الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
من وفاءِ القلوب والصدقِ في محبَّةِ رسولِ الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - ومودَّته: محبَّة ما كان يحبُّه؛ فإن مُوافقة الحبيب في مشاعِره برهانٌ صادقٌ على ذلك. فمحبَّة أزواج رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - وصحابته وأهل بيته واجبٌ شرعيٌّ منوطٌ بمحبَّته، وحقٌّ لا ينفَكُّ عن مُتابعَته، ومُقتضَى فعلِه وقولِه: «لا تسُبُّوا أصحابي»...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهَ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فأُوصِيكم - أيها الناس - بالتقوَى؛ فهي السعادةُ في الدنيا، والنجاةُ في الأخرى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].
عبادَ الله: لقد اختارَ اللهُ واصطَفىَ وفضَّلَ نبيَّنَا محمدًا - عليه الصلاة والسلام - على كافَّةِ الناسِ وسائرِ المخلوقات، فبعثَه رحمةً للعالمين، وخاتمًا للأنبياءِ والمرسلين إلى هذهِ الأمةِ شاهِدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنِه وسراجًا منيرًا.
وقد اختارهُ الله من أنفَسِ معدنٍ وأشرفِ محلٍّ، وأفضلِ زمانٍ ومكان، وزكَّاه بأكملِ وأحسنِ وأفضل الصفاتِ والأخلاق، وفضَّله على جميعِ خلقِه، شرحَ له صدرَه، ورفعَ له ذِكرَه، ووضعَ عنه وِزرَه، واصطفَاه في كل شيء:
اصطفَاه في عقلِه فقال - سبحانه -: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) [النجم: 2].
اصطفَاه في خُلُقه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].
اصطفَاه في حِلمِه فقال: (بِالمؤمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
اصطفَاه في علمِه فقال: (عَلَّمَهُ شَديدٌ القُوىَ) [النجم: 5].
اصطفَاه في صِدقِه فقال: (وَمَا يَنطِقُ عَن الهوىَ) [النجم: 3].
اصطفاه في صَدرِه فقال: (أَلم نَشْرح لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح: 1].
اصطفَاه في فؤادِه فقال: (مَا كَذَبَ الفُؤادُ مَا رَأىَ) [النجم: 11].
اصطفاه في ذكرِه فقال: (وَرَفعنَا لَكَ ذكْرَكَ) [الشرح: 4].
اصطفَاه وأرضَاه فقال: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 5].
وقد قرَنَ اللهُ طاعتَه بطاعتِه، ومحبَّتَه بمحبَّتِه، فلا يُتعبَّدُ الله ولا يُتقرَّبُ إليه إلا بما شرعَ على لسانِ نبيِّه محمدٍ - عليه الصلاة والسلام -، وليس للجنةِ طريقٌ إلا طريقُه، وهو سببُ هدايةِ الناسِ ونجاتهِم، وهو صاحبُ الشفاعةِ الكُبرى، يوم يفرُّ المرء من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبته وبَنِيه.
وقد استقرَّ في الفِطرِ السليمة، والعقولِ الصحيحة حبُّ من كانت هذه أخلاقُه وتلك صفاته، واجتمع لنبيِّنا - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - أعظمُ حظٍّ وأوفرُ نصيبٍ، فمحبَّتُه فرضٌ لازِم، وركنٌ واجب، وشرطٌ في الإيمان، قالَ تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31]، وقال: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
يقول القاضي عياض - رحمه الله -: "فكفَى بهذا حظًّا وتنبيهًا ودلالةً وحُجَّةً على إلزامِ محبَّته، ووجوبِ فرضِها، وعظمِ خَطرِها، واستحقاقِه لها - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -؛ إذْ قرَّعَ الله من كان مالُه وأهلُه وولدُه أحبَّ إليه من اللهِ ورسولِه، وتوعَّدهم بقوله تعالى: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) [التوبة: 24]، ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلَمهم أنَّهم ممن ضلَّ ولم يهدِه الله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24]".
وفي "صحيح البخاري"، عن عبد الله بن هشام - رضي الله عنه - قال: كنَّا مع النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - وهو آخِذٌ بيدِ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال له عمرُ: يا رسول الله! لأنت أحبَّ إلَيَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي، فقال النبي - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -: «لا والذي نفسي بيده؛ حتى أكونَ أحبَّ إليكَ من نفسِك يا عُمر»، فبادَرَ عمرُ - رضي الله عنه - فقال: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إلَيَّ من نفسي، فقال النبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -: «الآن يا عُمر».
وعن أنسٍ - رضي الله عنه -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤمِنُ أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِه والناسِ أجمعين» (رواه البخاري).
فهذا برهانٌ أن محبَّته أصلُ إيمانيٌّ، وواجبٌ شرعيٌّ، وفي المُقابِل فإنه بُغضَه ناقضٌ إيماني، وفسادٌ اعتقاديٌّ، وكمالُ حبِّه من كمالِ الإيمان، ونقصُه من نقصِ الإيمان.
عباد الله:
إن محبَّةَ رسولِ الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - طاعةٌ يُتقرَّبُ بها إلى الله، مُقيَّدةٌ بالشرع، ولها دلائِلُها وأماراتُها التي تُظهِرُ حقيقةَ المحبة وصِدقَها.
من ادَّعى محبَّةَ الله ولم | يسِر على سنَّة سيِّد الأُممْ |
فذاك كذابٌ أخُو مَلاهِي | كذَّب دعوَاه كتابُ الله |
ومن أهمِّ دلائلِ محبَّته: اتباعُ سنَّته والتمسُّك بهَديه؛ فإن المحبَّة تقتَضِي الوفاق والاتباع، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران: 31].
ومن دلائلِ محبتِّه: نصرتُه والذبُّ عنه وتبليغ سنَّته، قال الله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفتح: 8- 9].
وتعزِيرُه يكونُ بنصرِه وتأييدِه. وتوقِيرُه يكون بإجلالِه وإكرامِه - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -.
وقد ضربَ الصحابة - رضوانُ الله تعالى عليهم - أروعَ الأمثلةِ في محبتِه وتقديرِه؛ فقد خالط سُلاف محبَّته شِغافَ قلوبهم، وتملَّك أفئدَتَهم ومشاعِرَهم، فترجَمُوا ذلك بأقوالهم وأفعالهم، وقدَّموا من أجلِ ذلك الغاليَ والنفيس:
فهذا أبو طلحة الأنصاريُّ - رضي الله عنه - في غزوة أُحُد ينثُرُ كنانَتَه بين يدي رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - ويقول: "وجهِي لوجهك فداءٌ"، وينظر رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - إلى القوم ليرى ماذا يفعَلُون، فيقولُ له أبو طلحة: "يا نبي الله -بأبي أنت وأمي-، لا تنظُر يُصيبُك سهمٌ من سهام القوم، نَحري دون نَحرك".
هذا أبو دُجانة -رضي الله عنه- يدفعُ بتُرسِه عن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، حتى صار النَّبلُ يقعُ على ظهره، وهو مُنحَنٍ عليه حتى ملأ ظهرَه.
ويُرفع زيد بن الدثِنَّة على الخشبة ليُصلَب، ويقول له المشركون: ننشُدُك الله يا زيد! أتحبُّ أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرِبُ عُنقَه، وأنك آمِنٌ في أهلك؟! فقال: "والذي نفسي بيده؛ ما أحبُّ أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تُصيبُه شوكةٌ تُؤذِيه، وأني جالِسٌ في أهلي".
فصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، ورضي الله عن صحابته الكرام.
والأمثلةُ - عباد الله - من سيَر السلف وافِرةٌ كثيرة، ورجاؤنا أن تكون في الأمة اليوم أمثلةٌ مُوازِية، وأن يكون لكل مسلمٍ نصيبٌ وحظٌّ وافِرٌ من ذلك.
ومن دلائلِ محبتِه: الإكثار من ذِكره بالصلاة والسلام عليه؛ فمن أحبَّ شيئًا أكثَرَ من ذِكره، وقد أمَرَ الله بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وأولَى الناس بالنبي - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - يوم القيامة: أكثرُهم عليه صلاةً.
ومن دلائل محبَّته: تمنِّي رؤيته - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - والشوق إلى لقائِه، وسؤال الله اللَّحاق به على الإيمان، وأن يجمَعَ الله بينه وبين حبيبِه ونبيِّه - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - في مُستقَر رحمته.
أخرج مسلمٌ في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - قال: «مِن أشدِّ أمَّتي لي حبًّا: ناسٌ يَكونونَ بَعدي، يودُّ أحدُهُم لَو رآني بأَهْلِهِ ومالِهِ».
ومن دلائل محبَّته: عدم الغلُوِّ فيه؛ لأن الغلُوَّ مخالفةٌ ومُشاقَّةٌ له، قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7].
وعن عُمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - قال: «لا تُطرُونِي كما أَطرَتِ النصارى عيسَى ابن مريمَ، إنما أنا عبدُ اللهِ ورسوله» (رواه البخاري).
ومن دلائل محبَّته: قراءة سيرتِه والتعرُّف عليه؛ لأن محبَّته تقتضي التعرُّف عليه والوقوف على سيرته وحياته وأوصافه وخلقه، ولا تتأتَّى المحبةُ بالمجهول مُطلقًا، ولا يتأتَّى الدفاع عنه والذبُّ عن سنَّته لمن كان جاهِلاً به لا يعرف حقَّه.
حتى البهائم والجمادات لما تعرَّفَت عليه قدَّمَت لنا نماذج من محبَّته؛ فقد حنَّ له الجِذعُ وبكَى، وسلَّم عليه الحجرُ، واهتَزَّ جبلُ أُحُد ليُترجِمَ عن مشاعر الحبِّ والتقدير، وتسابَقَتْ النُّوقُ إليه لينحَرَها، كما أشارَ إلى القمر فانفَلَق، وإلى الغمام فتفرَّق، وكلُّ ذلك بإذن الله.
فاللهم اجعَله قُرَّة أعيُننا، واغرِس محبَّته في سُويدَاء قلوبنا، واجعَلها أعظمَ عندنا من محبَّة أنفسنا وأهلِنا واهدِنا للعمل بمُقتضاها يا رب العالمين.
أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعِي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
مَعشرَ المُسلمين: من وفاءِ القلوب والصدقِ في محبَّةِ رسولِ الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - ومودَّته: محبَّة ما كان يحبُّه؛ فإن مُوافقة الحبيب في مشاعِره برهانٌ صادقٌ على ذلك. فمحبَّة أزواج رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - وصحابته وأهل بيته واجبٌ شرعيٌّ منوطٌ بمحبَّته، وحقٌّ لا ينفَكُّ عن مُتابعَته، ومُقتضَى فعلِه وقولِه: «لا تسُبُّوا أصحابي».
معشر المسلمين: لقد كانت محبَّة رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - مُتعلِّقةً بمحبة الله، وبما يأتِيه من وحيِه وشرعه، ولقد كرَّم الله مكةَ واختارَها وأقسَمَ بها فقال: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) [البلد: 1]، وحرَّمها وجعَلَها مهبط الوحي وقبلة المسلمين ومنسَكَهم، ومأوى أفئدتهم، فكان رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - يحبها، ولم يستطع أن يكتُم حبَّها في نفسه؛ بل أفصَح وصرَّح، ولم يكتَفِ بذلك بل أقسَمَ وأكَّد، ولم يتمالَك مشاعرَه، ففاضَت دموعُه، فقال وعبَرَاتُه تتكَفكَفُ: «والله إنكِّ لأحبُّ البقاع إلَيَّ، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجت».
فجديرٌ بالمسلمين عمومًا أن يعرفوا لها مكانتها وحُرمَتها، وأن يتَّحِدُوا على من يُريد الإساءةَ إليها، وللبيت ربٌّ سيَحمِيه.
وحرِيٌّ بهم أن ينتفِضُوا وتهتزَّ مشاعرهم، وأن يثِبُوا وثبةً واحدةً إذا ما حاولَ أحدٌ استباحَةَ حِماها، وحلَّة حُرمتها واعتدَى عليها.
أيها المسلمون: إن الله حرَّم مكة حُرمةً أبدية، وعظَّمَ جُرمَ المعتدي عليها بنصِّ الكتاب فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].
وهذا من خصوصيَّة حرم مكة، أنه يُعاقَبُ المرءُ على الإرادة القلبية للشرِّ فيه إذا كان عازمًا عليه وإن لم يفعَله.
فعن ابن مسعودٍ - رضي الله تعالى عنه -: "ما من رجلٍ يهمُّ بسيئةٍ فتُكتبُ عليه، ولو أن رجُلاً بعدَن أبيَن همَّ أن يقتل رجلاً بهذا البيتِ، لأذاقَه اللهُ من العذابِ الأليم".
والإلحاد في الآية عامٌّ في كل من يرتكِبُ فيه فعلاً وهو مائِلٌ عن الحق وظالِم.
ولهذا لما همَّ أصحابُ الفيل بتخريبِ البيت، أرسل عليهم طيرًا أبابيل، ترمِيهم بحجارةٍ من سِجِّيل، فجعَلَهم كعصفٍ مأكُول.
وثبَتَ في "الصحيحين" من حديث عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - قال: «يغزُو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببَيداءَ من الأرضِ يُخسفُ بأوَّلِهم وآخرِهم».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه عام فتح مكة قتَلَت خُزاعةُ رجلاً من بني ليثٍ بقَتيلٍ لهم في الجاهلية، فقام رسولُ الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - فقال: «إن اللهَ حبسَ عن مكةَ الفيلَ، وسلَّطَ عليهم رسولَه والمؤمنين، ألا وإنها لم تحلَّ لأحدٍ قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، ألا وإنها أُحِلَّت لي ساعةً من نهارٍ، ألا وإنها ساعتي هذه حرامٌ، لا يُخْتَلَى شَوكُها، ولا يُعَضَدُ شجرُها، ولا يَلْتَقِطُ ساقطتَها إلا مُنْشِدٌ» (متفقٌ عليه).
فالبَرَاء البَرَاء - عباد الله - تنديدًا واستنكارًا وشَجبًا، لكل المحاولات اليائِسة، والاعتداءات البائِسة على أمِّ القرى مكة المكرمة، حبيبةِ رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -، حرَسَها الله من كل مُعتدٍ غَشيم، وخوَّانٍ أثيم، وشيطانٍ رجيم، وعُتُلٍّ زَنيم، يتربَّصُ الدوائرَ بالإسلام، عليه دائرةُ السوء، ردَّ الله كيدَه في نحره، وقطَعَ دابِرَه، وجعَلَه عبرةً لغيره.
اللهم احفَظ هذه البلاد بحفظك، اللهم احفَظ هذه البلاد بحفظك، واكلأها برعايتك، اللهم من أراد بها سوءً فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيده في نحره، واجعَل تدبيرَه تدميرَه يا قويُّ يا عزيز.
اللهم احفَظ جنودنا المُرابطين على الحدود، اللهم احفَظهم بحفظك، واكلأهم برعايتك، اللهم سدِّد رميَهم، وقوِّ عزائِمَهم، وانصرهم على القوم الظالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، وانصر عبادَك المُوحِّدين.
اللهم وفِّق ولي أمرِنا بتوفقيك، وأيده بتأييدك، وأعزِّ به دينَك، اللهم وفِّقه ونائبَيْه لما فيه صلاحُ العبادِ والبلاد يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ واجعَل ما أنزلتَ لنا قوةً وبلاغًا إلى حين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانطين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا مريعًا، سحًّا غدَقًا طبقًا مُجلِّلاً، نافعًا غير ضارٍّ، عاجِلاً غير آجِل برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم تُحيِي به البلاد، وتجعَله بلاغًا للحاضر والباد، اللهم تُحيِي به البلاد، وتجعَله بلاغًا للحاضر والباد.
اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مِدرارًا.
اللهم اسقِ عبادك وبهائِمَك، اللهم اسق عبادك وبهائِمَك، وانشُر رحمتَك، وأحيِي بلدَك الميت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: صلُّوا وسلِّمُوا على من أمرَكم الله بالصلاةِ والسلامِ عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.