المهيمن
كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...
العربية
المؤلف | خالد بن علي الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أهل السنة والجماعة |
وخُطورة هذا النفاقِ الأصغر: أنه سُلَّمٌ وجسرٌ إلى النفاق الأكبر، إذا استمَرَّ صاحبُه على أخلاق المنافقين، وأكثَرَ من شُعب النفاقِ ولم يدَعْها، ويُخشَى عليه أن يُسلَب الإيمان عند الموت، ويُختَم له بخاتمةٍ سيئةٍ.. كما أنه دليلٌ على ضعفِ الإيمان في القلب، وقِلَّة تعظيمِ الله والرغبةِ في الدار الآخرة،.. وهذا دليلٌ على اختِلاف حالة سرِّه عن حالة علانيتِه، فهو مُتردِّدٌ مُتحيِّرٌ في أمره، لا تستقِرُّ شخصيَّتُه على مبدأٍ أصيلٍ، ومنهجٍ واضحٍ، بل هو مع مصالحه الشخصية، وأغراضه النفعِيَّة المادية، وحيث كانت توجَّهَت إليها ركائِبُه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسنا وسيئات أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحْدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتَّقوا الله - عبادَ اللهِ -، وراقِبوه في السرِّ والعلانية؛ فإن حقيقةَ التقوَى: هي الإخلاصُ للهِ، والصدقُ معه، وخشيتُه في كل الأحوال، وإصلاحُ السرائِر والقلوبِ، فإنها محلُّ نظر الربِّ - سبحانه -.
وإن قومًا يأتُون يوم القيامة بحسناتٍ كجِبال تِهامة بِيضًا، فيجعلُها اللهُ هباءً منثُورًا؛ لأنهم كانوا إذا خلَوا بمحارِمِ الله انتهَكُوها، فجعلُوا اللهَ أهونَ الناظرين، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 91].
أيها المُسلمون: قدَرُ الله على هذهِ الأمةِ المُحمدية، في هذه الأزمانِ المُتأخِّرة، أن يتكالَبَ عليها الأعداءُ من كل حدَبٍ ينسِلُون، ويتنادَوا على خيراتِها، ويتكاتَفُوا لتمزيقِها وتعويقِها وتأخير نهضَتِها.
ومن رحمةِ الله: أنه لم ترُك الأمةَ بدون بيانٍ وتحذيرٍ من هؤلاءِ الأعداء، وهَتكِ أستارِ مكرِهم وكَيدِهم، وكان من بيانِ الله - سبحانه - أن أعداءَ الأمةِ على قِسمَين، هما:
كُفَّار صُرحاء، ظاهرةٌ عدواتُهم، وبيِّنٌ كيدُهم، كما قال الله تعالى: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) [النساء: 101]، يعني: ظاهِرين بيِّنِين في عداوتهم، وهؤلاء الكُفَّار الصُّرحاءُ لم تُعانِ الأمةُ كثيرًا من التعرُّف عليهم، واتِّقاءِ شرِّهم؛ لوُضوحِهم وظُهورِهم.
وإنما عانَتِ الأمةُ الأمَرَّين منذ عهدِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وذاقَت العلاقِمَ المرائِر من النِّفاق وأهلِه، الذين هم أعداءُ الأمة حقًّا، المُتلوِّنون المُخادِعُون، الطاعِنون الأمةَ بخناجِرَ مسمُومةٍ في دينِها وعقيدتِها ووحدتِها، واجتِماعِ كلمتِها، المُتربِّصُون بها الدوائِر مكرًا وكيدًا، وإثارةً للفتنِ والقلاقِل.
ولا تزالُ المُعاناةُ والمكائِدُ منهم مُستمرَّةً؛ حتى يخرُجَ رأسُ النِّفاق الأكبَر المسيحُ الدجَّالُ الأعوَرُ ومن معَه من اليهود والمُنافِقين، فيُهلِكَهم الله على يدِ مسيحِ الهُدى والحقِّ عيسى ابن مريم - عليه وعلى نبيِّنا أفضلُ الصلاة والسلام -.
عبادَ الله: لم تكُنْ هناك حاجةٌ لكَي ينشَأ النفاقُ في العهدِ المكيِّ في زمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لوُضوحِ عداوَة الكُفَّار وصراحَتهم.
وإنما نشَأَ في أوائِلِ ما نشَأَ بعد غزوة بدرٍ الكُبرى، حينما رأى اليهود ومن في قلبِه مرضٌ أن أمرَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد توجَّه، وأن رايةَ الإسلام آخِذةٌ في الظُّهور، فخشوا على أنفسِهم، واقترَحَ طائفةٌ من اليهود على أوليائِهم خُطَّة النفاقِ هذه، كما قال الله - سبحانه -: (وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: 72]، فاشتعلَت شرارةُ النفاقِ الأولى، ونبَتَت نبتَتُه، فبسَقَت شجرةً يهوديَّةً خبيثةً بمكرِ وخديعة مرَضى القلوب، حتى غدَا النفاقُ موئِلَ الغادِرين الحاقِدين، ينضَوُون تحت لوائِه؛ ليُصبِحُوا شوكةً في خاصِرةِ الأمة، وأشدَّ عُدوانًا وخطرًا على عقيدةِ الأمة ومُقدَّراتها من الكُفَّار الصُّرحاء.
ولسُوء أفعالهم، وخُبث طويَّتهم، وإضمارهم الشرَّ للأمة تولَّى الله - سبحانه - بنفسِه فضحَ هذه الطائفة المُندسَّة، وبيَّن - سبحانه - خُطُورتَهم وعلاماتهم وصفاتهم، وخصائِص سُلوكيَّاتهم، وبواعِثَ تحرُّكاتهم، والمنهجَ الصحيحَ في التعامُل معهم في آياتٍ مُحكَماتٍ عظيماتٍ، كأنَّها الصواعِقُ المُحرِقةُ تهتِكُ أستارَهم.
آياتٌ حيَّةٌ نابِضةٌ لكأنَّها أُنزِلَت اليوم، من حيويَّتها وتدفُّق معانِيها، كما في صدر سُورة البقرة في ثلاث عشرة آية، وفي سُورة آل عمران، والنساء، والأنفال، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحديد، والمجادلة، والحشر، والمُنافِقُون، وما أعظمَ بيانَ الله في سُورة التوبة التي تُسمَّى "الفاضِحة" لأحوال المُنافِقين وصفاتِهم؛ حيثُ ما زالَ الله تعالى يقولُ فيها: ومنهم، ومنهم، ومنهم، حتى ظنَّ الصحابةُ أنه لا يبقَى أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها.
ولقد بيَّن رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بيانًا مُشرِقًا كثيرًا من صفاتهم، وملامِح شخصياتهم والتعامُل معهم، في سنُنه القولية والفعلية والعملية، وسيرته التطبيقيَّة التي تَفيضُ بها دواوينُ السنَّة النبوية، وكل ذلك - يا عباد الله - حتى يحذَر المسلمون، ويعُوا خطرَ النفاق الداهِم، وأن أهلَه هم العدوُّ حقًّا، هم العدوُّ على الحقيقة، فاحذَرُوهم - يا عباد الله -، قاتَلَهم الله أنَّى يُؤفَكون.
أيها المسلمون: النفاقُ الذي ذمَّه الله ورسولُه - صلى الله عليه وآله وسلم - على نوعَين، وهو في حقيقته وأصله يرجِعُ إلى اختِلاف حالة السرِّ عن حالة العلانية وتغايُرهما، فإن كان هذا الاختِلاف والتغايُر يرجِعُ سببُه إلى أن يُظهر العبدُ الإسلامَ والإيمانَ بأصول الاعتقاد، ويُبطِن الكفرَ والعقائِدَ الباطلة، فهو النفاقُ الأكبرُ الاعتقادِيُّ المُخرِجُ من الملَّة، وأهل هذا النفاق، آمَنُوا بأفواهِهم ولم تُؤمِن قلوبُهم.
ولهم علاماتٌ وصفاتٌ بيَّنها الله أتمَّ بيان، وهي تظهَرُ منهم - أعني: هذه العلامات - في لَحن القول والعمل، وإسرارهم إلى أوليائهم إذا خلَوا إليهم.
والقرآن العظيم لم يتعرَّض لذِكر أسمائهم وأعيانهم، بل كان حديثُه عنهم مُركَّزًا في بيان صِفاتهم وأفعالهم، وهذا المنهجُ القرآنيُّ الفريدُ هو أعظَمُ نفعًا، وأبقَى أثرًا، وأسلَم عاقبة؛ لأن النفاق وأهله ليسُوا مرحلةً تاريخيةً مرَّت وانتَهَت، بل هم نموذجٌ يتكرَّر في كل زمانٍ ومكانٍ.
وهؤلاء المنافقون أصنافٌ؛ فمنهم الذين يكرَهُون الإسلامَ وشعائِرَه وأهلَه، ويتحاكَمُون إلى الطاغوت، (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ) [النور: 48].
ومنهم الذين يُكذِّبُون الله ورسولَه تكذيبًا كلِّيًّا أو جُزئيًّا، ويُظهِرون حبَّ الإسلام ونُصرة المسلمين، وهم في الحقيقةِ في حقيقةِ أمرهم مثلُ أصحابِ مسجد الضِّرار، يُبطِنُون الكفرَ المحضَ، والغدرَ والخيانةَ والإضرارَ بالمسلمين.
ومنهم الذين يُؤذون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالقولِ والفعلِ، ويُبغِضُونه ويسخَرُون منه، ويطعَنُون في سنَّته وهديِه، ويلمِزُون المُتمسِّكين بسنَّته ويهزَأُون منهم، خاصَّةً صحابةَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الخلفاء الراشدين، وبقية الصحابة، وأمهات المؤمنين -رضي الله عنهم أجمعين -.
ومنهم الذين يكرَهون انتِصارَ الإسلام وأهله، ولا يَودُّون أن يُنزَّل عليكم من خيرٍ من ربكم، ولا يرقُبُون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمَّة، ويفرَحُون ويبتَهِجُون بهزيمة المسلمين، وتسلُّط الأعداء عليهم بالقتل والدمار والتشريد، (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران: 118]، وقد عضُّوا على المسلمين الأنامِلَ من الغيظ، وودُّوا لو تكفُرون كما كفروا فتكونون سواءً، وإن تمسَسكم حسنةٌ تسُؤهم، وإن تُصِبكم سيئةٌ يفرَحُوا بها.
ومنهم الذين يتربَّصُون بالمسلمين الدوائِر يبغُونهم الفتنةَ، ويسعَون في تخذِيل المسلمين وكسر شوكتهم، والرقصِ على جِراحهم وآلامهم، وتمزيق وحدتهم، وتفريق كلمتهم، وتخريب بُلدانهم، وحواضِرهم الكبرى.
كما يفعَلُ الباطنيُّون اليوم مُنافِقُو العصر، أحفادُ ابن العلقَمِيِّ، ومن عاوَنَهم في ذلك من أدعِيَاء الخلافة الإسلامية زُورًا وبُهتانًا، الذين ينشُرون الطائفية والنَّعرات الجاهلية، ويُحرِّضون على حُكَّام المسلمين، ويُحاوِلون إسقاطَ ولاةَ أمرهم والشعوب المسلمة في وحل الدمار والهلاك والتخريب والفوضى، كما كان المُنافِقون الأوائِل يُظهِرون الطاعةَ لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإذا برزُوا من عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بيَّتَ طائفةٌ منهم الشرَّ، ودبَّروا الخروجَ عن طاعةِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعِصيانه.
ولذلك حاوَلُوا مِرارًا قتلَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولكن الله عصَمَه منهم، وهم الذين أثَارُوا الفتنةَ على أمير المؤمنين عُثمان - رضي الله تعالى عنه -، وحرَّضُوا عليه غَوغَاء الناس ودَهماءَهم، حتى قُتل شهيدًا صابِرًا مُحتسبًا، كما وصَّاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: «يا عثمان! إن الله مُقمِّصُك قميصًا، فإن أرادَك المنافقون على خَلعِه، فلا تخلَعه حتى تلقَاني» (أخرجه أحمد والترمذيُّ بسندٍ صحيحٍ).
ومنهم الذين لا يذكُرون الله إلا قليلاً، ويكرَهون قراءةَ القرآن، ووالله لنَقلُ الحجارة أهوَنُ عند المنافِقِ من مُداوَمَة قراءة القرآن، (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67]، (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر: 45].
ومنهم الذين يأمُرون بالمنكر، وينهَون عن المعروف، ويُحبُّون أن تشِيعَ الفاحشَةُ في الذين آمنوا؛ ابتِغاءَ الفتنة والضلالة فيهم، وإذا لَقُوا الذين آمنوا قالُوا آمَنَّا، وإذا خلَوا سَلَقُوكم بألسنةٍ حِدادٍ أشحَّةً على الخير، ويقبِضُون أيديهم، ولا يُنفِقُون إلا وهم كارِهون، وإذا رأيتَهم تُعجِبك أموالهم وأولادهم وأجسادهم، وإن يقولُوا تسمَع لقولهم من فصاحَتهم وتشدُّقهم بالكلام، وهم أجبَنُ الناس وأشدُّهم خوفًا وفرَقًا، يحسَبُون كلَّ صيحةٍ عليهم، ولذلك كرِهُوا الجهادَ في سبيل الله، ورَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِفِ، وطُبِع على قلوبهم فهم لا يفقَهون.
إلى غير ذلك من صفاتِ أهل النفاق الأكبر، الذين هم قال الله فيهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [التوبة: 67]، وقال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء: 145].
أمة الإسلام: هذا النفاقُ الأكبرُ هو الذي كان عليه المنافقون في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، الذين نزَلَ القرآنُ بتكفيرهم وتخلِيدهم في النار، وقد كان على رأس المنافقين آنَذَاك عبدُ الله بن أُبَيٍّ، الذي حقَدَ على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما قدِمَ المدينة مُهاجرًا، وأشرَقَت المدينةُ بأنوَاره -صلى الله عليه وآله وسلم-، والْتَفَّ الناسُ حولَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وفرِحُوا به فرحًا شديدًا.
فأغاظَ ذلك ابنَ أُبَيٍّ، فأضمَرَ للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العداوةَ أبدًا، وبدأ هو ومن معه من اليهود ومرضَى القلوب يكِيدُون للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وصحابته المكائِدَ والدسائِسَ، فكان أن خَذَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في معركة أُحُد، وانسَحَب بثُلُث الجيش، وكشَفَ ظهرَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للمُشركين.
ثم سعَى هو ومن معه لتجميعِ الأحزابِ لمُحاصَرَة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المدينة، وكانوا على رأس المُخذِّلين والمُرجِفين ليفُتُّوا في عضُد المسلمين.
وهم الذين كانوا وراءَ حادثة الإفك الشهيرة، التي أرادُوا من ورائِها تشويهَ بيت النبوة الشريف، وإسقاط رمز الإسلام والمسلمين، إلى غير ذلك من المؤامرات والمكائِدِ، من هذه الفئة المنافقة التي غدَتْ قُدوةً سيئةً لكل من يُبطِن الكفرَ والخيانةَ والغدرَ والكيدَ للمسلمين، (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النساء: 138، 139].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي قال لنبيِّه: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ) [الأحزاب: 48]، وأمَرَ عبادَه المؤمنين أن يتَّقُوا الله وأن يكونوا مع الصادِقين، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على إمام الحُنفَاء المُخلِصين، وسيِّد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته الذين أخلَصُوا دينهم لله، وأنابُوا إلى ربهم، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فاعلَمُوا - أيها المسلمون - أن النوعَ الثاني من النفاقِ الذي ذمَّه الله ورسولُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -: هو النفاقُ الأصغر نفاقُ العمل، وهو التخلُّقُ بشيءٍ من أخلاق وأعمال المنافقين، مع بقاءِ أصلِ الإسلام في القلبِ، وهو لا يُخرِجُ من الملَّة، لكن صاحِبه على خطرٍ عظيمٍ، وعلى شفَا هلَكَة؛ لظهور علامات المنافقين عليه التي تدُلُّ على اختِلاف حالة السرِّ عن حالة العلانية.
وقد قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - عن خُشُوع النفاقِ لما سُئِل عنه: "أن ترَى الجسَدَ خاشِعًا والقلبُ ليس بخاشِعٍ".
وقال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: "من النفاقِ: اختِلافُ القلب واللسان، واختِلافُ السرِّ والعلانية، واختِلافُ الدخول والخروج".
ومن علامات صاحب هذا النفاقِ: أنه يُظهِر للناس علانيةً صالحةً وتقوَى، فإذا خلاَ بنفسه، اختَلَفت حالتُه، وقَلَّ خوفه وحياؤه من ربه، (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء: 108].
وهو يُرائِي الناسَ بأعماله، ويسعَى للتسميع بما يفعَل، وإذا صلَّى بين الناس جوَّدَ صلاتَه وأتقَنَها، وإذا خلاَ بنفسه فرَّط فيها ونقَرَها وأخَّرَها عن وقتها، يتخلَّفُ عن الصلوات بالمساجِدِ دائمًا بلا عُذر، وأثقَلُ الصلوات على المنافقين صلاةُ العشاء والفجر، ومن تَرَك ثلاث جُمَعٍ بلا عُذرٍ كُتِب من المنافقين، كما ثبَتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -.
عباد الله: ومن خُطورة هذا النفاقِ الأصغر: أنه سُلَّمٌ وجسرٌ إلى النفاق الأكبر، إذا استمَرَّ صاحبُه على أخلاق المنافقين، وأكثَرَ من شُعب النفاقِ ولم يدَعْها، ويُخشَى عليه أن يُسلَب الإيمان عند الموت، ويُختَم له بخاتمةٍ سيئةٍ.
كما ثبَتَ في "الصحيح": «أن الرجلَ ليعمَلُ الزمنَ الطويلَ بعمَل أهل الجنَّة، ثم يُختَم له عملُه بعملِ أهل النار».
وقد بيَّنَت الروايةُ الأُخرى في "الصحيح": أن عمَلَه بعمَلِ أهل الجنة ذاك، إنما كان فيما يبدُو للناسِ.
وهذا النفاقُ الأصغرُ - يا عباد الله - دليلٌ على ضعفِ الإيمان في القلب، وقِلَّة تعظيمِ الله والرغبةِ في الدار الآخرة، فلذلك ترَى صاحِبَه في علاقته بالناس، إذا حدَّث كذَب، وإذا وعدَ أخلَف، وإذا خاصَمَ فَجَر، وإذا عاهَدَ غدَر، وإذا اؤتُمِن خانَ الأمانةَ، وغشَّ المسلمين، وإذا عامَلَهم داهَنَهم وعامَلَهم بوجهَين، وإن من شِرار الناس عند الله ذا الوجهَين، الذي يلقَى هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ.
وهذا دليلٌ على اختِلاف حالة سرِّه عن حالة علانيتِه، فهو مُتردِّدٌ مُتحيِّرٌ في أمره، لا تستقِرُّ شخصيَّتُه على مبدأٍ أصيلٍ، ومنهجٍ واضحٍ، بل هو مع مصالحه الشخصية، وأغراضه النفعِيَّة المادية، وحيث كانت توجَّهَت إليها ركائِبُه، كما وصَفَه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وصفًا دقيقًا بقولِه: «مَثَلُ المنافقِ كمثلِ الشَّاةِ العائرةِ بين الغنمَيْن - يعني: المُتردِّدة والحائِرة - تعِيرُ إلى هذه مرَّةً، وإلى هذه مرَّةً، لا تدري أيَّهما تَتْبَعُ» (أخرجه أحمد ومسلم).
ومن علاماته: أنه يدعُو بدعوَى الجاهلية، ويُفارِق الجماعة، وينزِع يدًا من طاعة، ويستخِفُّ بولاةِ الأمر والعلماءِ والمصلحين.
كما قال عمَّارٌ وجابِرٌ - رضي الله عنهما -: "ثلاثةٌ لا يستخِفُّ بحقِّهن إلا مُنافقٌ بيِّنٌ نفاقُه: الإمامُ المُقسِط، ومُعلِّم الخير، وذو الشَّيبَة في الإسلام".
وترَى صاحِبَ هذا النفاق يتشبَّعُ بما لم يُعطَ كلابِسٍ ثوبَيْ زُور، ويُحبُّ أن يُحمَد بما لم يفعَل، ويُكثِر من اللَّعن والسبِّ والفُحش في منطِقِه، وإن البذاءَ والبيانَ شُعبَتَان من النفاق، كما ثبَتَ عند الإمام أحمد في "مسنده".
ونُشُوزُ المرأة على زوجها بغير حقٍّ، وطلبها الخُلْع منه بدون عُذر، وتبرُّجُ المرأة وسُفُورُها، وخَلعُها الحياء والحِشمَة والعفاف من خِصالِ النفاقِ، كما ثبَتَ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.
أيها المسلمون: هذا النفاقُ الأصغرُ العمليُّ هو الذي كان الصحابةُ والسلفُ يخافُون منه ويُحاسِبون أنفسَهم؛ لئلا يقَعُوا في خصلةٍ من خِصاله، فقد امتَلأت قلوبُهم بتعظيمِ الله - سبحانه -، والإخلاص له، والصدقِ معه ومُراقبَته، وعلِمُوا أن النفاقَ أساسُ بنائِه على الكذِبِ والخِداعِ والتلوُّن، فلذلك عمَرُوا بواطِنَهم بالخيرات، وأصلَحُوا سرائِرَهم، وحرصوا على لُزُوم جماعة المسلمين وإمامهم، والنُّصح لكل مسلمٍ؛ فإن ذلك يُصفِّي القلوب، ويُطهِّرها من الدَّغَل والغشِّ.
وأكثَرُوا من نوافِل السرِّ التي هي أحبُّ إليهم من نوافِلِ العلانية، وداوَمُوا على تلاوة القرآن وذِكرِ الله، وحرصُوا على إدارك تكبيرةِ الإحرام التي من حافَظَ عليها كُتبَت له براءَتَان من النفاقِ ومن النارِ.
وكتَمُوا حسناتهم، وأخفَوا أعمالهم، واستَوَى عندهم مَدحُ الناس وذمُّهم، والْتَمَسُوا رضَا الله ولو سخِطَ الناس، وكانت لهم خبيئَاتُ الأعمال، فلذلك صلَُحت قلوبهم، وخلُصَت من الرياء والسمعة، وطهُرَت من النفاق، وأصلَحَ الله لهم علانيَتَهم وأغيرَتهم، وكفاهم أمرَ دينهم.
يقول ابنُ الجوزيِّ - رحمه الله -: "من أصلَحَ سريرَتَه فاحَ عبيرُ فضلِه، وعبَقَت القلوب بنشر طِيبه. فاللهَ اللهَ في إصلاحِ السرائِر، فإنه ما ينفَعُ مع فسادِها صلاحُ الظاهِر".
أيها المسلمون: إن إخوانَنا في سوريا، وخاصَّةً في حلَب، يتعرَّضُون لأبشَع العُدوان والظُّلم وسفك الدماء، وتسلُّط الأعداء من الباطنية والخوارج وغيرهم، وإن من علامات المؤمن الصادق: أنه يحزَنُ لمُصاب إخوانه، ويهتمُّ بأمرِهم، ويسعَى لإغاثَتِهم.
ومن هنا أمَرَ خادمُ الحرمين الشريفين - وفَّقه الله وأيَّده - بإقامة حملةٍ شعبيةٍ لإغاثة إخوانِنا في سوريا والوقوفِ معهم وإسعافهم، وإننا لنحُثُّ المسلمين جميعًا على المشاركة الفاعِلَة في هذه الحملة، ومُساعَدة أهلنا في سوريا، والوقوف معهم في كَربهم، وإدخال السُّرور على قلوبهم، والله في عَون العبدِ ما دام العبدُ في عَون إخوانه.
ثم صلُّوا وسلِّموا على سيِّد البشرية وهادِيها وسراجِها المنير، فإن الله - عزَّ وجل - قد أمَرَنا بالصلاةِ والسلامِ عليه؛ حيث قال في مُحكَم تنزيله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وثبتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «من صلَّى عليَّ واحدةً، صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على عبدك ورسولك نبيِّنا وحبيبِنا وسيِّدنا وقُدوتنا محمدٍ، وعلى آلهِ وأزواجه، وصحابتِه الكرامِ، وخُصَّ منهم: أبا بكرٍ الصدِّيقَ، وعُمرَ الفاروقَ، وعُثمانَ ذا النُّورَين، وعليًّا أبا الحسنَين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين.
اللهم انصُر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم انصُر إخواننا في فلسطين، اللهم انصُر إخواننا في الشام، اللهم انصُر إخواننا في سوريا، اللهم انصُر إخواننا في العراق وفي اليمن، اللهم انصُرهم نصرًا مُؤزَّرًا، وكُن معهم ولا تكُن عليهم، وانصُرهم ولا تنصُر عليهم بقوَّتك يا قويُّ يا عزيز.
اللهم انصُر إخواننا المجاهدين المرابطين على الحدود، اللهم انصُر إخواننا المجاهدين المرابطين على الحدود، اللهم انصُرهم نصرًا مُؤزَّرًا، وأعِنهم بقوَّتك يا قويُّ يا عزيز.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه صلاحُ البلاد والعباد، واجعَلهم مفاتيحَ للخيرِ مغاليقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم اغفِر لنا ولوالِدِينا، اللهم اغفِر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافِنا واعفُ عنَّا، وارزُقنا واجبُرنا، وارفَعنا ولا تضَعنا، وأكرِمنا ولا تُهنَّا، وأعِنَّا ولا تُعِنْ علينا، وانصُر ولا تنصُر علينا، اللهم انصُرنا على من ظلَمَنا، اللهم انصُرنا على من بغَى علينا، اللهم انصُرنا على من عادانا، ولا تُشمِت بنا عدُوًّا ولا حاسِدًا برحمتِك يا أرحم الراحمين.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابِه أجمعين.