الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | سلمان بن يحيى المالكي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إذا وزن إيمانه بإيمان الأمة من غير نبيها رجح إيمانه، سيد السادات، والغني من الموسرين، جمع أمواله فانطلق يشتري الأرقاء يعتقهم لوجه الله، ما كان يمد اليد بل يتاجر وينفق في سبيل الله، لما...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
عباد الله: فإن مما يحرك القلوب، ويقربُ إلى علام الغيوب، ويزيد الإيمان، وفيه الاعتراف بالفضل والإحسان: الكلام عن مناقب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، وبيان فضلهم وعظمتهم، حتى تتطلع النفوس إلى أولئك العظام، وتقتدي بما خطت من الآثار والفضائل العظام.
أيها المسلمون: عبد الله أبو عثمان، وأمه سلمى، التيمي الصديق -رَضي الله عنه-، المولود بعد الفيل بسنتين وستةِ أشهر، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إذا وزن إيمانه بإيمان الأمة من غير نبيها رجح إيمانه، سيد السادات، والغني من الموسرين، جمع أمواله فانطلق يشتري الأرقاء يعتقهم لوجه الله، ما كان يمد اليد بل يتاجر وينفق في سبيل الله، لما قالت له قريش: "إن صاحبك يزعم أنه أسري به؟ بادرهم بقوله: "إن كان قال ذلك فقد صدق، فقال الله له: (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33].
أول من آمن بالرسول -صلى الله عليه وسلمَ-؛ روى البخاري -رحمه الله- عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: "أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان".
هو الملقب بالعتيق؛ روى الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- دخل عليه، فقال: "أنت عتيق الله من النار".
كان جميلا جليلا قديما في الخير، كان نحيلا خفيفا العارضين، معروق الوجه، ناتئ الجبهة، يخضب بالحناء، كان رجلا أسيفا، رقيق القلب، رحيما رؤوفا.
أعلم الناس في الجاهلية بأنساب العرب، ذا باع طويل في أخبارها، تقول عنه ابنته الصديقة بنت الصديق عائشة -رَضي الله عنها-: "إن أبي أعلم قريش بأنسابها، كان القوم يحبونه ويألفونه، ويعترفون له بالفضل والخلق، حتى قال له سيد من المشركين: إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتَكسب المعدوم، وتفعل المعروف.
شابه خلق النبي -صلى الله عليه وسلمَ-؛ مر برجل سكران يضع يده في النجاسة ثم يدنيها من فيه، فإذا وجد ريحها رفعها فرءاه الصديق، فقال: "إن هذا لا يدري ما يصنع".
لم يشرب الخمر في الجاهلية حرمها على نفسه قبل الإسلام، وقال: "ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة (أي عثمان أبوه) فأنطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشم العوالي وخلاني، قال: فذهبت فدنوت من الصنم، وقلت: إن جائع فأطعمني؟ فلم يجبني، فقلت: إني عار فاكسوني؟ فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر على وجه".
لما دعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- إلى الله لم يتلكأ ولم يتباطأ، أسرع الناس استجابة، وأتبع للحق له عليه الصلاة والسلام، أسلم في الصباح فقام يدعو إلى الله فما أمسى إلا وقد أسلم على يديه عظماء عظماء الإسلام؛ أمثال: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمى ابن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون.
كما أعتق بماله من رق الجاهلية والعبودية بلال بن أبي رباح مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-.
كان رَضي الله عنه ورعا في تمام الورع، جاءه غلامه يوما بشيء فأكل منه؛ فقال الغلام: أتدري من أين جئت به؟ قال أبو بكر: من أين؟ فقال الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، فاحتلت عليه، فأعطاني بذلك أي أجرة، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبوبكر -رَضي الله عنه- يده فأخرج ما في بطنه، وقال: والله لو لم تخرج إلا مع روحي لأخرجتها، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به".
وهكذا رَضي الله عنه تحمل الأذى في سبيل الدعوة، وقام ينشر الإسلام، وابتنى بفناء داره مسجدا، وجعل يقوم فيه يقرأ القرآن، فجعل يتقصف إليه نساء المشركين وأبناؤهم يجتمعون عنده يستمعون إليه، فإذا قرأ القرآن بكى فأفزع ذلك أشراف قريش.
دافع عن الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- لما قام إليه المشركون يضربونه فأراد أحدهم أن يخنقه بثوبه، ففكه أبو بكر، وهو يقول: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) [غافر: 28]؟ فثاروا عليه المشركون يضربونه ضربا شديدا، ودنا الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخسوفتين ويحرفهما لوجه حتى ما يعرف وجهه من أنفه، ونزل على بطنه، وجاء بنو تيم يتعادون حتى أجلوا المشركين عنه، فحمل إلى بيته وهم لا يشكون في موته.
يصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وهم يلقون عليه الشبهات ويقولون له: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ فقال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لأن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: فتصدقه؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة، أفلا أصدقه في بيت المقدس؟".
أختاره النبي -صلى الله عليه وسلمَ- لصحبته في الهجرة لما رأى منه النصرة والمعونة والحفظ والتسديد، كان وزيره ومستشاره ومؤتمنه، قال له يوما: "الصحبة يا أبا بكر"، فجعل يبكي من الفرح، تقول عائشة : "فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح".
(ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40].
دخل قبل النبي -عليه الصلاة والسلام- في الغار ينظر ويدخل يده في الشقوق والحفر حتى لا يتأذى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بشيء.
بذل نفسه وفارق أهله وأخذ ماله لخدمة صاحبه.
كان رَضي الله عنه من أشجع الناس، حرس مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يوم بدر عند العريش: لئلا يهوي إليه أحد من المشركين".
سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- أصحابه يوما سؤالا، فقال: "من أصبح منكم اليوم صائما؟" قال: أبو بكر أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا؟" قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما اجتمعنا في امرئ إلا دخل الجنة".
كان من أشد الناس مسابقة في الإنفاق، لم يسبقه أحد منذ أسلم، كان عند عمر مرة مالا، فقال اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجاء بنصف ماله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما أبقيت لأهلك؟" قلت: مثله، وآتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "ما أبقيت لأهلك؟" قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: والله لا أسابقك إلى شيء أبدا"، فرضي الله عن الصديق فقد أبلى بلاءً حسنا، وجاهد، وهنيئا له الصحبة والمصاحبة مع رسول الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل: 17 - 18].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، مصطفاه من خلقه، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وأتباعه وخلفائه، وعلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الأصحاب والأزواج والذرية الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن علو الهمة في الخير خصلة عظيمة، وإن السعي لدخول الجنة من جميع أبوابها يدل على نفس تواقة إلى الله مشتاقة؛ قال عليه الصلاة والسلام: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة"، فقال أبو بكر -رَضي الله عنه-: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم".
ولسوف يدعى المرء من أبوابها | جميعا إذا وفى حلل الإيمان |
منهم أبو بكر هو الصديق ذاك | خليفة المبعوث بالقرآن |
كان شبيها برسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- عالي الهمة في الخير، ولما ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- منقبة في عبد الله بن مسعود، قال فيه: "من سره أن يقرأ القرآن غظا كما أنزل فليقرأه من ابن أم عبد" أدلج عمر إلى عبد الله بن مسعود ليبشره، فضرب بابه فخرج عليه بن مسعود، فقال عبد الله: ما جاءك بك هذه الساعة؟ فقال عمر: جئت لأبشرك بما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فيك، قال: وما قال؟ قال: "من سره أن يقرأ القرآن غظا كما أنزل فليقرأه من ابن أم عبد"، فقال ابن مسعود: قد سبقك أبو بكر وبشرني، فقال عمر: "إن يفعل فإنه سباق بالخيرات ما استبقْنا إلى خير قط إلا سبقنا أبو بكر".
ومن تواضعه: أنه لما شيع جيوش الفتح إلى الشام كان الأمير على دابته وأبو بكر يمشي خلفه فقال الأمير: "يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- إما أن تركب وإما أن أنزل فأمشي؟ قال: لا أركب ولا تنزل إني أحتسب خطايا هذه في سبيل الله".
حب الصحابة كلهم لي مـذهب | ومودة القربى بها أتوسل |
ولكلهم قدر وفضــل ساطـع | لكنما الصديق منهم أفضل |
زكاه النبي -عليه الصلاة والسلام- لما قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" قال أبو بكر مشفقا: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك؟ إذا سقط رغما عني أحد الشقية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء".
ويسأل النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قال: من الرجال؟ قال: "أبوها".
اللهم أرض عن أبي بكر الصديق، اللهم اجعله فوق كثير من خلقك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تجزه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
اللهم اجعلنا ممن يقتدي أثر نبينا -صلى الله عليه وسلمَ-، ويقتفي أثر الشيخين والأصحاب.
اللهم أحينا مؤمنين وأمتنا مسلمين، اللهم ألحقنا بالصالحين خير خزايا ولا مفتونين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 181].