الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
أيُّها الحاج الكريم.. يا مَن بذلت النفس والنفيس، وضَحَّيْتَ بالجهد والوقت، واجتهدتَ حتى أتيتَ البيت العتيق، فطفتَ به وسعيت ولَبَّيْتَ، وصَلَّيتَ خلف المقام، وشربت من زمزم، ووقفتَ على الصفا والمروة فَكَبَّرتَ وهللت، ودفعت إلى عرفة..
أمَّا بعد:
فأوصيكم -أيُّها النَّاس- ونفسي بتقوى الله -عزَّ وجلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
أيُّها المسلمون: انقضتْ أيَّام الحج والزيارة، ورجعتْ وفود الحجاج من أمِّ القرى، رجعوا بعد أن حجوا البيت الحرام، وعادوا بعد أن وقفوا بتلك المشاعر العظام؛ فهنيئًا لهم هذه الرِّحلة الإيمانيَّة العظيمة، هنيئًا لهم ما كسبوه منَ الحسنات، وما مُحيَ عنهم من السيئات، مَن حجَّ منهم لله مخلصًا، ولنبيّه متَّبعًا، وابتعد عنِ الرِّياء والسُّمعة والفخر، وسلم من الرَّفث والفسوق والجدال - فليطب بما أسلف نفسًا، ولْيهنأ بما قدَّم قلبًا، فقد أدَّى فرضًا، وقضى تَفَثًا، ورجع من ذنوبه ممحصًا، ومن خطاياه مخلصًا.
في الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَن حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
وعنِ ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنتُ جالسًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجد منًى، فأتاه رجلٌ منَ الأنصار، ورجلٌ من ثقيفٍ، فسلَّمَا، ثم قالا: يا رسول الله، جئنا نسألك، فقال: "إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت، فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفي للأنصاري: سلْ، فقال: أخبرني يا رسول الله، فقال: "جئتني تسألني عن مخرجكَ مِن بيتك تؤمُّ البيت الحرام، وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه مع الإفاضة"، فقال: والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك، قال: "فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام، لا تضع ناقتُكَ خُفًّا ولا ترفعه إلاَّ كتب الله لك به حسنةً، ومحا عنك خطيئةً، وأما ركعتاك بعد الطواف كعِتق رقبةٍ من بني إسماعيل -عليه السلام-، وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبةً، وأما وقوفك عشية عرفة فإنَّ الله يهبط إلى سماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة، يقول: عبادي جاؤوني شعثًا من كل فجٍّ عميقٍ يرجون جنتي؛ فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر - لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار، فلك بكل حصاةٍ رميتها تكفير كبيرةٍ منَ الموبقات، وأما نحرك فمذخورٌ لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرةٍ حلقتها حسنةٌ، ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي مَلَكٌ حتى يضع يديه بين كتفيك، فيقول: اعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى"؛ رواه الطبراني، والبَزَّار، واللفظ له، ورواه ابن حبَّان في صحيحه، وهو حديثٌ حسنٌ.
أيُّها الحاج الكريم.. يا مَن بذلت النفس والنفيس، وضَحَّيْتَ بالجهد والوقت، واجتهدتَ حتى أتيتَ البيت العتيق، فطفتَ به وسعيت ولَبَّيْتَ، وصَلَّيتَ خلف المقام، وشربت من زمزم، ووقفتَ على الصفا والمروة فَكَبَّرتَ وهللت، ودفعت إلى عرفة، وبِتَّ بمنًى ومزدلفة، ورميتَ الجمرات، ونثرت العبرات، وذبَحتَ وحلقت أو قصرت، ودعوت وسألتَ ورجوتَ، وتُبْتَ إلى الله وأنبتَ: مَن أسعد منك وأحظى؟! مَن أهنأ منك وأرضى؟! تجردتَّ لله في لباس العبودية والذل، وحسرت رأسك ونبذت رفاهيتك، ومددت يديك، ورفعت كفيك، فأبشر وأمل ما يسرُّك.
لقد دعوت ربًّا كريمًا، وسألتَ مَلِكًا عظيمًا، ورجوت برًّا رحيمًا، لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، ولا فضلٌ أن يعطيه، لقد دعوت ربك الذي إن تقربتَ إليه شبرًا، تَقَرَّبَ إليك ذراعًا، وإن تَقَرَّبتَ إليه ذراعًا، تَقَرَّبَ إليك باعًا، وإن أتيتَه تمشي، أتاك هرولةً.
فأحسنْ ظنَّك بربك؛ فإن ربك عند ظنك، وعطاؤه أعظم من أملك، وجوده أوسع من مسألتك، وتذكر أنَّ الله نظر إليك عشية عرفة مع الحجاج أشعث أغبر منكسرًا، فقال وهو الجواد الكريم: "أفيضوا عبادي مغفورًا لكم".
فهنيئًا لك وبشرى وقرة عينٍ، فقد عدت كيوم ولدتك أمك؛ فاجعل من حجك بدايةً لحياةٍ جديدةٍ، وفرصةً لمعاملةٍ مع الله صادقةٍ، لقد كفيت ما سلف ومضى، فاستأنف عملك وأحسن فيما بقي، اصدق التوبة وأخلص في الإنابة، واعزم على المحافظة على الطاعات ما بقيت، والاستمرار على ترك المعاصي ما حييت.
إنَّ من علامة قبول الحسنة فِعل الحسنة بعدها، ومِن علامة رد الحسنة إتباعها بالسيئة، وإنها لفرصةٌ عظيمةٌ أن بيضت صحيفتك ونُقِّيت من الخطايا، وطُهِّرت من الأوزار، وعدت خفيفًا مما أثقلك من الأغلال والآصار، فاتَّق الله حق التقوى، احفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، حافظ على ما اكتسبت وجنيت، وإياك أن تهدم ما شيدت وبنيت، فإن الشيطان إذ لم يستطع صدك عن الحج، فهو حريصٌ كل الحرص أن يفسد عليك العمل ويذهب الأجر، وإن الرجوع إلى الذنب بعد التوبة نوعٌ من المخادعة والمراوغة، يجدر بك أن تكون أبعد الناس عنها، وأحذرهم منها، لقد حرصت في حجك على السؤال عن كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، وكنتَ جادًّا في تطبيق السنة قبل فعل الواجب.
ألا فلْيكن هذا ديدنك طوال عمرك، لقد حرصت أيام حجك على ألاَّ يكون منك رفثٌ، ولا فسوقٌ، ولا جدالٌ، أفلا تكون على ذلك بقية عمرك؟ أفلا تحفظ سمعك وبصرك؟ أفلا تصون لسانك وجوارحك؟ أفلا تحفظ وقتك عن الضياع فيما لا يرضي ربك؟
لقد استحضرتَ أن أيام الحج معدودةٌ ومدته قصيرةٌ، فعزمت على ألاَّ تقعَ في محظورٍ، وصبرت على ذلك، ألا فاعلم أنَّ الحياة كلها قصيرةٌ، وأن العمر أيامٌ قليلةٌ؛ قال -تعالى-: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات:46].
فاصْبِر وصابر ورابط، وسارع واجتهد وجاهد؛ فإنَّ المسلم لا يزداد بطول العمر إلاَّ خيرًا، ولا يرضى لنفسه أن يعقب الطاعة بالمعصية، ولا أن يفسد التوبة بالنكوص؛ كيف وقد قال الله -تعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) [النحل: 92]، وقال -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]؟! ولما استوصى أحد الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: "قل: آمنتُ بالله، ثم استقم".
ألا فاستقم -أخي الحاج- على ما بدأت من عملٍ صالحٍ؛ فإنَّ الاستقامة على الصراط والثبات عليه مدعاةٌ إلى أن يختمَ للمرء بالخاتمة الحسنة، وأن يبشر عند موته برضا ربه ودخول جنته، وتلك -والله- هي أغلى مطلوبٍ، وأسنى مرغوبٍ؛ قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32].
الخطبة الثانية:
أما بعدُ: فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، واعلموا أنكم ملاقوه فلا تعصوه.
أيها المسلمون: وإنه كما أكرم الله الحجاج بالحج فقد أنعم على سائر المسلمين بنعَمٍ عظيمةٍ، ويسَّر لهم عباداتٍ جليلةً، مَرَّت بهم عشر ذي الحجة التي هي أفضل أيام الدنيا عند الله، ومر بهم يوم عرفة الذي يكفر صيامه سنتين، ومر بهم يوم النحر فصلوا وضحوا، ثم توالت عليهم أيام التشريق فأكلوا وشربوا وذكروا الله، وحمدوه وشكروه على ما رزقهم،فما أجدرهم أن يفرحوا بذلك كله؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
ما أجدرهم أن يزدادوا حمدًا لله وشكرًا فيضاعفوا العمل؛ قال -سبحانه-: (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].
ما أجدرهم أن يستمرُّوا على ذلك ويجعلوا الحياة كلها لله كما أراد الله؛ حيث قال - سبحانه-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163].