الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل - أهل السنة والجماعة |
وفي أخريات خلافة عثمان رضي الله عنه خرج الخارجون عليه، وثار الثائرون على سياسته وخلافته من دهماء الأعراب، ورعاع الناس، يقودهم في تلك الفتنة دعاة شر وضلال، فهب جمع من الصحابة لحمايته؛ ولكنه فدى الأمة بدمه، وأمر المنتصرين له بإغماد سيوفهم، ولزوم بيوتهم؛ حتى لا تكون فتنة، فقتله الخارجون عليه وهو يقرأ القرآن ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا). [الأحزاب].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: كلما ابتعد الناسُ عن زمن النبوة زاد ابتعادهم عن الحق، ومسارعتهم في الباطل.
وسببُ ذلك: الهوى والجهل؛ فزمان النبي صلى الله عليه وسلم، وزمان خلفائه الراشدين المهديين عليهم رضوان الله تعالى هو زمان العلم والهدى، والنور والتقى، والتجرد من الهوى. وبانقضاء ذلك الزمن الفاضل ظهرت البدع والأهواء، وانتشرت الجهالاتُ والضلالات، وهي في ازدياد منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، وستظلُ كذلك إلى ما شاء الله تعالى تبعاً لفساد الزمان الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم. قال الزبير بن عدي رحمه الله تعالى: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، فقال: اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ رواه البخاري (1).
والأزمان التي يكون متأخرها أكثر شراً من متقدمها -كما جاء في الحديث- ليس المقصود بذلك الشر قلة الأرزاق والأموال، وإنما هو ذهاب العلم، وكثرة الجهل، واستحكام الهوى.
ويستتبع ذلك كثرة الفتن والمحن، والإثم والضلال؛ كما جاء مصرحاً به عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " لا يأتي عليكم يومٌ إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله، حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاءً من العيش يصيبه، ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون " (2).
من أجل ذلك كان الخير كل الخير في أول هذه الأمة، في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث العلم والهدى، ثم في عهد صحابته رضي الله عنهم، وفي القرون المفضلة التي زكاها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الشر والفتن والافتراق في أخريات هذه الأمة.
وكل فتنة تأتي تُنسي الناس ما قبلها من الفتن حتى يعتاد الناس عليها، فتخلفها فتنة أعظم، وهكذا إلى حين نزول المسيح ابن مريم عليه السلام؛ كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جَشَرِه إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيُرَقِّقُ بعضها بعضاً، وتجيءُ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر، فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله، آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي " رواه مسلم (3).
لقد نصح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أعظم النصح، وذكر لها ما يكون من الشر والفتنة، وبيّن لها العمل تجاه تلك الفتن؛ فأرشدها إلى وحدة الكلمة، واجتماع الشمل، وحذرها من الفرقة، أو شق عصا الطاعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ...) [آل عمران:102] إلى قوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105].
وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن لا يُتفرق هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة مثل قوله: " عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة " (4).
وقوله: " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه؟ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " (5).
وقوله: " ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: صلاحُ ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين " (6)...
إلى أن قال رحمه الله: " وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة بل وفي غيرها؛ هو التفرق والاختلاف" ا.هـ كلامه (7).
ابتدأت الفتن تطل برأسها على هذه الأمة بمقتل عمر رضي الله عنه الذي كان باباً مغلقاً دون الفتن، فانكسر الباب بقتله، فلا يغلق إلى آخر الزمان؛ كما جاء التصريح بذلك في حديث حذيفة رضي الله عنه (8).
وفي أخريات خلافة عثمان رضي الله عنه خرج الخارجون عليه، وثار الثائرون على سياسته وخلافته من دهماء الأعراب، ورعاع الناس، يقودهم في تلك الفتنة دعاة شر وضلال، فهب جمع من الصحابة لحمايته؛ ولكنه فدى الأمة بدمه، وأمر المنتصرين له بإغماد سيوفهم، ولزوم بيوتهم؛ حتى لا تكون فتنة، فقتله الخارجون عليه وهو يقرأ القرآن، ومن يومها وقع السيف في هذه الأمة، وعظمت الفرقة، واشتد الخلاف، والتبس الحق بالباطل، فاعتزل أكثر الصحابة رضي الله عنهم الفتن المتلاحقة؛ كما قال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: " هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مئة، بل لم يبلغوا ثلاثين " (9)، وقال الشعبي رحمه الله تعالى: " لم يشهد الجمل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاوزوا بخامس فأنا كذاب " (10).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " ولم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة، فلما قُتل وتفرَّق الناس حدثت بدعتان متقابلتان: بدعةُ الخوارج المكفرين لعلي، وبدعةُ الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو إلهيته، ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة، والمشبهة الممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك " ا.هـ (11).
إن الملاحظ -أيها الإخوة- أن الناس إذا أحدثوا بدعة من البدع أحدث آخرون بدعة أخرى تقابلها وتعارضها، فيقع كثير من الناس في حيرة بين البدعتين إلا من هداه الله تعالى بالعلم النافع؛ فجانب البدعتين، وأعرض عن خطأ الطائفتين.
ظهرت في الإسلام بدعة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي، ويستحلون دماءهم، فقابلها المرجئة ببدعتهم الضالة التي تنفي الكفر عمن يستحقه، وتدخل في الإيمان من ليس من أهله. ولما قال أقوام بالجبر عارضهم آخرون بالقدر.
ولما قال أقوام ببدعة التمثيل والتشبيه في صفات الرب تبارك وتعالى، قابلهم آخرون ببدعة النفي والتعطيل، فعطلوا الرب تبارك وتعالى من صفاته اللائقة به! ولما أخذ أناس بنصوص الوعيد والترهيب، وقصروا الناس على الأخذ بها، جاء آخرون فدعوا الناس إلى نصوص الوعد والترغيب، وقصروهم على ذلك؛ رداً على أهل الوعيد والترهيب.
فلا تظهر بدعة إلا قوبلت بأخرى في الطرف الآخر، ولا يُفْرِط أقوام إلا ويقابلهم آخرون بالتفريط، وهكذا احتار جمهور الأمة في كثير من الأعصار والأمصار بين دعاة الغلو ودعاة التقصير، وضاع الحق في دوامة الإفراط والتفريط، ولم يسلم من ذلك إلا أهل الحق من أتباع السلف الصالح الذين ثبتوا على الأمر الأول، وأخذوا بوسطية الإسلام البعيدة عن الإفراط أو التفريط، والغلو أو التقصير.
أسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يثبتنا على الحق المبين، وأن يتوفانا على الإسلام والسنة، غير مبدلين ولا مغيرين، إنه سميع مجيب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما أمر، والشكر له على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة؛ فقد تأذن بالزيادة لمن شكر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة نرجو بها النجاة في حال الخوف والخطر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ إرغاماً لمن جحد به وكفر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم العرض الأكبر.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، واحذروا الذنوب والمعاصي، والأهواء والبدع؛ فإنها أبوابُ الشرِ والفتن.
أيها المسلمون: الأمن نعمةٌ لا يعرف قدرها إلا من فقدها، وهو ركنٌ من أركان النعيم في الجنة؛ كما قال الله سبحانه: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ) [الدُخان:55]، وفي الآية الأخرى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:103].
إن الأمن ليس طعاماً يجاوزه من لا يشتهيه إلى ما يشتهيه، وليس لباساً ينزعه العبد ليستبدل به غيره؛ فإنه إن انُتزع فلا لباس يخلفه إلا لباس الخوف والجوع، نسأل الله العافية والسلامة.
وإذا رُفع الأمن، وحل الخوف؛ تولدت الفتن، وتشعبت الآراء، وعظم الافتراق، وأعجب كل ذي رأي برأيه، حتى تكون البدعة وضدها في البيت الواحد، ويعادي الأخ أخاه، ويقاتله بسبب قناعة كل واحد منهما بفكر يعارض فكر الآخر؛ كما ابتلي بذلك التابعي المحدث الجليل سالم ابن أبي الجعد رحمه الله تعالى؛ إذ كان له ستة بنين: " فاثنان شيعيان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان، فكان أبوهم يقول: قد خالف الله بينكم " (12).
وإذا ما وقع الافتراق، واشتعلت الفتن؛ اندرس الدين، وتعطلت الحدود، واختلط الأمر، وانتهكت الأعراض، وانتهبت الأموال، وسفكت الدماء؛ حتى يقتل الرجل لا يدري فيم قتل، ولا يدري قاتله فيم قتله، حينها يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: " يا ليتني مكانه " كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (13).
قال عثمان بن حيان رحمه الله تعالى -وكان والياً على المدينة للوليد ابن عبد الملك رحمه الله-: " أيها الناس، والله ما رأينا شعاراً قط مثل الأمن، ولا رأينا حِلْساً قط شراً من الخوف؛ فالزموا الطاعة؛ فإن عندي يا أهل المدينة خبرة من الخلاف، والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم، وعضوا على النواجذ...فإن الأمر إنما يُنقض شيئاً شيئاً حتى تكون الفتنة، وإن الفتنة من البلاء، والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد " ا.هـ (14).
إن أعظم سبب للأمن هو إقامة دين الله تعالى، والتزام أمره، وصيانة شريعته عن عبث العابثين، وانتحال المبطلين. وفتن الخروج على الولاة، وتكفير المسلمين لا تعالج ببدع المرجئة والمخذلين، فالبدعة تعالج بالسنة، ولا تعالج ببدعة أخرى حتى لا يضيع الحق بين البدعتين.
لقد سمعنا صهاينة أهل الكتاب وهم يعتدون على ديننا وقرآننا، ويتهمون مناهجنا ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالتطرف والإرهاب فلم نعجب من ذلك؛ لأنهم أعداؤنا، ولكننا رأينا أقواماً من بني جلدتنا، ينطقون بعربيتنا، يرددون ما يردده الصهاينة بعد وضعه في قوالب أخرى من الهجوم على حلقات تعليم القرآن، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنابر الجمعة، وكراسي التعليم والدعوة!! لقد رأيناهم في أحوال الفتن والأزمات يحاولون زرع الفرقة، ويشعلون نار الفتنة، في انتهازية قبيحة، واستغلال بغيض؛ لتحقيق مآرب شخصية، والوصول إلى أهداف مشبوهة.
واعجباً من أقوام يزعمون أن حلقات تعليم القرآن تُفرِّخ التطرف والإرهاب وهم يعلمون أنها لا تُدِّرس إلا القران! فلماذا لا يهاجمون القرآن مباشرة كما يفعل أساتذتهم الصهاينة، إلا أنهم يعلمون أن الأمة لا ترتضي ذلك؟! يا للغرابة من أشخاص يعقدون الندوات والمحاضرات، في الإذاعات والفضائيات، ويدبجون المقالات والافتتاحيات في الصحف والمجلات يزعمون أن مناهجنا هي السبب الرئيس للتطرف والإرهاب وهم يعلمون أن مناهجنا ليس فيها شيء خارج عن الكتاب والسنة، فلماذا لا يقولون: إن الكتاب والسنة هما منبع التطرف والإرهاب كما يقول صهاينة الغرب؟!
يا ويلهم من جبار منتقم يغار على حرماته، كيف يجترئون على ذلك وهم يشاهدون دولاً قسرت شعوبها على المناهج الإلحادية، ودرّست تلاميذها المناهج القومية والشيوعية، وضحايا التطرف والإرهاب فيها جاوزت عشرات الآلاف!! ثم أين درس هؤلاء الكتَّاب والمفكرون، هل درسوا في القمر أو استجلبت له مناهج من المريخ؟! إنهم درسوا في مدارسنا، وتربوا على مناهجنا، فإن كانت مناهجنا هي سبب التطرف والإرهاب فهل هم من الإرهابيين المتطرفين؟ وما الذي يخرجهم عن ذلك؟! لقد كان بعض هؤلاء الكتاب من الغلاة المتنطعين في الدين، فتحولوا إلى غلاة علمانيين، وآخرون منهم كانوا من غلاة الماركسيين والقوميين والبعثيين، فتحولوا إلى غلاة ليبراليين، وصاروا أكثر ليبرالية وامبريالية من أهلها الأصليين، فهم لا يعيشون إلا على الغلو والإفراط، ولا يعرفون الوسطية المحمودة.
ومع أنهم أعداد قليلة، ولا يمثلون إلا أنفسهم؛ فإنهم يستفزون جمهور الأمة بأطروحاتهم الخاطئة، ويريدون جرّ الناس كلهم إلى غلوهم وتنطعهم، ويأبون إلا قسرهم على منهجهم وسلوكهم في إرهاب فكري ضيق؛ وهذا من أعظم ما يسبب الاختلاف والفرقة، ويؤجج نار الصراعات والثارات، ويفتح باب الفتن والمحن؛ فعلى كل صاحب قلم ولسان أن يتقي الله تعالى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكون عوناً لأعدائها عليها، ولا يشعل نار فتنة لا يرجى إطفاؤها؛ فإن من أشعل فتنة أحرقته نارها، وكان عليه وزرها ووزر من سقط فيها.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يديم علينا نعمة الإيمان والأمن والاستقرار، وأن يحفظنا من كيد الفجار، ومكر الكفار، وأن يوفق ولاتنا لما فيه صلاح العباد والبلاد. اللهم من أراد ديننا وقرآننا وأمننا بسوء فأحبط كيده، وأبطل مكره، واكفنا شره، وخذه أخذ عزيز مقتدر، إنك على كل شيء قدير. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد (3/132)، والبخاري في الفتن باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه (7068). والترمذي في الفتن باب (35) (4037)، وأبو يعلى (4037)، وابن حبان (5952). (2) عزاه الحافظ في الفتح ليعقوب بن شيبة (13/24)، وانظر: تحفة الأحوذي (6/374). وقد ذكر الحافظ استشكال هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها؛ كما في زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وقد كان عقب الحجاج بزمن يسير، وذكر أجوبة لهذا الإشكال منها هذا الأثر عن ابن مسعود وقال: " وهو أولى بالاتباع" كما ذكر أجوبة أخرى هي: 1 - جواب الحسن البصري رحمه الله تعالى حينما سئل عن وجود عمر بن عبدالعزيز بعد الحجاج فقال: " لابد للناس من تنفيس" . 2 - أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر؛ فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبدالعزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده. 3 - أن المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة بناء على أنهم المخاطبون بذلك فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد بالخبر المذكور، وذكر الحافظ هذا الجواب رداً على استشكال زمن عيسى عليه السلام؛ إذ زمن النبي المعصوم لا شر فيه؛ بل هو خير. 4 - احتمال أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده، ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى عليه السلام فله حكم مستأنف. 5 - قال الحافظ: ثم وجدت عن ابن مسعود ما يصلح أن يفسر به الحديث وهو ما أخرجه الدارمي بسند حسن عن عبدالله قال: " لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لست أعني عاماً" ا ه- من الفتح (13/24) وقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في سنن الدارمي (188). (3) أخرجه أحمد (2/161)، ومسلم في الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844)، وابن ماجه في الفتن باب ما يكون من الفتن (3956) وقوله في الحديث: " ومنا من هو في جَشَرِه" معناه: في دوابه يعتني بها. (4) هذا اللفظ لم أعثر عليه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وجدته من حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه، ذكره المزي في تهذيب الكمال في ترجمة عمرو بن ميمون الأودي (22/261، برقم: 4458)، وجاء عن عمر رضي الله عنه في خطبته في الجابية بلفظ: " فمن أراد منكم بحبحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" أخرجه أحمد (1/18)، والترمذي في الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه (2165)، وصححه ابن حبان (7254)، والحاكم وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي (1/113)، وجاء هذا الحديث مصرحاً برفعه عند ابن أبي عاصم في السنة (88) وقال الترمذي بعد ذكره: " وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" ، وجاء مرفوعاً من حديث زكريا بن سلام عن أبيه عن رجل قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " أيها الناس عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة... ثلاث مرات" أخرجه أحمد (5/370). (5) أخرجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما البخاري في الفتن باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " سترون بعدي أموراً تنكرونها" (7054). (6) أخرجه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أحمد (6/444)، وأبو داود في الأدب باب إصلاح ذات البين (4919)، والترمذي في صفة القيامة والرقاق والورع باب سوء ذات البين، وصححه (2509)، والبغوي في شرح السنة (3538)، وصححه ابن حبان (5092)، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي (2509). (7) مجموع الفتاوى (22/ 358 - 360) مع كثير من الاختصار. (8) أخرجه أحمد (5/386)، ومسلم في الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، وأنه يأرز بين المسجدين (144). (9) أخرجه الخلال في السنة (1/446) وعبد الله بن الإمام أحمد في العلل ومعرفة الرجال (3/182)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية بعد أن ذكره: " وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض" (6/236). (10) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/538) برقم: (37782)، وعبدالله بن الإمام أحمد في العلل (3/45). (11) منهاج السنة النبوية (6/231). (12) سير أعلام النبلاء (5/109). (13) وذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مالك (1/241)، وأحمد (2/236)، والبخاري في الفتن باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور (7115)، ومسلم في الفتن باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (4/2231) برقم: (157). (14) باختصار من تاريخ الطبري (4/23).