البحث

عبارات مقترحة:

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الظاهر

هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...

الخبير

كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...

تعامل الرسول –صلى الله عليه وسلم- مع أسرته

العربية

المؤلف سعد بن تركي الخثلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. بعض جوانب العظمة في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخلاقه .
  2. عظمة أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع زوجاته .
  3. هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع زوجاته وبعض المواقف في ذلك .
  4. قصص رائعة في تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع بناته .

اقتباس

إنه ما من أحد من العظماء إلا وله نواحي يحرص على سترها، وعلى كتمان أمرها، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها، نواحي تتعلق بشهوته أو ترتبط بأسرته، أو تدل على ضعفه، وأما محمد هذا النبي العظيم، هذا النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- فقد كشف حياته للناس جميعا، فكانت كتابا مفتوحا ليس...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أرسل رسوله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وأسوة للناس أجمعين، أرسله للناس بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فاتقوا الله -أيها المسلمون-، اتقوا الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71]، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2 - 3]، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4]، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق: 5].

عباد الله: كان الحديث في خطبة الجمعة الماضية عن جوانب من قضايا الأسرة المسلمة، وبخاصة الطلاق وأسباب الطلاق، وكيفية الحد من الوصول إلى الطلاق، وألا يكون الطلاق إلا عند الضرورة وعند استنفاد جميع الحلول.

ونستكمل الحديث عن هذا الموضوع بجانب آخر بجانب من الجوانب التي فيها الأسوة والقدوة بجانب الحديث عن سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الأسرية، حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- الأسرية كيف كانت؟ وكيف كان يتعامل مع أزواجه في البيت؟ وكيف كان يتعامل مع بناته عندما تكون هناك خلافات بينهن وبين أزواجهن؟ وإن سيرة هذا النبي العظيم سيرة عظيمة في جميع الجوانب وإنه ما من أحد من العظماء إلا وله نواحي يحرص على سترها، وعلى كتمان أمرها، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها، نواحي تتعلق بشهوته أو ترتبط بأسرته، أو تدل على ضعفه، وأما محمد هذا النبي العظيم هذا النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- فقد كشف حياته للناس جميعا، فكانت كتابا مفتوحا ليس فيه صفحة مطبقة، ولا سطر مطموسا، يقرأ فيه من شاء ما شاء، أذن لأصحابه أن يذيع عنه ما يكون منه، وأن يبلغوه، فرأوا كل ما رأوا في ساعات الصفاء، وفي ساعات الضعف البشري، وفي ساعات الغضب، وفي ساعات الرغبة والانفعال، وفي جميع الأحوال، روى الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك كله، وروى نساؤه كل ما كان بينه وبينهن، أزواجه أمهات المؤمنين روين عنه أموره الخاصة في بيته؛ لأن فعله كله دين وشريعة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21].

وروى عنه أصحابه كل شيء حتى نقلوا للأمة، وصف اضطراب لحيته في الصلاة، ورووا ما يكون في حالات الضرورة البشرية، فعرفنا كيف يأكل؟ وكيف يلبس؟ وكيف ينام؟ وكيف يقضي حاجته؟ وكيف يتنظف من آثارها؟ وكيف يغتسل؟ إلى غير ذلك من الأمور الخاصة.

أروني عظيما آخر أذن للناس بأن يرووا عنه كل شيء، وقال: هاكم سيرتي كلها، وأفعالي جميعها، فاطلعوا عليها، وأروها للصديق والعدو، وأروني عظيما آخر دونت سيرته بهذا التفصيل، وعرفت وقائعها وخفاياها بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة.

عباد الله: لقد كانت سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- الأسرية كانت عظيمة من جميع النواحي، وكانت عشرته لأزواجه في غاية الشرف والنبل، وحسن الخلق، وكريم السجايا، كان يقول: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، ويقول: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا"، "وخياركم خياركم لنسائهم".

وسئلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله" يعني في خدمة أهله: "فإذا حضرت الصلاة خرج إلى المسجد".

في رواية: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته، كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشرا من البشر يحلب شاته، ويخدم نفسه".

ومع هذا كله، ومع هذا النبل في التعامل، وهذا الخلق الكريم، وكونه الزوج المثالي -عليه الصلاة والسلام-، وهو خير الأزواج، بل القدوة الحسنة لكل الأزواج، أقول مع هذا كله ومع أن أزواجه هن أمهات المؤمنين، ومن خير نساء الأمة، ومع هذا حصل منهن ما حصل -رضي الله عنهن- حصل ما حصل من مضايقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحيان بمقتضى طبيعة المرأة التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها وفيها عوج، وكسرها طلاقها".

وفسر أهل العلم قوله: "وإن أعوج ما في الضلع أعلاه" أي اللسان، أي أعوج ما في المرأة لسانها.

وقد بلغ من حال أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- معه أن إحداهن ربما كانت تراجع النبي -صلى الله عليه وسلم- فتغضبه، فيضل طيلة اليوم غضبانا عليها، لكنه عليه الصلاة والسلام كان سرعان ما يرضى، وسرعان ما يصفح، وسرعان ما يحتوي الموقف، فإذا كان هذا حصل منه عليه الصلاة والسلام مع أزواجه فكيف بغيره؟ وقد حدث أن اجتمع نساؤه صلى الله عليه وسلم عليه، وشكونا إليه شظف المعيشة، وسألنه المزيد من النفقة، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يمر عليه الشهر والشهران والثلاثة، وما أوقد في بيته نارا، وكانوا إنما يعيشون على الأسودين على التمر والماء، فاجتمع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وشكونا إليه ما يجدن من ضيق العيش، وسألنه المزيد من النفقة، وكان هذا أمرا مرتبا، إذ اجتمعنا جميعا وطالبنا بهذا الطلب، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- غضبا من هذا التصرف، غضبا شديدا، وأقسم بالله ألا يدخل عليهن شهرا كاملا، أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حدثني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لما اعتزل النبي -صلى الله عليه وسلم- نسائه دخلت المسجد، فإذا الناس يمكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نسائه، أي أنه بعد هذا الموقف أشيع في المدينة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلق نسائه، قال: عمر فدخلت على حفصة بنت عمر، أي على ابنته زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت لها: يا حفصة أبلغ من شأنك أنك تؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله لقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحبك، ولولا أنا لطلقتك، فبكت أشد البكاء، فقلت: أين رسول الله؟ قالت: هو في خزانته في المشربة، فاستأذنت عليه، فإذا برباح غلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقلت له: استأذن لي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأذن، قال عمر: فدخلت عليه في تلك المشربة، فإذا هو مضطجع على حصير، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، قال عمر: فابتدرت عيناي فبكيت، قال: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قلت: يا رسول الله ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك؟ وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى؟ وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصفوته وهذه خزانتك؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما ترضى يا عمر أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا، قلت: بلى، ثم قلت: يا رسول الله أطلقت نسائك؟ قال: لا، قال عمر: فحمدت الله وكبرت، وذهب عمر يخبر الناس بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يطلق نساءه، ومكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تلك الحال شهرا، حتى نزل عليه قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28 - 29] فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أزواجه بعدما أكمل شهرا، وكان أول من دخل عليها عائشة فقالت: يا رسول الله مضى تسعة وعشرون يوما، وبقي يوما واحدا، والله إني لأعدهن عدا، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الشهر تسعة وعشرون، أي أن الشهر وافق أن يكون تسعة وعشرين وليس ثلاثين، ثم قال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك؟ قالت: ما هو يا رسول الله؟ قال: تلا عليها قول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28 - 29] قالت: فقلت يا رسول الله أو فيك أستشير أبوي والله إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة؟ ثم ذهب عليه الصلاة والسلام إلى أزواجه، وعرض عليهن الأمر كما عرض على عائشة، فكلهن اخترنا الله ورسوله والدار الآخرة -رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن-.

عباد الله: وإذا كان هذا الذي حصل في هذا البيت المثالي حصلت هذه المشكلة التي أدت إلى أن يعتزل النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه شهرا كاملا، وهو الزوج المثالي، وأمهات المؤمنين من خير نساء الأمة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم الخلق، كريم السجايا، ومع هذا حصل ما حصل، إلى هذا الموقف الذي هجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه نساءه شهرا كاملا، ففي هذا عبرة للأزواج، وعبرة للزوجات، وأن الواجب هو الصبر والتحمل، والتغاضي عن الهفوات والتغافل، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفرك" أي لا يبغض "مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر" [أخرجه مسلم في صحيحه] أي أن المرأة إذا كان فيها عيوب فليغض الزوج الطرف عن العيوب، ولينظر إلى ما فيها من المحاسن، وما فيها من الإيجابيات، فإنه سيرى في ذلك شيئا كثيرا، وهذه قاعدة عظيمة في التعامل مع الزوجة، بل في التعامل مع جميع الناس، وهي أن الإنسان يغض الطرف عن المساويء والعيوب، ويركز على المحاسن وعلى الإيجابيات في ذلك الإنسان الذي يتعامل معه، فإنه بذلك تستقيم الأمور، وأما من كان يدقق ويحقق ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة، ويركز على العيوب، ويغض الطرف عن المحاسن، فإنه لن يهنأ بحياته الزوجية، ولن تستقيم له حياته الزوجية، بل سيكون في شقاق حتى مع الآخرين حتى مع أولاده ومع والديه ومع أصدقائه، ومع الناس جميعا؛ لأن كل إنسان فيه عيوب، وكل إنسان لديه مساويء، فإذا كان الإنسان سيركز فيما يتعامل معه على هذه العيوب، وعلى هذه المساويء، فلن يجد له صديقا وسيبقى يعيش في نكد، وسيعيش في تعاسة، وسيشتكي من حال الناس، ومن تغير الناس، ونحو ذلك، ولكن المشكلة في تعامله هو، فينبغي إذا أن يغض الطرف عن المساويء وعن العيوب، وأن يركز على الإيجابيات والمحاسن، سواء كان هذا مع الزوجة أو مع الأولاد أو مع الوالدين أو مع الجيران أو مع الأصدقاء، أو مع الناس جميعا، فإن هذه قاعدة عظيمة من قواعد التعامل مع الآخرين، وقد أشار إليها ربنا -عز وجل- في قوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199] أي خذ ما عفا وصفا لك مما سمحت به طباع الناس، ولا تكلفهم ما لم تسمح به طباعهم، فإن من فعل ذلك فإنه يعيش في راحة نفسية عظيمة، ويكون بعيدا عن التكدر وعن القلق، ويكون حسن التعامل مع الآخرين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

عباد الله: وكان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته الأسرية في تعامله مع الخلافات كان من هديه احتواء الموقف، واحتواء الخلاف، وعدم تأجيجه، وعدم تكبير الخلاف، وإذا نظرنا إلى معظم حالات الطلاق نجد أن أسبابها كانت في البداية كانت أمورا تافهة، وأمورا بسيطة، لكن تلك الأمور البسيطة قد كبرت، وقد أجج الخلاف إلى أن انتهى في النهاية إلى الطلاق، ونذكر بعض المواقف التي حصلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف تعامل معها؛ جاء في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان يوما عند زوجه عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فأرسلت إحدى أزواجه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- طعاما مع غلام، وكان اليوم يوم عائشة، فلما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- الباب إذا بهذا الغلام قد أتى بهذا الإناء وفيه طعام، وقال: إنه من زوجتك فلانة فأخذت عائشة الغيرة الشديدة كيف ترسل زوجته له طعاما وهو عندها، فمن شدة غيرتها رفعت يدها على هذا الإناء فكسرته، فتناثر الطعام على الأرض، فماذا كان موقف النبي -صلى الله عليه وسلم-؟

لم يغضب عليه الصلاة والسلام، ولم يؤجج الموقف، بل تفهم مشاعر عائشة، وقال: "غارت أمكم" أي عرف أن السبب غيرة شديدة التي حصل منها، وعذرها على ذلك، قال: "غارت أمكم" وسكت ثم جعل يجمع الطعام في إناء من أواني عائشة السليمة، فلما جمع هذا الطعام في هذا الإناء أعطاه الخادم، وقال: "طعام بطعام، وإناء بإناء" ثم انتهى هذا الموقف.

فانظروا كيف تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- معه؟ وكيف احتوى هذا الموقف بحكمته وبلطفه لم يكبر الموضوع، ولم يدخل مع عائشة في خصام، ولم يدخل معها في مشاكل بسبب هذا الموقف مع أن الذي فعلته أمر كبير كسرت هذا الإناء، وتناثر الطعام بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنه عليه الصلاة والسلام تفهم السبب الذي دعا عائشة إلى هذا التصرف، وهو الغيرة الشديدة التي حملتها على هذا الموقف، فانظروا كيف احتوى عليه الصلاة والسلام كيف احتوى هذا الموقف؟ وكيف عالجه بحكمته؟

موقف آخر حصل لصفية بنت حيي زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنها كان أبوها من سادات اليهود، حيي بن أخطب، وكان زوجها كذلك من سادات اليهود، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجبر خاطرها، قتل أبوها وزوجها، وأصبحت رقيقة مع الأسرى، جارية من الجواري، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجبر خاطرها، فأعتقها وتزوجها، وأصبحت إحدى أمهات المؤمنين، وكانت من أجمل نساء العرب، فكان يأخذ بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- منها الغيرة، فذات مرة قالت إحدى زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صفية: إنها بنت يهودي، فبلغ ذلك صفية فدخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك؟" قالت: زوجتك فلانة قالت عني إني بنت يهودي، فانظروا كيف تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الموقف؟ جبر خاطر صفية أولا بكلمات، قال: "إنك بنت نبي، وعمك نبي، وزوجك نبي" وهذه أوصاف عظيمة، وقصده ومراده بقوله: "أبوك نبي" موسى، فإنها من نسل موسى، وقوله: "عمك نبي" يقصد هارون أخو موسى، وقوله: "زوجك نبي" يقصد نفسه عليه الصلاة والسلام، فجبر خاطرها بهذه الكلمات العظيمة، وسرها كثيرا ما سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنه عليه الصلاة والسلام لم يسكت عن الخطأ، نبه المرأة التي تكلمت بهذا إحدى أزواجه نبهها على خطئها، فقال: "يا فلانة اتق الله -تعالى- كيف تقولين لها هذا الكلام؟".

اتق الله -عز وجل- فانظروا كيف احتوى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الموقف وانتهت هذه المشكلة بهذا الاحتواء، وبهذه الحكمة والتصرف من النبي -صلى الله عليه وسلم-.

موقف آخر حصل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما دخل على ابنته فاطمة فسأل عن زوجها عليا، وكان قد حصل بينه وبين فاطمة مغاضبة، فخرج علي خارج المنزل، فقالت: هو خارج البيت عند المسجد، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يبحث عن علي فوجده قد وضع رداءه على الجدار، وقد استند إلى الجدار، وأصابه التراب، فجعل عليه الصلاة والسلام ينفض التراب عن علي، ويقول: "قم أبا تراب، قم أبا تراب" قال علي: فوالله إنها لأحب كنية أكنى بها أبا تراب، والقصة في الصحيحين.

فانظروا كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على ابنته فاطمة لم يسألها عن المشكلة، لم يقل ما الذي جرى بينك وبين زوجك؟ وما هو السبب؟ من المخطئ؟ سكت عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه خلافات يسيرة يحلها الزوجان بأنفسهما، وتدخل أهل الزوجين يؤجج الخلاف، ويكبر من المشكلة، فسكت عليه الصلاة والسلام ولم يسأل ابنته عن الموقف مطلقا، ثم لما ذهب إلى علي كذلك لم يسأله عن شيء، وإنما جعل يتلطف به، ويقول: "قم أبا تراب، قم أبا تراب" وانتهت المشكلة، واحتوى عليه الصلاة والسلام الموقف، فكان هذا من هديه عليه الصلاة والسلام احتواء المواقف التي يكون فيها الخلاف بين أفراد الأسرة سواء بين الزوجين، أو عندما تأتيه ابنته تشتكي من زوجها، أو عندما يشتكي الزوج من زوجته، فينبغي عدم التدخل بين الزوجين في الخلافات اليسيرة، وتركهما يحلان مشاكلهما بأنفسهما، إذ أن هذا التدخل يقود إلى ما لا تحمد عقباه، وإنما يكون التدخل في الأمور الكبيرة عندما يصل الظلم الكبير والمستمر، فهنا يكون التدخل من أهل الزوجين، بل إن الله -تعالى- قال: (فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا) [النساء: 35] لكن هذا عندما تصل الأمور إلى مرحلة متقدمة من الخلاف، ويخشى أن تصل إلى الطلاق، فهنا يكون التدخل الحكيم من أقارب الزوجين، أما في الخلافات اليسيرة فإن تدخل أهل الزوجين في شؤون الزوجين خطأ كبير وفادح، وكثيرا ما يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وربما كان هو السبب الرئيس إلى الطلاق.

فانظروا -رحمكم الله- كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعامل في بيته؟ وكيف كان يتعامل مع أزواجه؟ وكيف كان يتعامل مع هذه الخلافات الزوجية التي لا يخلو منها بيت؟

فينبغي أن نقتدي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، والرجل ينبغي أن يكون أكثر صبرا وتحملا من المرأة، والله –تعالى- جعل الرجال قوامين على النساء، فينبغي أن يكون كثير الصبر، كثير التحمل، أن يكون حليما، وأن لا تستفزه بعض التصرفات، أو بعض ما يسمعه من زوجته؛ لأن مثل هذا الاستفزاز يؤجج الخلاف، ويقود إلى ما لا تحمد عقباه، ولكن الزوج إذا كان حكيما تحمل وصبر، وتغاضى عن الهفوات، وتغافل عن كثير مما يسمع، فإنه تستقر حياته الأسرية، ويكون في ذلك صلاح هذه الأسرة، وإذا صلحت الأسرة كان ذلك سببا لصلاح المجتمع.

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، اللهم ارض عن أبي بكر الصديق، وعن عمر بن الخطاب، وعن عثمان بن عفان، وعن علي بن أبي طالب، وعن بقية أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل النفاق والمنافقين، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله في نفسه، اللهم اجعل تدبيرهم تدميرا عليهم يا قوي يا عزيز يا حي يا قيوم.

اللهم أدم علينا نعمة الأمن والاستقرار والرخاء، ورغد العيش، والوحدة واجتماع الكلمة، واجعلها عونا لنا على طاعتك ومرضاتك، واجعلنا لنعمك وآلائك شاكرين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وعلى طاعتك، وعلى حسن عبادتك.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم إن لنا إخوة مسلمين مستضعفين مستهم البأساء والضراء، اللهم فانصرهم بنصرك يا قوي يا عزيز، وارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا نصير المستضعفين ويا مجير المستجيرين ويا أرحم الراحمين ويا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك، وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة لرعاياهم.

اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي، يا رب العالمين.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.