الحيي
كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...
العربية
المؤلف | عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
من فضل الله على العبد: أنْ يعلمَ الغاية التي خُلِقَ لأجلها، والوظيفةَ التي طُلِبت من ابن آدم، وهي بلا ريبٍ وظيفة كبرى، تستَدعِي العناية بها، والتفقُّه في أحكامها، والمراد منها.
الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1]، والحمد لله الذي خلَق الخلق ليَعبُدوه ويُوحِّدوه، ووعَد مَن وحَّدَه وأطاعَه بالخير والفلاح، وتوعَّد مَن عصاه وأشرَكَ به بالويل والثبور: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72].
وأشهد أن "لا إله إلا الله" الواحدُ الأحدُ الفرد الصَّمد، وأشهد أنَّ محمدًا عبد الله ورسوله إلى العالمين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ:
فلو سُئِل أيُّ واحد منَّا صغيرًا كان أو كبيرًا: لِمَ خلقنا الله -تعالى-؟ لأجاب على الفور: خلقنا الله -تعالى- لعبادته، والدليل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وهذا من فضل الله على العبد أنْ يعلمَ الغاية التي خُلِقَ لأجلها، والوظيفةَ التي طُلِبت من ابن آدم، وهي بلا ريبٍ وظيفة كبرى، تستَدعِي العناية بها والتفقُّه في أحكامها والمراد منها.
ومن رحمة الله بخلقه: أنْ بعَث إليهم الرسل، وأنزَل معهم الكتب والشرائع، التي تتَّفق مع فطرة هذا الإنسان التي فطره الله -تعالى- عليها؛ من الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- الخالق المعبود، الذي لا يستحقُّ العبادة أحدٌ سواه.
وقد جاء الرسل جميعهم بدعوة الإسلام وكلمة التوحيد، والتوحيد: هو قاعدة كلِّ دِينٍ جاء به رسولٌ من عند الله -تعالى-.
ويُقرِّر الله -سبحانه وتعالى- هذه الحقيقةَ ويُؤكِّدها، ويُكرِّرها في قصة كلِّ رسول على حِدَةٍ، كما يُقرِّرها في دعوة كل الرسل إجمالاً، على وجه القطع واليقين: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36].
فالتوحيد مفتاح دعوة الرُّسل -عليهم الصلاة والسلام- وهو أوَّل واجبٍ، وأوَّل ما يدخُل به المرء في الإسلام؛ ولهذا قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لمعاذ بن جبل -رضِي الله عنه- عندما بعَثَه إلى اليمن: "إنَّك تأتى قومًا أهلَ كتاب، فليكن أوَّل ما تدعوهم إليه عبادة الله وحدَه" وفي رواية: "فادعُهم إلى شهادة أن "لا إله إلا الله"، وأنِّي رسول الله"، "فإنْ هم أطاعوا لذلك فأعلِمْهم أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- افترض عليهم خمسَ صلوات في كلِّ يوم وليلة، فإنْ هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أنَّ الله -تعالى- افترضَ عليهم صدَقةً في أموالهم، تُؤخَذ من أغنيائهم وتُردُّ إلى فُقَرائهم" [أخرجه البخاري ومسلم]، وقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أُمِرتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن "لا إله إلا الله"، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقِيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام وحِسابهم على الله -عزَّ وجلَّ-" [رواه البخاري ومسلم].
فهذه الكلمة التي تعصمُ الدم والنَّفس، وينجو بها العبد، هي شهادة: أن "لا إله إلا الله"، وأنَّ محمدًا رسول الله، وهي الكلمة التي يدخُل بها العبد الجنَّة برحمة الله، وهي الكلمة التي تعصمُ صاحبها من الوُقوع في النار -والعياذ بالله تعالى-، فقد قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أشهدُ أن "لا إله إلا الله" وأنِّي رسول الله، لا يلقَى اللهَ عبدٌ غير شاكٍّ فيهما إلا دخَل الجنة" [رواه مسلم]، وعن عثمان -رضِي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَن مات وهو يعلمُ أنَّه "لا إله إلا الله" دخَل الجنة" [رواه مسلم]، وعن معاذ -رضي َالله عنه- عن النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "ما من عبدٍ يشهدُ أن "لا إله إلا الله"، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله صِدقًا من قلبه إلا حرَّمَه الله على النار" [أخرجه البخاري].
فهذه الكلمة العظيمة -يا عباد الله- أمرُها جلل، وأهميَّتها من الدين بمكان، فالواجب العنايةُ بها، وتحقيق معناها وشروطها.
وقد يُصاب بعضُ الناس بالغفلة عن حقيقة التوحيد وشرط النَّجاة، ويغترُّ بكلمة يديرُها على لسانه، دون أنْ يفقه معناها، يظنُّها مِفتاحًا للجنَّة، بمجرَّد نُطقها باللسان، غافلاً عن شُروطها التي ينبغي أنْ تتحقَّق، ومقتضياتها التي ينبغي أنْ يعمل بها؛ لتكون مفتاحًا صالحًا لدخول الجنَّة والنجاة من النار، فقد قِيل للحسن البصري -رحمه الله-: "إنَّ أناسًا يقولون: مَن قال: "لا إله إلا الله" دخل الجنَّة، فقال: مَن قال: "لا إله إلا الله"، فأدَّى حقَّها وفرضها دخل الجنَّة"، وقيل لوهب بن منبه: "أليس "لا إله إلا الله" مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاحٍ إلا له أسنان، فإنْ جئت بمفتاح له أسنان فُتِحَ لك، وإلا لم يُفتَح لك".
وقد استنبط العلماء -رحمهم الله تعالى- لتحقيق هذه الشهادة شروطًا لا بُدَّ من توافُرها، مع انتفاء الموانع؛ حتى تكون كلمة: ""لا إله إلا الله"" مِفتاحًا للجنَّة، وهذه الشروط هي أسنان المفتاح، ولا بُدَّ من أخْذها مجتمعةً.
فأوَّل هذه الشروط -يا عبد الله-: أنْ تعلم معنى كلمة التوحيد ""لا إله إلا الله""، فهي تنفي الألوهيَّة عن غير الله -تعالى- وتُثبتها له سبحانه، فلا معبودَ بحقٍّ إلا الله، ومن الأدلَّة على هذا الشرط: قولُ الله -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ "لا إله إلا الله" وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد: 19]، وأخرج مسلم عن عثمان -رضِي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَن مات وهو يعلمُ أنَّه "لا إله إلا الله" دخَل الجنَّة".
ويكتملُ هذا الشرط بما يليه، وهو الشرط الثاني: وهو اليقين المنافي للشكِّ؛ ومعنى ذلك: أنْ تستيقن يقينًا جازمًا بمدلول كلمة التوحيد؛ لأنها لا تُقبَل شكًّا، ولا ظنًّا، ولا تردُّدًا ولا ارتِيابًا، بل ينبغي أنْ تقوم على اليقين القاطع الجازم؛ فقد قال الله -تعالى- في وصف المؤمنين الصادقين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات: 15]، فلا يكفي مجرَّد التلفُّظ بالشهادتين، بل لا بُدَّ من استِيقان القلب، والبُعد عن الشكِّ، فإنْ لم يحصل هذا اليقينُ فهو النِّفاق، والمنافقون هم الذين ارتابَتْ قلوبهم؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة: 45].
وإذا علمت وتيقَّنت فينبغي أنْ يكون لهذا العلم اليقيني أثره، فيتحقَّق الشرط الثالث وهو: القبول لما اقتضَتْه هذه الكلمة، بالقلب واللسان: فمَن ردَّ دعوة التوحيد ولم يقبَلْها كان كافرًا، سواء كان ذلك الردُّ بسبب الكبر أو العناد أو الحسد.
أمَّا الشرط الرابع فهو: الانقياد للتوحيد الذي دلَّت عليه هذه الكلمة العظيمة، انقيادًا تامًّا، وهذا الانقياد والخضوع هو المحكُّ الحقيقي للإيمان، وهو المظهر العملي له، وهو: أنْ يُسلِمَ العبد ويستسلمَ بقلبه وجوارحه لله -تعالى-، وينقادَ له بالتوحيد والطاعة؛ كما قال سبحانه: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان: 22].
وأقسم سبحانه وتعالى بنفسه أنَّه لا يؤمنُ المرء حتى ينقادَ لحُكم الله وحُكم رسوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
والشرط الخامس: الصدق في قول كلمة التوحيد، صِدقًا مُنافيًا للكذب والنِّفاق؛ حيث يجب أنْ يُواطئ قلبه لسانه ويُوافقه، فإنَّ المنافقين يقولونها بألسنتهم، ولكن لم يطابق هذا القول ما في قُلوبِهم، فصارَ قولهم كذبًا ونفاقًا مخالفًا للإيمان، وأنزلوا في الدَّرك الأسفل من النار؛ قال سبحانه عن المنافقين: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح: 11].
والشرط السادس لتحقيق كلمة التوحيد: المحبَّة، فيحبُّ المؤمن هذه الكلمة، ويحبُّ العمل بمقتضاها، ويحبُّ أهلها العاملين بها، وإلا لم يتحقَّق الإيمان، ولم تُكتَب له النجاة، وعلامة حبِّ العبد ربَّه تقديم محابِّه وإنْ خالفت هواه، وموالاة مَن والى الله ورسوله، ومعاداة مَن عاداه، واتِّباع رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- واقتفاء أثره وقبول هداه، ومتى استقرَّت هذه الكلمة في النفس والقلب، فإنَّ حبَّها يملأ القلب فلا يتَّسع لغيرها، وعندئذٍ يجدُ حلاوة الإيمان؛ كما في الحديث الصحيح: "ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أنْ يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواه، وأنْ يحبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله، وأنْ يكره أنْ يعودَ في الكُفر كما يكره أنْ يُقذَف في النار".
وسابع هذه الشروط: الإخلاص؛ ومعناه: صِدق التوجُّه إلى الله -تعالى-، وتصفية العمل بصالح النيَّة من كلِّ شائبة من شوائب الشرك وألوانه، وقد تواردت الآيات القرآنيَّة الكريمة والأحاديث النبويَّة الشريفة، تُؤكِّد هذا الشرط، وتجعلُه سببًا لقبول الأعمال عند الله -تعالى-؛ قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 55].
والآيات والأحاديث في الإخلاص كثيرة جدًّا.
فهو سببُ القبول عند الله -عزَّ وجلَّ-، فلا يَقبَلُ الله -تعالى- من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، وموافقًا لشرعِه.
فهذه -أيُّها المؤمنون- شروط كلمة التوحيد، فلنعلَمْها ولنُعلِّمها؛ إذ إنَّ النجاة مَنُوطةٌ بها، والفوز الحقيقي معلَّقٌ بها: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
أقول...
الخطبة الثانية:
أمَّا بعدُ:
فيا عبادَ الله: وبعدَ تحقيق هذه الشُّروط مجتمعةً لا بُدَّ من الإقامة على هذه الكلمة حتى الموت؛ ليختم للعبد بها ختامًا حسنًا، فإنما الأعمالُ بالخواتيم؛ ففي حديث مسلم عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "إنَّ الرجل ليعمَلُ الزمان الطويل بعمل أهل الجنَّةِ، ثم يختم له عمله بعملِ أهل النار، وإنَّ الرجل ليَعملُ الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يختمُ له عمله بعمل أهل الجنَّة".
وقد أمَر الله -تعالى- بالإقامة على الإسلام والتوحيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
وقد جاءت الأحاديث الشريفة تُبيِّن هذا المعنى؛ ففي حديث أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "ما من عبدٍ قالَ: "لا إله إلا الله" ثم مات على ذلك إلا دخَل الجنَّة" [البخاري ومسلم].
فلتسأل ربَّك -يا عبد الله- أنْ يحييَك على التوحيد ويتوفَّاك عليه.
اللهمَّ اجعَلْ خيرَ أعمارنا أواخرها.