البحث

عبارات مقترحة:

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

المهيمن

كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...

فقه الأمر والنهي

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - الحكمة وتعليل أفعال الله
عناصر الخطبة
  1. تعظيم الآمر الناهي .
  2. الأوامر الكونية والشرعية .
  3. علامات تعظيم أوامر الله .
  4. ثمرات فعل المأمورات وترك المنهيات .
  5. حكم الأمر والنهي .
  6. فقه التدرج في التشريع .

اقتباس

وعندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة أو تقليد أو سلوك، أو وضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به، ويأخذ الأمر باليسر والرفق والتدرج، ويهيئ الفرصة والظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة عن قناعة كمسألة الرق، ومسألة تحريم الخمر والميسر، فقد كان الأمر أمر عادة وإلف، والعادة تحتاج إلى علاج لقلعها من النفوس، والعلاج يحتاج إلى وقت...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، وبحمده يستفتح الكلام، والحمد له فحمده من أفضل ما تحركت به الألسن وجرت الأقلام، أحمده تعالى على الدوام، وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأبان لنا الأمر والنهي، وشرع لنا الشرائع وأحكم الأحكام، وأمرنا بالبر والاجتماع على الحق والاعتصام، ونهانا عن الجفاء وسائر الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، ولي كل إنعام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، هو للأمة بدر التمام، وللأنبياء مسك الختام، المصطفى من الرسل والمجتبى من الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تبارك وتعالى- حق التقوى، فمن تمسك بها سلم من محذور العواقب ومن شرور النوائب.

أيها الإخوة: مما لا شك فيه أنه إذا استقام القلب بالإيمان، استقامت الجوارح بالطاعة والانقياد، وإنما يستقيم القلب بأمرين: تقديم ما يحبه الله تعالى على ما تحبه النفس بكمال الإيمان, وتعظيم الأمر والنهي وهو الشريعة، وذلك ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، وهو الله -عزَّ وجلَّ-، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].

إن الإنسان قد يفعل الأمر لنظر الخلق إليه، وقد يترك المناهي خشية سقوطه من أعين الناس، أو خوفاً من العقوبات الشرعية، فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي.

عباد الله: إن أوامر الله -عزَّ وجلَّ- تنقسم إلى: أوامر كونية يدبِّر الله بها الكون, وأوامر شرعية خاصة بالإنس والجن. والأوامر الشرعية قسمان: الأول: أوامر شرعية محبوبة للنفس كالأمر بالأكل من الطيبات، ونكاح ما طاب من النساء إلى أربع، وصيد البر والبحر ونحو ذلك. والثاني: أوامر شرعية مكروهة للنفس، وهي نوعان: الأول: أوامر خفيفة سهلة كالأدعية والأذكار، وتلاوة القرآن، والنوافل والصلوات ونحوها. الثاني: أوامر ثقيلة كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.

وكلما زاد الإيمان ازداد التمسك بالأمر الشرعي والابتعاد عن النهي، فإذا زاد الإيمان صار المبغوض محبوباً، وصار الثقيل خفيفاً، وتحقق مراد الله من عباده: بالدعوة والعبادة، وعندها تتحرك بذلك الجوارح.

عباد الله: إن الله -سبحانه- هو الحاكم في حياة العباد، وليس لغيره أمر ولا نهي، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم، ولا خلق ولا تدبير. فهذا كله اختص به ملك الملوك وحده لا شريك له.

وكل مسلم مأمور بفعل ما أمره الله ورسوله به، واجتناب ما نهى الله ورسوله عنه، وإذا فعل المسلمُ المنهيَ عنه متعمداً فهو آثم، إلا إذا كان مضطراً فيباح له بقدر الضرورة كالأكل من الميتة أو الخنزير بقدر الحاجة ونحو ذلك، وإذا فعل المنهي عنه ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه قال -سبحانه-: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286]. فقال الله: "قد فعلت". ومن أخطأ أو قصّر أو فرّط ثم تاب، فإن الله تعالى واسع المغفرة، قال -عزَّ وجلَّ-: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 5].

عباد الله: وعلامات تعظيم أوامر الله: أن يذكر العبد الآمر بها, ويراعي أوقاتها وحدودها, ويأتي بأركانها وواجباتها وسننها وآدابها, ويحرص على كمالها, ويسارع إلى أدائها, ويفرح بها, ويحزن عند فواتها، كمن فاتته صلاة الجماعة ونحوها. وأن يفرح بالطاعات, ويسر برؤية الطائعين، وأن يغضب لله إذا انتهكت محارمه, ويحزن عند معصيته, ولا يسترسل مع الرخص, ولا يكون دأبه البحث عن علل الأحكام, بل يفعل الطاعات، ويجتنب المعاصي؛ لأن الله أمره بذلك, فإن ظهرت له الحكمة حمله ذلك على مزيد الانقياد والعمل.

أيها الإخوة: إن كل ما أمر الله ورسوله به يجب على المسلم القيام به بحسب الاستطاعة كما قال -سبحانه-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337)]، فالأوامر الشرعية معظمة يأتي العبد منها ما يستطيع، وأما المنهيات فيجب اجتنابها مطلقاً قال -سبحانه-: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7].

عباد الله: إن كمال الإنسان يتحقق بالإيمان والتقوى، وكمال التقوى بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه، وإن فعل المأمورات أحب إلى الله من ترك المنهيات، كما قال -صلى الله عليه وسلم- حين سئل أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: "الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا". قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله" [أخرجه البخاري (527)].

وإن فعل ما يحبه الله من الطاعات والمأمورات مقصود بالذات، وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور، فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه أو ينقصه، كما نهى الله -عزَّ وجلَّ- عن الخمر والميسر لكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات التي يحبها الله.

وفي فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه، وزينته وسروره، وقرة عينه، ولذته ونعيمه، وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصِّل له شيئاً من ذلك.

أيها الإخوة: وللعباد حالات مع الأمر والنهي:

فمن فعل المأمورات وترك المنهيات فهذا ناجٍ مطلقاً. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256].

ومن فعل المأمورات وفعل المنهيات، فهو إما ناجٍ مطلقاً إن غلبت حسناته على سيئاته، وإما ناج بعد عقوبته على سيئاته وتمحيصه.

ومن ترك المأمورات وفعل المنهيات، فهو هالك غير ناج، ولا ينجو إلا بفعل المأمور وهو التوحيد، فمتى خلا قلبه من التوحيد رأساً فهو هالك، وإن لم يعبد مع الله غيره. فإن عبد معه غيره عُذب على ترك التوحيد المأمور به، وفعل الشرك المنهي عنه.

أيها الإخوة: والطاعات والمعاصي إنما تتعلق بالأمر أصلاً، وبالنهي تبعاً. فالمطيع ممتثل المأمور، والعاصي تارك المأمور، واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه. فلو أن العبد اجتنب المنهي عنه، ولم يفعل ما أمر به، لم يكن مطيعاً، وكان عاصياً، بخلاف ما لو أتى بالأمر، وارتكب النهي، فإنه وإن عد عاصياً مذنباً، فهو مطيع بامتثال الأمر، عاصٍ بارتكاب النهي.

وامتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة، وتلك العبادة التي خلق الله لأجلها الخلق، بخلاف النهي فإنه أمر عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم، بخلاف الأمر فإنه أمر وجودي مطلوب الحصول.

إنّ ترك الأمر أعظم عند الله من ارتكاب النهي؛ لأن الله نهى آدم عن الأكل من الشجرة فأكل منها فتاب، فتاب الله عليه. وإبليس أُمر أن يسجد لآدم مع الملائكة فلم يسجد واستكبر، فطرده الله ولعنه.

وارتكاب النهي غالباً مصدره الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر في الغالب الكبر والعزة. والجنة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنى وسرق.

إن الله -عزَّ وجلَّ- جعل جزاء المأمورات عشرة أمثالها، وجزاء المنهيات مثلاً واحداً، قال -سبحانه-: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160]، وهذا يدل على أن فعل ما أمر الله به أحب إليه من ترك ما نهى عنه، وإن كان كلاً منهما مقصود ومطلوب، فالمأمور به محبوب الله -سبحانه-، والمنهي عنه مكروهه، ووقوع محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه، وفوات محبوبه أكره إليه من وقوع مكروهة.

عباد الله: وما أمر الله -عزَّ وجلَّ- بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: فإما إلى غلو ومجاوزة, وإما إلى تفريط وتقصير. وهاتان الآفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من اتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظاهراً وباطناً وترك ما سواه. وهذان المرضان الخطيران قد استوليا على أكثر بني آدم، ودين الله بين الغالي فيه، والجافي عنه.

إن مقصود الأمر تحصيل المصلحة، ومقصود النهي دفع المفسدة. وقوة فعل الأوامر، واجتناب النواهي، مبنية على ما في القلوب من قوة الإيمان وضعفه، وزيادته ونقصانه. فالإيمان هو المحرك، والأعمال منه ومن ثمراته، وهو يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. والله -سبحانه- أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فمن شاء سلك طريق الهدى ونال ثوابه، ومن شاء تركه وتحمل عقوبته: (يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الأعراف: 35 ،36].

وإذا تبين الحق من الباطل، والنور من الظلام، والرشد من الغي، زال اللبس، وانكشف الأمر، وظهر ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويسخطه: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 42].

أيها الأحبة: إن الله -عزَّ وجلَّ- أعطى هذه الأمة وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله، والأنبياء لم يبعثوا بالعبادات فقط، بل بعثهم الله بالتوحيد والإيمان، وحل جميع المشاكل الإنسانية في الدنيا والآخرة, في العبادات، والمعاملات، والمعاشرات، والأخلاق.

فالصلاة أمر من أوامر الله، لا بدَّ أن تكون على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكذلك المعاملات كلها لها أوامر من الله، فلا بدَّ أن تكون على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذا المعاشرات والأخلاق، فالله أرسل الأنبياء بالدين الكامل، ومن ظن أن الدين عبادات فقط، أما باقي مجالات الحياة فالناس أحرار يفعلون ما يشاؤون فقد أخطأ وضل وأضل، وقال على الله ما لا يعلم.

فلا يجوز أن تكون العبادات على طريقة محمد -صلى الله عليه وسلم-, والتصرف في الأموال على طريقة قارون, ومزاولة الملك على طريقة فرعون, والتجارة على طريقة اليهود, وتناول الشهوات على طريقة النصارى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة: 85، 86].

إن الله -عزَّ وجلَّ- له أوامر في كل شيء، من أطاع الله فيها فهو رابح، ومن عصى الله فيها فهو خاسر، والأنبياء بينوا هذه الأوامر في شعب الحياة كلها، وذلك لتدخل حياة الأنبياء في حياة الناس.

فمقصدنا في التجارة ليس جمع المال، بل مقصدنا الاستعانة به على طاعة الله، وإفادة الناس منه، وامتثال أوامر الله فيه، والاستغناء به عن سؤال الناس. وإذا طلب التاجر الدنيا مرائياً مفاخراً غضب الله عليه، وعذبه بماله في الدنيا وفي الآخرة: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 55].

والمسلمون في مكة في بداية الدعوة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم، ولذلك لم ينزل الله في تلك الفترة تنظيمات وشرائع وشعائر، وإنما أنزل لهم أوامر التوحيد والإيمان وحسن الأخلاق, ولما اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وسلّموا أنفسهم لله، فلا يختارون إلا ما اختار الله وأمر به، حينذاك نزلت الشرائع والشعائر في المدينة متوالية كالمطر في جميع شُعب الحياة، وفي جميع الأوقات والأحوال، فقبلوها وفرحوا بها وقالوا: "سمعنا وأطعنا".

أيها الإخوة: إن الله حكيم عليم، فحين يتعلق الأمر أو النهي بالتوحيد والشرك، أو بالإيمان والكفر، فإن الله يقضي فيه قضاءً حاسماً منذ اللحظة الأولى، ويمضي أمره في ضربة حازمة جازمة صريحة لا غموض فيها، ولا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة ولا مساومة، ولا تأجيل فيها ولا تأخير، فمن أول يوم قال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [الكافرون: 1، 2].

وعندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة أو تقليد أو سلوك، أو وضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به، ويأخذ الأمر باليسر والرفق والتدرج، ويهيئ الفرصة والظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة عن قناعة كمسألة الرق، ومسألة تحريم الخمر والميسر، فقد كان الأمر أمر عادة وإلف، والعادة تحتاج إلى علاج لقلعها من النفوس، والعلاج يحتاج إلى وقت.

فبدأ الله -عزَّ وجلَّ- بتحريك الوجدان الديني في نفوس المسلمين بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأن تركه هو الأولى. ثم نهاهم عن أداء الصلاة وهم سكارى، وفي هذا تضييق لوقت شرب الخمر. فلما تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر، مقروناً بالتنفير عنه.

فلما اطمأنت القلوب انقادت الجوارح وأطاعت، وكسرت دنان الخمر امتثالاً لأوامر الله -عزَّ وجلَّ- بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة: 90، 91].

أيها الإخوة: أما ترك المأمور به فلا يُعذر بجهله ولا نسيانه، فلا بدَّ من الإتيان به، لكن الله رفع عنه الإثم كما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسيء في صلاته أن يعيدها، فمن نسي الوضوء وصلى فلا إثم عليه، لكن عليه إعادة الصلاة بعد أن يتوضأ, وهكذا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله: إن أحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها إنما تثبت في حق العبد بعد بلوغه هو، وبلوغها إليه، فكما لا يترتب في حقه قبل بلوغه، فكذلك لا يترتب في حقه قبل بلوغها إليه في العبادات والمعاملات والحدود وغيرها.

ولله -عزَّ وجلَّ- على كل عبد نوعان من الحقوق:

أحدها: أمره ونهيه الذي هو محض حقه عليه.

الثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليه.

فالله -سبحانه- يطالب العباد بشكر نعمه، وبالقيام بأمره، فمشهد الواجب عليه لا يزال يشهده تقصيره وتفريطه، وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته.

وكلما كان العبد أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم، وشهوده لتقصيره أعظم، فليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وأقل الناس ديناً وأمقتهم عند الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا بأجمعها.

أيها الإخوة: وأوامر الله التي كلفنا بها نوعان:

أحدها: ما نعرف وجه الحكمة فيه بعقولنا كالصلاة والزكاة والصيام وأكل الطيبات، وجلّ الشريعة من هذا النوع.

الثاني: ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمار في الحج، والوضوء من أكل لحم الجزور، ونحو ذلك.

وكما يحسن من الله أن يأمر عباده بالنوع الأول، فكذلك يحسن الأمر منه بالنوع الثاني؛ لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد؛ لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله وجه الحكمة والمصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنها تدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم. وإذا كان هذا في الأفعال ففي الأقوال مثله، وهو أن يأمرنا الله أن نتكلم بما نقف على معناه كالآيات، وتارة بما لا نقف على معناه كالحروف المقطعة في أوائل السور.

وأسباب الترك أنواع: منها تركه -صلى الله عليه وسلم- الفعل المستحب خشية أن يُفرض على الأمة، ومنه ترك قيام رمضان جماعة خشية أن يُفرض عليهم، فلما زالت الخشية بوفاته وانقطاع الوحي أعاد الصحابة -رضي الله عنهم- فعلها في المسجد زمن عمر -رضي الله عنه-.

ومنها ترك الفعل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب، ومنه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ لكل صلاة استحباباً، وقد ترك ذلك يوم فتح مكة لبيان الجواز.

ومنها الترك لأجل المشقة التي تلحق الأمة في الاقتداء بالفعل، ومنه ترك الرمل في الأشواط الأربعة الأخيرة من الطواف، فلم يمنعه من أن يرمل في الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

ومنها ترك المطلوب خشية من حدوث مفسدة أعظم من بقائه، وهذا من السياسة الشرعية المقررة، كما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- نقض الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ؛ لأن قريشاً حديثو عهد بكفر.

ومنها الترك على سبيل العقوبة كتركه الصلاة على المدين، فلما وسع الله عليه كان يصلي ولا يسأل عن الدين.

ومنها الترك لمانع شرعي كقصة نومه عن صلاة الفجر في السفر، فلم يبادر للقضاء لكون الشمس في أول طلوعها، ويحتمل لأن بالوادي شيطان، ثم تحول بالناس وصلى بهم في مكان آخر.

والله تعالى إذا أمر عبده بأمر وجب عليه أن يعرف حده، وما هو الذي أمر به؛ ليتمكن بذلك من امتثاله، فإذا عرف ذلك اجتهد واستعان بالله على امتثاله في نفسه وفي غيره بحسب قدرته وإمكانه.

وكذلك إذا نهى عن أمر عرف حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد واستعان بالله على تركه.

وينهى الله -عزَّ وجلَّ- عن الفحشاء، وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر كالشرك بالله، والقتل بغير حق، والزنا والسرقة، والعجب والكبر، واحتقار الخلق، ونحو ذلك.

وينهى كذلك عن المنكر، وهو كل ذنب ومعصية تتعلق بحق الله تعالى. وينهى عن البغي، وهو كل عدوان على الخلق في الدماء والأموال والأعراض ونحوها.

قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90], فهذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات ولم يبق شيء إلا دخل فيها، فكل مسألة مشتملة على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي القربى فهي مما أمر الله به، وكل مسألة مشتملة على فحشاء، أو منكر، أو بغي فهي مما نهى الله عنه.

أيها الإخوة: إن ما جاءت به الشريعة من المأمورات والكفارات والعقوبات ونحوها فإنه يُفعل منه حسب الاستطاعة، فإذا لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين فإنه يجاهد على من يقدر على جهادهم.

الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فالقليل من الخير خير من تركه، ودفع بعض الشر خير من تركه كله. وقد أمر الله المؤمنين باتباع ما أنزل إليهم من ربهم قال -سبحانه-: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 55].

فالقرآن هو أحسن الحديث وأعظمه وأكمله بالنسبة لغيره، وأخباره وأوامره فيه الحَسن والأحسن فالخبر عن الأبرار والمقربين يتضمن أن اتباع الصنفين حسن، واتباع المقربين أحسن.

والأمر يتضمن الأمر بالواجبات والمستحبات، والاقتصار على فعل الواجبات حسن، وفعل المستحبات معها أحسن. والله -سبحانه- أمر بالعدل والإحسان، ولا ريب أن العدل حسن، والإحسان مع العدل أحسن.

ومن اتبع الأحسن فاقتدى بالمقربين، وتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وأحسن في عبادة ربه ومعاملة خلقه، فهو أحق بالبشرى كما قال -سبحانه-: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 17،18].

والأمر بالمعروف وفعل الخيرات والعبادة والتعليم كلها أعمال حسنة، وفي كل منها الحسن والأحسن., كما قال -سبحانه-: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [الحديد: 10].

فاستمسكوا -أيها الإخوة- بشرع الله ودينه، أطيعوا الأمر واجتنبوا النهي، وعظموا أوامر الشرع، نسأل الله أن يأخذ بنواصينا إليه أخذ الكرام عليه.

اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، ورضًا بحكمك، وتسليمًا لشرعك، وطاعة لأمرك، واجتنابًا لمعاصيك، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.