه عليه الصلاة والسلام بخلقه العظيم الذي كان متملكة منه ليس صورة مصطنعة يتظاهر بها أمام الناس، ولكن كانت متملكة منه، ومتملكا منها: "كان خلقه القرآن"، وهذه دنياه، أما آخرته: (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) [القلم: 3] أي غير مقطوع، لا حدود له عند ربك يوم القيامة، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 5]؛ كما قال في سورة أخرى، وهكذا تزكية النبي -صلى الله عليه وسلمَ-.
وهذا من تصريف الله لأمر الخلق.
"سورة الملك" كانت تتحدث عن تصرف الله في الكونيات، السموات والأرض وما فيهما، وما بينهما، لو نذكر ذلك، "سورة القلم" تبين أن من تصريف الله في الخلق: أن بعث إليهم رسلا كلما رأى منهم تيها وضلالا في هذه الحياة، فيبعث إليهم ومنهم هاديا يهديهم إلى الصراط المستقيم، فهذا من تصريف الله، ومن رعايته لخلقه، فلماذا تكذبون بالتشريعات الإسلامية؟! إذا كنتم رأيتم أن الله خلق الخلق، وكون الكون بطريقة حكيمة، لمستم حكمته فيها، ولمستم دقة الصنع، وروعة النظام، وانتظام الأمر، فلماذا لا تريدون أن ينظم الله حياتكم؟ أن يشرع قوانينكم؟ لماذا تنقسم شخصيتكم بين الكون وبين التشريع لله عز وجل-؟ (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف: 54]؟ ومن ذلك: أن بعث رسولا في آخر الزمان خاتما للنبيين والمرسلين -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-، بعث هذا الرسول وهو ليس بمجنون، بل منعم عليه من ربه، بل خلقه عظيم، وهو عليه متمكن: (وَإِنَّكَ لَعَلى) [القلم: 4]، كلمة: "على" هذه تفيد تمكن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- من الخلق، ليس شكلا ظاهرا، ليس ثوبا يلبسه ويخلعه، إنما شيء من مكونات شخصيته، من خلايا جسمه. هذا الخلق العظيم فلماذا تكذبون به؟ ولماذا تعارضونه وتخالفونه؟ لماذا تسبونه؟ لماذا تقولون عنه إنه مجنون؟ لماذا تنفرون الناس عنه؟ كذبتم وكفرتم لأنفسكم فحسبكم ذلك، ودعوا كل إنسان يختار عقيدته بنفسه؟ لماذا من دخل في الإسلام تقتلونه؟ ومن ترك الإسلام وإلى غيره رحبتم به؟ لماذا؟! لماذا هذا التفريط؟ لماذا تجبرون الناس وتخوفونهم من أن يدخلوا في الإسلام؟ لماذا تصورون الإسلام على أنه وحش يريد أن يفترس العالم؟ أنه إرهاب يريد أن يكتسح الدنيا؟ لماذا؟ لماذا تصدون عن سبيل الله؟ صددتم عنه أنتم فأنتم أحرار في أنفسكم، ولسوف تسألون عند الله -عز وجل- يوم القيامة: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف: 29]، ولكن أسوأ من الكفر: أن يسعى الكافر في تكفير غيره، وفي تكفير من وراءه، وفي تضليل الناس، هذا من أشنع الجرائم -والعياذ بالله-.
أن تحرق المصحف هذه مصيبة المصائب، اعتداء سافر ليس على المسلمين فقط، بل على المقدسات كلها، بل على صاحب هذا الكلام، الله -سبحانه وتعالى-، جرأة فاضحة، والله من حلمه يتركه يعيش، ويتنفس الهواء، نحن لا نتحمل هذا، ندعو أن يلقمه الله ترابا في حلقه، نارا في جوفه، حتى يموت من ساعته، وأن يرينا الله فيه آية، ولكن الله يحلم ولا يستجيب لنا إلا حيث يشاء -سبحانه وتعالى-؛ لأنه هو الذي صبر النبي على الكافرين: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) [القلم: 48] اصبروا لحكم ربكم، سوف يلقي كل جزاءه، ما أدراك لعل الله يؤخره ليفعل مثلها ومثلها فيزداد عذابا عند الله -تعالى-؟ لو عذبه الآن لعذبه واحدة، ولكن يريد الله أن يعذبه عشر مرات، فاتركوا الأمر لله، (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)، ولكن لماذا هذا؟ لماذا؟ لماذا نحجر على أفكار الناس؟ لماذا نحجر على اختيار الإنسان؟ طنطنت الدنيا تشكيكا في الإسلام: هل نحن مخيرون أم مسيرون؟ وابتلع المسلمون الطعم، وذهبوا إلى علمائهم يجادلونهم ويشاكسونهم لا مناقشة للعلم، ولكن مشاكسة، ومجادلة بالباطل، ولكن لماذا نحن مسيرون؟ أليس مسيرين في كذا؟ لماذا يحاسبنا الله عليه؟ لماذا؟ ولماذا..؟! تحاسب من؟ تسأل من؟ الله هو الذي فعل، الله هو الذي أمر.
ولماذا أنتم -يا أعداء الإسلام- تريدون أن تسيروا البشرية تسيرا أعمى في طريق لا يدرونه ولا يعلمونه ولا يشعرون بغيره، يجهلونهم بالإسلام، ومن سمع بالإسلام يسمع عنه سمعة تنفره؟ لذلك لما حدث ما حدث في سبتمبر من أحداث، وسمعوا أن المسلمين فعلوا وأن الإسلام إرهاب، وأن.. وأن.. بدأ الكفار يقرؤون عن الإسلام، ما هذا الإسلام الذي ضرب أعظم قوة على رأسها في أرضها؟ إذاً، هذا الإسلام قوي، نحن نحب الأقوى، من هذا الأقوى؟ قرؤوا عن الإسلام، فوجدوه فعلا أعز وأقوى، ضرب أم لم يضرب هذه مسألة قضائية يحسم فيها في القضاء، ولكن هذا الذي ينسب إليه، هذا الإرهاب الذي أرعب العالم إنه لقوي، فرغبوا فيه، وجدوا دينا طاهرا، رحيما، لطيفا، صدقا، حقا، فدخل الناس في دين الله أفواجا، آلافا مؤلفة دخلت في أمريكا وفي أوروبا الإسلام بسبب هذه الحادثة.
يحاربون الحجاب والنقاب، وكذا.. وكذا، ويقولون عنه ما يقولون، فإذا النساء في أوروبا وأمريكا لا حدود لهم في ملابسهم فيلبسون ويخلعون كما يشاؤون، يقرؤون ويقولون: لماذا يحاربون حريتنا؟ أليست هناك حرية؟ أليست هناك ديمقراطية؟ إذاً في هذا الملبس سر، لماذا يخيفون العالم؟ فيقرؤون عن الحجاب والنقاب، فيرون جمالا، عفة، كرامة، حفاظا على المرأة، إنه يعني أن المرأة غالية، لا أحد يرى منها شعرة إلا بحق أن يطلبها من وليها بمهر، ثمن مكرم، وعلى ملأ من الناس، الناس كلهم يدعون إلى دعوة مفتوحة عامة، فتعجب المرأة الأوربية والأمريكية بذلك فيدخلن في دين الله -تعالى- أفواجا، وهكذا.. ديننا كلما ضرب وأمحن بالمحن منح المنح، وظهر جماله كالحديد وكالذهب كلما أدخلته النار استطعت أن تشكيله في أشكال تريح نفسك، وتعجب مزاجك، وهكذا..
لما تكلم الله عن الكونيات في السورة السابقة تكلم على أنها هو صاحب التشريع في هذه السورة، لما ختم الله السورة السابقة: بما يفيد أن الكافرين هم الضالون، نهى النبي -صلى الله وسلم- ونحن وراءه: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم: 8].
لما ختمت السورة السابقة بسؤال قد لا يعرف البعض تلميحه، هو سؤال فيه تلميح، فيه أدب، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الملك: 28]؟ يعني إما أن يهلكنا الله أو يهلككم، يعني نحن على الضلال أو أنتم، (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الملك: 29]، فالسورة لمحت بهذا السؤال، وهذا أدب في الدعوة، لطف في الدعوة، ألا تزكي نفسك وأنت داعية إلى الله، إنما تمثل على نفسك، لا تشر على أحد من الناس ولو إشارة عشوائية، وتقول: أنت تفعل كذا، وأنت تفعل كذا.. وكأنك تعد ذنوب الناس، وأنت أيها الداعية صاغ سليم، ومعدن نفيس، ومعصوم من الخطأ؟ لا، قل: أنا لو فعلت كذا أكون كذا، أنا لو ظلمت، أنا لو سرقت، أنا.. أنا.. أنا، تكلم عن نفسك هذا ألطف في الدعوة، والنبي -صلى الله عليه وسلمَ- علمه ربه أن يقول: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 24] بدأ بنفسه، فصل الله في هذه القضية في أول السورة: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القلم: 7].
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن لا يحرمنا من القرآن أبداً حتى يكون رفيقا لنا في قبورنا وقيامتنا، ونرقى فيه في الجنة مع صحبة نبينا -عليه الصلاة والسلام-.
أقول هذا القول، وأستغفر الله -تعالى- لي ولكن فاستغفروه دائما إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ولزوم طاعته، وأحذركم من عصيانه -تعالى-، ومخالفة أمره، فهو القائل -سبحانه وتعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
إخوة الإسلام: اعلموا أن هذه السورة تشير إشارة واضحة إلى شرف العلم، أي أن إسلامنا يشجع على العلم، ويدعو إليه، ويحث الناس إلى الإمساك بالأقلام، وإلى الكتابة، وإلى القراءة، أول ما نزل: (اقْرَأْ) [العلق: 1]، ومن أوائل ما نزل: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1]، يقسم الله بالقلم والكتابة، والقسم لا يكون إلا بشيء عظيم جليل، فقسم الله بهذه الأدوات، وهذه الأشياء، تعظيم لها، فعظموا العلم، وعليكم بالعلم، تعلموا الدين بالدرجة الأولى، ومن أوائل الدين تعلموا ما يمكنكم من عبادة ربكم، فهذا علم مفروض على كل مسلم ومسلمة، تعمقوا في علم الدين، توسعوا، تعلموا اللغة العربية، فإنها تعينكم على فهم القرآن، وفهم الحديث النبوي الشريف، تعلموا كل علم دنيوي في الطبيعة، وفي الكون، نافع للخلق، مُرضٍ للرب -سبحانه وتعالى- فهو علم نافع وعمل صالح.
يا ليتك تكون أنت الناصح الأمين، عندما ترى قوما يجتمعون معك على شر، على نية غدر، فكن أنت الناصح لهم، أنت الراد لهم عن هذا الغي والضلال، قل لهم: اتقوا الله، فما أجمل هذه الكلمة، قالها رجل لأمير المؤمنين عمر -رَضي الله عنه- وهو أمير للمؤمنين صاحب دولة عريضة، وملك عظيم في الأرض، وجنود بواسل: "اتق الله يا أمير المؤمنين"، فقال له رجل: أتقول هذا لأمير المؤمنين؟! كيف تقول هذا؟! يريد أن يجامل، فقال عمر: "