المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم النعيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة - الطهارة |
كان من تمام نصيحة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- لرعيته، وحسن نظره وشفقته عليهم، أنه كان إذا حضر الشتاء تعاهدهم، وكتب لهم الوصية بـ"إن الشتاء قد حضر، فتأهبوا له أُهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا؛ فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه". فانظروا إلى ما وصل اليه حاكم المسلمين حينذاك من حرصه الشديد على أمته ألا يمسهم سوء أو برد أو أذى في أجسادهم، فكيف سيكون مقدار حرصه –رضي الله عنه- على عقيدتهم وأخلاقهم ودينهم؟.. سأقف معكم عدة وقفات فقهية وأخرى إيمانية في سلسلة من الخطب عن موسم الشتاء..
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
كان من تمام نصيحة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- لرعيته، وحسن نظره وشفقته عليهم، أنه كان إذا حضر الشتاء تعاهدهم، وكتب لهم الوصية بـ"إن الشتاء قد حضر، فتأهبوا له أُهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا؛ فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه".
وعُهِدَ عنه أيضًا –رضي الله عنه- أنه كان يقول عن الشتاء: "اتقوا أوله واتقوا آخره".
فانظروا إلى ما وصل اليه حاكم المسلمين حينذاك من حرصه الشديد على أمته ألا يمسهم سوء أو برد أو أذى في أجسادهم، وهو أمر بدهي لا يحتاج الى توصية. فكيف سيكون مقدار حرصه –رضي الله عنه- على عقيدتهم وأخلاقهم ودينهم؟ لا شك أنه سيكون أشد حرصًا.
أيها الإخوة في الله: سأقف معكم عدة وقفات فقهية وأخرى إيمانية في سلسلة من الخطب عن موسم الشتاء؛ ننبّه ونتعرف فيه على بعض الأخطاء التي نقع فيها في هذا الموسم.
أولا: الشتاء والطهارة:
يعاني بعض المصلين من الماء البارد في الشتاء أثناء الوضوء، خاصة لمن يتوضأ خارج منزله كالمسجد، ولا يجد ماءً ساخنًا فيه، مما يوقعه في حرج عدم إسباغ الوضوء، فلا تجده يحسن غسل وجهه أو أطرافه. فبعض الناس إذا أراد غسل وجهه ووضع الماء في كفيه، أحس ببرودة الماء الشديدة، وتقزز جسمه واقشعر، فنفض الماء من يديه واكتفى بمسح وجهه دون غسله.
ولا شك أن هذا لا يكفي، ولا يفي بالغرض؛ لأن الآية الكريمة صريحة بالأمر بغسل الوجه وليس مسحه. قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ..) [المائدة: 6] الآية.
ولا شك أن هناك فرقًا كبيرًا وواضحًا بين المسح والغسل، فلا ينبغي أن نغالط أنفسنا ونخاطر في صحة صلاتنا.
ولشفقة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وخوفه على أمته من نقص ثواب صلواتهم، نبّههم على أهمية إسباغ الوضوء، خاصة في وقت شدة البرد أو الحر، وجعل ذلك من وسائل رفع الدرجات ومحو السيئات؛ حيث روى أبو هريرة –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ"؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ" (رواه مسلم).
ومعنى المكاره أي: المشقة، أي: إسباغ الوضوء رغم مشقة البرد ونحوه.
فمن هذا الحديث يتبين أن إسباغ الوضوء رغم مشقة البرد من أفضل الأعمال، وأما من لم يحسن وضوئه فقد أنذره النبي –صلى الله عليه وسلم- بأن تمسّه النار، فقد رأى النبيُ –صلى الله عليه وسلم- ذات يوم أناسًا لم يُحسنوا غسل أرجلهم فقال لهم: "ويل للأعقاب من النار" (متفق عليه).
المسألة الثانية: التيمم عند شدة البرد:
لقد كره العلماء الوضوء بالماء شديد البرودة؛ لاحتمال عدم إسباغ الوضوء، ولذلك من وجد الماء باردًا جدًّا، وغلب على ظنّه التضرر باستخدامه، ولم يتمكن من تسخينه للاغتسال أو الوضوء؛ جاز له التيمم.
أما من استطاع تسخين الماء ولكنه تيمم، فعمله غير صحيح، وصلاته غير صحيحه. فقد روى جابر –رضي الله عنه- قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ" (رواه أبو داود وغيره).
المسألة الثالثة: ترك الاغتسال يوم الجمعة:
فمع البرد الشديد يتقاعس بعض الناس عن الاغتسال يوم الجمعة، ويكتفون بالوضوء بحجة عدم وجود عرق أو رائحة في أبدانهم، أو خوفًا من الإصابة بالزكام عند الخروج للجمعة ونحو ذلك من أعذار.
ولا شك أن الاغتسال يوم الجمعة من فضائل الأعمال التي أكد عليها النبي –صلى الله عليه وسلم-، فضلاً على أن من تركه يقع في أمر اختلف فيه العلماء بين الوجوب والاستحباب، ووقف الجمهور على استحبابه؛ حيث روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أَيُّهَا النَّاسُ إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمَ فَاغْتَسِلُوا وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَفْضَلَ مَا يَجِدُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ" (رواه أبو داود).
فحري بنا أن لا نترك الاغتسال يوم الجمعة.
وأما أهم المسائل المتعلقة بالصلاة
أولاً: الصلاة متلثمًا:
فمع البرد الشديد يدخل بعض المصلين إلى المسجد وهم متلثمون من شدة البرد، خصوصًا عند صلاة الفجر، واتقاءً للزكام، وقد يدخل المصلي في الصلاة على تلك الهيئة؛ وقد نهى الشارع الحكيم عن هذه الهيئة داخل الصلاة؛ حيث روى أبو هريرة –رضي الله عنه- أنه قال: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ فِي الصَّلاةِ" (رواه ابن ماجه).
قيل: إن الحكمة في ذلك لما فيه من تشبه بالمجوس حال عبادتهم للنار، وفيه أيضًا سوء أدب مع الله -عز وجل- أن يقف المصلي أمام ربه متلثمًا.
ولا يشك عاقل أنه ليس من الأدب ألبتة الدخول متلثمًا على أحد وجهاء الناس، فمن باب أولى أن يخجلَ المرءُ من الوقوف أمام خالقه عز وجل متلثمًا.
ولجهل كثير من الناس هذا الحكم، فعلى أئمة المساجد تفقُّد المصلين حال وقوفهم للصلاة كي لا يصلي أحد منهم متلثمًا.
ثانيًا: الصلاة بالقفازين:
يتحرج بعض الناس من الصلاة بالقفازين في البرد ظنًّا منهم أنها لا تجوز، والصواب عكس ذلك؛ إذ لم يرد النهي عن الصلاة بالقفازين. بل لم يرد النهي عمومًا عن لبس القفازات إلا للمرأة المحرمة، فقد نُهيت عن أن تنتقب أو تلبس القفازين؛ حيث روى عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمُحْرِمَةُ لا تَنْتَقِبُ وَلا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ" (رواه أبو داود).
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في أمر ديننا، وأن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والعمل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد ذكرت لكم ثلاث مسائل في الطهارة يكثر الخطأ فيها في الشتاء، ومسألتين في أمر الصلاة، وأما المسألة الثالثة فهي عن حكم الصلاة أمام النار.
ثالثًا: الصلاة أمام النار:
لا يوجد حديث صريح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- يحرّم الصلاة أمام النار، ولكن نصَّ أهل العلم على كراهة استقبال النار في الصلاة؛ لما فيه من تشبه بعُبَّادِ النار من المجوس. وهذا قد يحدث من بعض الناس عندما يخرجوا إلى البر فيشعلوا نارًا للاستدفاء بها، ثم تحضرهم الصلاة، فتراهم يصلون أمامها، وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "كراهة الصلاة إلى ما قد عُبِد من دون الله تعالى، قطعاً لذريعة التشبه بالسجود إلى غير الله تعالى". اهـ.
ومن ذلك نلتمس الحكمة من نهي الشرع عن الصلاة عند شروق الشمس وعند غروبها؛ لأن الكفار يسجدون لها عند هذا الوقت.
وأما الدفايات الكهربائية التي توضع أمام المصلين في كثير من المساجد فلا تدخل في ذلك؛ كما أفتى العلماء، ومنهم ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-؛ حيث قال: "فمنهم من كرهها، ومنهم من لم يكرهها، والذين كرهوها عللوا ذلك بمشابهة عباد النار. والمعروف أن عبدة النار يعبدون النار ذات اللهب، أما ما ليس لها لهب فإن مقتضى التعليل أن لا تكره الصلاة إليها.
ثم إن الناس في حاجة إلى هذه الدفايات في أيام الشتاء للتدفئة، فإن جعلوها خلفهم فاتت الفائدة منها أو قلت، وإن جعلوها عن أيمانهم، أو شمائلهم لم ينتفع بها إلا القليل منهم، وهم الذي يلونها، فلم يبقَ إلا أن تكون أمامهم ليتم انتفاعهم بها، والقاعدة المعروفة عند أهل العلم أن المكروه تبيحه الحاجة.
ثم إن هذه الدفايات في الغالب لا تكون أمام الإمام، وإنما تكون أمام المأمومين، وهذا يخفف أمرها؛ لأن الإمام هو القدوة ولهذا كانت سترته سترة للمأموم اهـ.
رابعًا: السعال المتواصل:
يكثر في موسم الشتاء الإصابة بالسعال، وقد يضطر المصلي للرفع من الركوع أو السجود تاركًا تسبيحات هذين الركنين؛ بسبب السعال المتواصل الذي قد ينقطع معه التنفس. فهل صلاته صحيحة أم لا؟ هذه المسألة مبنية على تسبيحات الركوع والسجود أواجبة هي أم لا.
فقد اختلف العلماء في حكم تسبيحات الركوع والسجود على رأيين. فمن رأى أنها مستحبة، فصلاة من ترك هذه التسبيحات صحيحة، سواء تركها من عذر أو من دون عذر. وأما من رأى أنها واجبة كالحنابلة فإنه يترتب عليه مسألتان هما كالآتي:
(أ) إن كان يصلي خلف إمام، فترك تسبيحات الركوع أو السجود فليس عليه شيء؛ لأن واجبات الصلاة تسقط عن المصلي إن تركها عمدًا أو سهوًا متى كان يصلي خلف إمام. ولا يليق بمسلم أن يتركها عمدًا.
(ب) أما من كان يصلي منفردًا فترك تسبيحات الركوع أو السجود سهوًا أو عمدًا يلزمه سجدتا سهو قبل السلام.
هذه بعض المسائل التي يكثر السؤال عنها في موسم الشتاء، وللموضوع بقية بإذن الله.
اللهم اجعلنا ممن يسمع القول فيتبع أحسنه.