المولى
كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...
العربية
المؤلف | يزيد بن الخضر ابن قاسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
السنة، هي: الشارحة والمبينة للقرآن، وقد وكل الله -تبارك وتعالى- مهمة تفسير القرآن، وبيان تعاليم الإسلام، وتفصيل الأحكام إلى رسوله، فلولا السنة لم يعرف الناس عدد ركعات الصلاة، وصفاتها وشروطها، وما يجب فيها، ولولا السنة لم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام، والزكاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات، من زواج وطلاق وبيوع، ولم يعرفوا المحرمات، وما أوجب الله فيها من ...
الخطبة الأولى:
عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أن الله قد أنعم علينا بنعمتين عظمتين، هما من أثبت وأشرف النعم، قال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) [البقرة: 231].
فالنعمة الأولى التي ذكرها الله -تعالى- هي: نعمة إنزال القرآن.
فالقرآن -عباد الله-: هو النعمة الباقية، والعصمة الواقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، وهو شفاء لما في الصدور، والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزْل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، سراج لا يخبو ضياؤه، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه، وبحر لا يُدرك غورُه، بهرت بلاغتُه العقولَ، وظهرت فصاحته على كل قول ومقول، قال تعالى: (قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15-16].
إنه كتاب ربنا، هذا الكتاب الذي بين أيدينا، نزهه ربنا عن الخطأ والزلل، وجعله فصلاً في كل أمر، وصالحًا في كل زمان ومكان: (لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت: 42].
وقد وعد الله بحفظ كتابه من عبث العابثين، وتحريف الغالين، فقال جل وعل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
فالقرآن محفوظ من التبديل والتغيير، ولا يزال إلى وقتنا الحاضر محفوظًا بسوره وآياته وكلماته وحركاته، كما تلاه جبريل على رسول الله، وكما تلاه رسول الله على صحابته -رضوان الله عليهم أجمعين-.
وأما النعمة الثانية المذكورة في الآية الكريمة، فهي: نعمة الحكمة، والمراد بها السنة، فقد وردت السنة في القرآن الكريم بلفظ الحكمة في آيات عديدة، ووردت مقرونة بالكتاب أي: بالقرآن، قال سبحانه: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب: 34].
وقال تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 129].
وقال أيضًا: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 151].
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "وذكر الله منته على خلقه؛ بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز -والله أعلم- أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
ومن الأدلة كذلك على ورود السنة في القرآن: ما جاء في قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].
فقول الله لنبيه: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
دليل على أن هناك تبيانًا وشرحًا من رسول الله للناس، زائد على الذكر الذي أنزل وهو القرآن، وهذا التبيان والشرح من رسول الله هو المقصود بالسنة، وهي متمثلة في أقواله وأفعاله وطريقته.
فالسنة إذًا -عباد الله-: هي كل ما شرعه النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحكام، سواء بقوله أو فعله أو تقريره.
وإنه من الخطأ: أن تفهم السنة بمعنى المستحب فقط، كما يفهمها عامة الناس؛ يعني: إن فعلت أُجرت، وإن لم تفعل لم تأثم.
والحق والصواب: أن السنة تشمل الأمر والنهي، منها ما هو واجب تأثم على تركه، ومنها ما هو محرم تأثم على فعله، ومنها ما هو مستحب.
والسنة -عباد الله-: هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد كتاب الله -تعالى-، وفي الإعراض عنها ضلال وهلاك؛ كما ورد في أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-، فبعض الناس يظن أن الحلال والحرام في القرآن فقط، فإذا قلت له: قال رسول الله كذا، أو حرم كذا، أو بين كذا، قال لك: وهل هذا في القرآن؟ أعطني آية من القرآن تذكر هذا.
والرسول –صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن أناسًا من أمته سيأتون من بعده، يردون أحاديثه وسنته، ويقتصرون على القرآن، فقد روى الترمذي في سننه بسند صحيح عن أبي رافع أن المصطفى قال: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه أمر مما أَمرت به، أو نَهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
وقال في رواية أخرى: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه".
ثم قال النبي –صلى الله عليه وسلم- معقبًا على كلام هذا الرجل: "وإنما ما حرم رسول الله كما حرم الله".
فردُّ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشريعاته ضلال وهلاك، قال أيوب السختياني أحد كبار الفقهاء: "إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا، وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضال مضل".
فإن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- شرع أحكامًا وحرم أمورًا لم تُذكر في القرآن، وفصل أمورًا نحن نطيعه فيها ولم تُذكر في القرآن.
والذي ينبغي على المسلم أن يعلمه ويعتقده: أن السنة وحي من الله، وهي محفوظة كذلك بحفظ الله تعالى؛ لأنه لا يتم حفظ القرآن إلا بحفظ السنة، قال تعالى عن رسوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3-4].
وقال تعالى: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء: 113].
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأتي بالتشريع من عنده، فما من عمل أوجبه، أو أمر به، فإنما هو من عند الله، وما من أمر حرمه، أو نهى عنه، فهو وحي من الله -سبحانه وتعالى-.
فالسنة، هي: الشارحة والمبينة للقرآن، وقد وكل الله -تبارك وتعالى- مهمة تفسير القرآن، وبيان تعاليم الإسلام، وتفصيل الأحكام إلى رسوله، فلولا السنة لم يعرف الناس عدد ركعات الصلاة، وصفاتها وشروطها، وما يجب فيها، ولولا السنة لم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام، والزكاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات، من زواج وطلاق وبيوع، ولم يعرفوا المحرمات، وما أوجب الله فيها من الحدود والعقوبات.
ولهذا أوجب الله طاعة رسوله، وقرنها بطاعته، قال سبحانه: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[النساء: 80].
وجعلها من أسباب رحمته وهدايته، قال تعالى: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النور: 54].
وقال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 132].
وحذر الله من معصيته ومخالفته، فقال جل ذكره: (وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7].
وقال تبارك اسمه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
أي: أن تصيبهم فتنة في قلوبهم من كفر، أو نفاق، أو بدعة.
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعل إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
وقوله: (عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: في الدنيا، فمن موجبات عذاب الله في الدنيا مخالفة أمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وقد وردت أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تأمرنا بطاعته، واتباع سنته، وتنهانا عن معصيته، ومخالفة هديه؛ ففي صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ومن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين".
وقال لبعض أصحابه وقعوا في مخالفة سنته: "فمن رغب عن سنتي فليس مني".
الخطبة الثانية:
إنّ السنة -عباد الله-: شاملة لكل خير وهدى، فما من خير إلا ودلنا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما من شر إلا وحذرنا منه عليه الصلاة والسلام؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم".
وجاء يهودي إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- فقال له: "قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! قال: أجل" أي: ما ترك نبيكم شيئًا إلا علمكم إياه، حتى كيفية الاستنجاء، وطريقة الاستبراء، من النجاسة علمكم إياها، وهذا من كمال ديننا، ولم يكمل ديننا إلا بسنة نبينا.
ولهذا يجب على كل مسلم: أن يتمسك بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن يعظمها كل تعظيم، وأن يؤمن ويصدق بما جاء فيها من أحكام وأخبار، وأن لا يفهمها بهواه، وإنما يفهمها على مرادها الصحيح، كما فهمها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وأن يجعل عقله تبعًا لما جاء فيها، وإن قصر عقله عن فهمها، وليحذر كل الحذر من ردها ورد أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة.
وعلى المسلم أيضًا: أن يلتزم طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في العبادات كلها؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- هو أعلم الناس بالله وبعبادته، وهو أخشى الناس لله، وأتقاهم له، فالذي يريد أن يعبد الله على طريقته الخاصة، دون متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو أن يخترع عبادة جديدة مخالفة لهديه، فعبادته باطلة، ومردودة لا يقبلها الله -تعالى-، قال عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد".
أي: ليس من طريقتنا وهدينا، فهو رد، فلا يقبل، ولا يصلح قول، ولا عمل، ولا علم، ولا نية، إلا بموافقة السنة، وإن كل الطرق المؤدية إلى رضوان الله -تعالى- مسدودة على الخلق، إلا طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا أمرنا الله وتعبدنا بمتابعة رسوله، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].
أي: قل: إن كنتم تحبون الله، وتريدون عبادته ورضوانه، فاتبعوا هذا الرسول، واتبعوا طريقته، يحببكم الله ويقبل عبادتكم؛ لأن الله - عز وجل - جعل رسوله أسوة وقدوة للناس ليتبعوه، قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
فعليكم -عباد الله-: بلزوم سنة نبيكم في جميع أحوالكم، واحذروا ما يخالفها من محدثات الأمور، فإنها ضلال وغرور.
وإن التمسك بالسنة هداية ونجاة، وسعادة وفلاح، قال صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"[رواه البخاري].
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا طاعة رسوله، واتباع سنته.
اللهم عظم سنة نبيك في قلوبنا، واجعلها ظاهرة في أفعالنا وأقوالنا.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم رد المسلمين إلى دينك ردًا جميلاً.