الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
ومن نظرَ إلى المجتمعِ الكافرِ علمَ أنَّه ليسَ لديهم في التَّرفيهِ سَقفٌ، ولا يمنعُهم عن وسائلِه دينٌ ولا حياءٌ ولا عَيبٌ ولا عُرفٌ، فيفعلونَ ما شاءوا متى شاءوا بأيِّ طريقةٍ شاءوا،.. ولكن المصيبةَ العظمى عندما تحذو بعضُ الدُّولِ الإسلاميةِ حذوَهم في التَّرفيهِ دونَ الالتفاتِ إلى الحلالِ والحرامِ، وأيُّ سعادةٍ وأيُّ ضَحِكٍ وأيُّ فرحٍ وأيُّ سرورٍ هذا الذي يُدخلُه الإنسانُ على نفسِه وعلى أهلِه وهو يخوضُ في معصيةِ اللهِ تعالى..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وحيثُ أن خيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فإنَّه بأبي وأمي كانَ يُسابقُ زوجتَه، كما تقولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وَأنا خَفِيفَةُ اللَّحْمِ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "تَقَدَّمُوا"، ثُمَّ قَالَ لِي: "تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ"، فَسَابَقَنِي، فَسَبَقْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي سَفَرٍ آخَرَ، وَقَدْ حَمَلْتُ اللَّحْمَ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "تَقَدَّمُوا"، ثُمَّ قَالَ لِي: تَعَالَيْ أُسَابِقُكِ، فَسَابَقَنِي فَسَبَقَنِي، فَضَرَبَ بِيَدِهِ كَتِفِي، وَقَالَ: "هَذِهِ بِتِلْكَ".
وسابقَ بينَ الخيلِ كما في حديثِ ابنِ عمرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلى ثنيَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تَضْمُرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ مِمَّنْ سَابَقَ بِهَا.. وصَارَعَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- رُكَانَةَ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا وَضَعَ أَحَدٌ جَنْبِي إِلَى الأَرْضِ، فكانَ سبباً في إسلامِه.. وهذه مصارعةٌ ليسَ فيها أذى ولا ضررٌّ ولا كشفٌ للعوراتِ.
ومَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ –أيْ: يتسابقونَ برمي السِّهامِ-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ"، فَأَمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ؟"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ، قَالَ: "ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ".
واستمعَ إلى الشِّعرِ، فعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَوْماً فَقَالَ: "هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْئاً؟"، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "هِيهِ"، فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتاً، فَقَالَ: "هِيهِ"، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتاً، فَقَالَ: "هِيهِ"، حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ..
وخرجَ إلى البساتينَ وإلى الصَّحراءِ للنُّزهةِ، ومازحَ أصحابَه، وسمحَ لعائشةَ باللَّعبِ مع البناتِ، وأذنَ للحبشةِ في يومِ العيدِ باللَّعبِ بِالدَّرَقِ –أيْ: التُّروسِ- وَالْحِرَابِ، وهو أشبَه بما يُسمى في عصرِنا الحالي بالعرضِ العسكري، وقالَ لعمرَ -رضيَ اللهُ عنه-: "دَعهم يا عمرُ، حتى تعلمَ اليهودُ والنَّصارى أنَّ في دينِنا فُسحةً".
كلُّ هذه الأحاديثِ وغيرِها تدلُّ على أهميةِ التَّرفيهِ في حياةِ النَّاسِ، فلا بُدَّ للعبدِ أن يجعلَ لنفسِه أوقاتٍ للاستجمام والإيناسٍ، وإلا لما أنفقَ فيها -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- جُزءً من وقتِه الثَّمينِ، في التَّرويحِ عن النَّفسِ وهو رسولُ ربِّ العالمينَ.
فالجسدُ يحتاجُ إلى تجديدِ النَّشاطِ للعملِ، والنَّفسُ تحتاجُ إلى صرفِ السَّآمةِ والمللِ، ولذلكَ لمَّا رأى النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بعضَ أصحابِه قد أغفلَ هذا الجانبَ في حياتِه، دعاهُ ونصحَه وسدَّدَه وأرشدَه إلى الصَّوابِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا* قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟"، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا".
بل ظنَّ الصَّحابةُ الكِرامُ -رضيَ اللهُ عنهم- وهم أحرصُ النَّاسِ على الأوقاتِ، أن الغفلةَ التي يجدونَها وقتَ التَّرفيهِ هي من علاماتِ المنافقينَ والمنافقاتِ، وهذا ما شَعرَ به حَنْظَلَةُ الْأُسَيِّدِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، قَالَ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "وَمَا ذَاكَ؟".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً".
فهذه حياةُ المؤمنِ، ساعةٌ في الطَّاعةِ والعباداتِ، وساعةٌ مع الأولادِ والزَّوجاتِ، وساعةٌ في الأعمالِ والتِّجاراتِ، فهو بينَ الطَّاعاتِ والمُباحاتِ، وقد يجعلُ المُباحَ والتَّرفيهَ بصالحِ نيَّتِه صَدقاتٍ، قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لسعدِ بنِ أبي وقاصٍ -رضيَ اللهُ عنه-: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ".
قالَ النَّوويُ -رحمَه اللهُ-: "وَفِيهِ: أَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّه تَعَالَى صَارَ طَاعَةً، وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْله -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلَهَا فِي فَمِ اِمْرَأَتك"، لِأَنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ أَخَصِّ حُظُوظِه الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِه وَمَلَاذِه الْمُبَاحَةِ، وَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَة فِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ عِنْد الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحِ، فَهَذِهِ الْحَالَة أَبْعَد الْأَشْيَاء عَنْ الطَّاعَة وَأُمُور الْآخِرَة، وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَةِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ.
ثُمَّ قالَ: وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَقَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى يُثَابُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّوْمِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَةِ نَشِيطًا، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبَصَرَهُ وَنَحْوِهِمَا عَنِ الْحَرَامِ، وَلِيَقْضِيَ حَقَّهَا، لِيُحَصِّلَ وَلَدًا صَالِحًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"، فما أجملَ أن نستحضِّرَ ونُصحِّحَ في ترفيهِنا ومُباحِنا النَّوايا، حتى تكونَ من الصَّدقاتِ ونفوزَ بعظيمِ العطايا.
عبادَ اللهِ.. يختلفُ التَّرفيهُ باختلافِ الأعمارِ، فيحتاجُ الصَّغيرُ ما لا يحتاجُه الكِبارُ، ولكنْ بما أن كلَّ شيءٍ في حياةِ المؤمنِ مُرتبطٌ بعبادةِ الواحدِ الملكِ الدَّيانِ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]، وكلُّ صغيرةٍ وكبيرةٍ منضبطةٌ بضوابطِ شريعةِ الإيمانِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]، فالتَّرفيه كغيرِه من أمورِ الحياةِ التي لا ينبغي لها أن تُخالفَ شرعَ اللهِ سبحانَه وتعالى والغايةَ من خلقِ الإنسانِ.
فالمسلمُ في ترفيهِه يحتسبُ الأجرَ في تعلُّمِ فنونِ الجِهادِ، وتقويةِ أواصرِ الوُدِّ بينَه وبينَ إخوانِه وأهلِه والأولادِ، فَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَجَابِرَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ، قَالَ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: أَكَسِلْتَ؟، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَقُولُ: "كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ لَعِبٌ، لَا يَكُونُ أَرْبَعَةٌ: مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ –تَعَلُّمُ الرِّمَايةِ-، وَتَعَلُّمُ الرَّجُلِ السَّبَّاحَةَ".
ومن نظرَ إلى المجتمعِ الكافرِ علمَ أنَّه ليسَ لديهم في التَّرفيهِ سَقفٌ، ولا يمنعُهم عن وسائلِه دينٌ ولا حياءٌ ولا عَيبٌ ولا عُرفٌ، فيفعلونَ ما شاءوا متى شاءوا بأيِّ طريقةٍ شاءوا، ويصرفونَ على التَّرفيهِ ملايينَ الدولاراتِ، حتى أصبحَ عندَهم من أهمِّ وأغنى التِّجاراتِ، ولا غرابةَ في ذلكَ فقد وصفَهم اللهُ تعالى بقولِه: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3].
ولكن المصيبةَ العظمى عندما تحذو بعضُ الدُّولِ الإسلاميةِ حذوَهم في التَّرفيهِ دونَ الالتفاتِ إلى الحلالِ والحرامِ، وأيُّ سعادةٍ وأيُّ ضَحِكٍ وأيُّ فرحٍ وأيُّ سرورٍ هذا الذي يُدخلُه الإنسانُ على نفسِه وعلى أهلِه وهو يخوضُ في معصيةِ اللهِ تعالى، ولكن صَدقَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ، تَبِعْتُمُوهُمْ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟، قَالَ: "فَمَنْ؟".
ونحنُ كدولةٍ قامتْ تحتَ رايةِ "لا إلهَ إلا اللهُ"، وشَرُفَتْ بخدمةِ بيتِ اللهِ، وفي أرَضِها جسدُ رسولِ اللهِ، -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فينبغي أن نكونَ على حذرٍ من الجهرِ بالمعاصي بحجَّةِ التَّرفيهِ كالمهرجاناتِ الغنائيةِ والأفلامِ السينمائيةِ، وما تنازعَ فيه المتنازعونَ واختلفَ فيه المُختَلِفونَ في وسائلِ التَّرفيه فمرجِعُهم دستورَ البِلادِ الكتابَ والسُّنَّةَ، كما أمرنا العزيزُ الحكيمِ، في كتابِه العظيمِ الكريمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 58]، يُفتي به علماءُ الشَّرعِ العالمينَ بالحلالِ والحرامِ، والنَّاظرينَ إلى عقوباتِ اللهِ تعالى لأهلِ المعاصي والإجرامِ، ثمَّ على الجميعِ الرِّضا والتَّسليمِ بأحكامِ الإسلامِ.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كل ِّذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ غافرِ الذنبِ وقابلِ التَّوبِ شديدِ العقابِ، ذي الطَّولِ لا إله إلا هو إليه المصيرُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له خالقُ الخلقِ مُدبرُ الأمرِ، له الفضلُ الكبيرُ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه، الرحمةُ المهداةُ، والنعمةُ المسداةُ، والسراجُ المنيرُ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلمَ تسليماً كثيراً..
أما بعد: فقد يقولُ قائلٌ: لماذا تُمنعُ الأفلامُ السينمائيةُ، وما تعرضُه شاشةُ التِّلفازِ في بعضِ البيوتِ أعظمُ وأكبرُ، ودونَ تحكُّمٍ أو ضوابطٍ، وللصغيرِ والكبيرِ، وللذكرِ والأنثى، ونحنُ نستطيعُ بافتتاحِ السِّينما أن نضبطَ الأفلامَ والأعمارَ والأوقاتِ؟!.
فيُقالُ: الضوابطُ في هذه الأمورِ لا تنضبطُ.. فمن سيضبطُها؟، وما هي الضَّوابطُ؟، وإلى متى؟، (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) [المائدة: 102]، وأما ما قلتَ مما يُعرضُ في بعضِ البيوتِ، فصدقتْ، بل وما يكونُ في بعضِ الاستراحاتِ والشَّاليهاتِ أشدُّ وأفظعُ، ولكن لا تزالُ البلادُ في عافيةٍ ما دام أن المنكرَ مستورٌ، كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "كُلُّ أَمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ".
فإذا جهرَ به النَّاسُ ولم يُنكرْ، رُفعتْ العافيةُ وجاءَ البلاءُ، فلا تسلْ بعدَ ذلكَ عن الأمنِ والرِّزقِ والرَّخاءِ، كما جاءَ في الحديثِ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِهِ".
وأما المهرجاناتُ الغنائيةُ وظهورُ المعازفُ، فعاقبتُها محتومةٌ، ونهايتُها محسومةٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَاكَ؟، قَالَ: "إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ".
واسمعْ إلى قولِ ابنِ القيمِ -رحمَه اللهُ-: "والذي شاهدناه نحنُ وغيرُنا وعرفناه بالتجاربِ: أنه ما ظهرتْ المعازفُ وآلاتُ اللهوِّ في قومٍ وفَشتْ فيهم، واشتغلوا بها: إلا سلَّطَ اللهُ عليهم العدو، وبُلوا بالقَحطِ والجَدبِ وولاةِ السُّوءِ، والعاقلُ يتأملُ أحوالَ العالمِ وينظرُ، واللهُ المستعانُ".. وكأنَّه -رحمَه اللهُ- ينظرُ في أحوالِ العالمِ الإسلاميِّ في زمانِنا.
فلنحافظْ على هذه البلادِ، من أهلِ الزَّيغِ والفسادِ، فإذا كَثُرَ الشَّرُ وعمَّ، أحاطَ العذابُ وطمَّ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟، قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ"، وقد حذَّرنا اللهُ تعالى بقولِه: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25]، فنعوذُ باللهِ تعالى من سخطِه وعذابِه وعقابِه.
اللهمَّ يا مُسيَّرَ الفُلكِ، ومَالكَ الملكِ، احفظ بلادَنا وبلادِ المسلمينَ من كيدِ الكائدينَ، اللهم اجعلْ كيدَ أعداءِ هذه البلادِ في نحورِهم، واجعل تدبيرَهم في تدميرِهم يا ربَّ العالمينَ، اللهم إنا نجعلُك في نحورِهم، ونعوذُ بك من شرورِهم، اللهم من أرادَ بلادَنا بشرٍّ، فأشغلُه اللهمَّ بنفسِه.
اللهم نعوذُ بك من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهم وَفقْ ولاةَ أمرِنا لما تحبُه وترضاه، اللهم ارزقهم البطانةَ الصَّالحةَ النَّاصحةَ، اللهم اجعلهم باباً لكلِّ خيرٍ، وصُدَّ بهم كلَّ شرٍّ، واحفظْ بهم ديننا وأمنَنا وخيرَنا، واجعلهم رحمةً للبلادِ والعبادِ.
اللهمَّ إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتِك، وتحوُّلِ عافيتِك، وفُجاءةِ نقمتِك، وجميعِ سخطِك، اللهم اجعل للمسلمينَ من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كلِ ضيقٍ مخرجاً، ومن كلِ بلاءٍ عافيةً، ومن كلِ مرضٍ شفاءً، ومن كلِ دينٍ وفاءً، ومن كل حاجةٍ قضاءً، ومن كل ذَنبٍ مغفرةً ورحمةً، إنكَ أرحمُ الراحمينَ.