الملك
كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.. وقد جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأقبلت الوفود من قبائل العرب تؤم طيبة الطيبة، يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة الوفود ، سنةِ تسع للهجرة. وتدخل سنة عشر فيؤذِن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ بالحج، فتزدحم المدينة ببشر كثير ، كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويصحبه في الحج ..
أما بعد: ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.. وقد جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأقبلت الوفود من قبائل العرب تؤم طيبة الطيبة، يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة الوفود ، سنةِ تسع للهجرة.
وتدخل سنة عشر فيؤذِن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ بالحج، فتزدحم المدينة ببشر كثير ، كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويصحبه في الحج.
خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد صلاة الظهر من يوم السبت السادس والعشرين من شهر ذي القعدة ، ثم نزل بذي الحليفة فأقام بها يومه وبات بها ليلته؛ حتى يتتابع إليه الناس ويدركه من بعد عنه.
فلما أصبح ، قال: "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: "صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة". ثم تهيأ صلى الله عليه وسلم لإحرامه ، أشعر هديه وقلده، اغتسل ولبد رأسه ، وتطيب من كفي عائشة رضي الله عنها بأطيب الطيب ، ثم لبس إحرامه وصلى الظهر ، ثم استقل راحلته على غاية من التواضع والخشوع ، والتعظيم والخضوع.
انظر إلى راحلته ورحله، وإلى فراشه ومتاعه، فقد ثبت عند ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم حج على رحلٍ رثّ ، وقطيفةٍ لا تساوي أربعة دراهم ، ثم قال اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة.
وعندما انبعثت به راحلته استقبل القبلة، وحمد الله وسبح وكبر واحرم بالحج ولبى: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
سار صلى الله عليه وسلم بهذه الجموع الزاحفة ، تحيط به القلوب وترمقه المقل، وتفديه المهج، لم توطأ له المراكب، ولم تتقدمه المواكب ، وإنما سار في غمار الناس، ليس له شارة تميزه عنهم إلا بهاء النبوة وجلال الرسالة. وينزل عليه جبريل فيقول: "يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج، فاهتزت الصحراء بضجيج الملبين، وتجاوبت الجبال بهتافهم بتوحيد رب العالمين. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك إله الحق، لبيك ذا المعارج، لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء والعمل.
سار صلى الله عليه وسلم في الطريق بين المدينة ومكة، وأصابه ما يصيب المسافر من وعثاء السفر ونصب الطريق، فقد مرض صلى الله عليه وسلم في سفره واشتد به صداع الشقيقة فاحتجم في وسط رأسه.
وانقطع أثناء المسير بعير صفية بنت حُيي أم المؤمنين فتجاوزها الركب فرجع إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي تبكي فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو يسكنها وينهاها، فلما أكثرت انتهرها وأمر الناس بالنزول.
وينزل صلى الله عليه وسلم بمكان يسمى العَرْج ، وبجانبه زوجه عائشة، وصاحبه أبو بكر وابنته أسماء ، وكان أبو بكر ينتظر غلامه الذي معه زاملته وهي البعير الذي عليه متاعه ومتاع النبي صلى الله عليه وسلم فطلع الغلام وليس معه بعيره فقال أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة، فطفق أبو بكر يضربه ويقول: بعير واحد وتضله! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويبتسم ويقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع! ثم قال: "هون عليك يا أبا بكر فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا معك" ولم يلبثوا طويلاً حتى جاء الله بالزاملة.
ولما قَرُب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة نزل مكاناً يقال له "سَرف" ، فحاضت عائشة ، فدخل عليها فإذا هي تبكي ، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: والله لوددت أن لم أكن خرجت العام، قال: لعلك نَفِستِ؟ أي حضتِ ، قالت: نعم. فجعل صلى الله عليه وسلم يواسيها ويقول: "إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم ، افعلي ما يفعل الحاج ، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري".
وقد أخذ العلماء من هذا أن المرأة المتمتعة إذا حاضت قبل أن تطوف طواف العمرة، ولم تطهر قبل وقت الوقوف بعرفة فإنها تدخل الحج على العمرة فتكون قارنة ، وتفعل ما يفعل الحاج ، وتؤخر الطواف والسعي حتى تطهر.
وبعد ثمانية أيام ، وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، ولما قرب من مكة بات عند بئر "ذي طوى" في المكان المعروف اليوم بجرول أو آبارِ الزاهر، ليستريح من نصب الطريق ووعثاء السفر ، فلما أصبح اغتسل ثم دخل مكة ضحى يومِ الأحد من ثَنِيَّة كَداء، وهي التي تنزل اليوم على جسر الحَجون، فأناخ راحلته عند المسجد، ودخل من باب بني شيبة ، وهو الباب الذي كان يدخل منه يوم كان بمكة أيام الدعوة والصبر والبلاء ، فيا لله ما الذي كان يتداعى في خاطره في تلك الساعة.. أما دخل الحرم ليصلي فيه قبل نحو عشر سنين فألقوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد؟ أما دخل الحرم فقام إليه ملأ من قريش فأخذوا مجامع ردائه فخنقوه به.. فإذا به اليوم يدخل الحرم ، وقد صدقه ربه وعده، وأظهره على الدين كله.
ويسير صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة المشرفة، فيستلم الحجر الأسود ويكبر فتفيض عيناه بالبكاء، ثم يضعُ شفتيه عليه فيقبلُه ، ثم يطوف بالبيت سبعة أشواط، فلما فرغ من طوافه مشى إلى مقام أبيه إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم عاد إلى الحجر فقبله، ومسحه بيديه ثم مسح بهما وجهه، ثم توجه إلى الصفا فصعده وهو يقرأ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ، حتى نظر إلى البيت فاستقبله وكبر وهلل ورفع يديه ودعا ، وكرر الذكر والدعاء ثلاثاً ، ثم نزل فلما انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع واشتد في السعي ، حتى إن إزاره ليدور على ركبتيه من شدة السعي.
فلما وصل إلى المروة رقيها ، وصنع كما صنع على الصفا.
وفي هذه الأثناء ، فشا الخبر في مكة وتنادى الناس: رسول الله في المسجد...، رسول الله على الصفا والمروة... فلفظت البيوت من فيها، وجاءت القلوب المشوقة، والعيون الظامئة، تريد أن ترى محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى خرج العواتق والإماء يقلن: هذا رسول الله، هذا رسول الله! وازدحم الناس عليه ينظرون إلى وجهه المنور، فلما كثروا حوله وكان كريماً سهلاً ، أمر براحلته فركبها ليُشرِف للناس ويروه كلهم ، شفقة عليهم ، ثم أتم صلى الله عليه وسلم سعيه راكباً ، فلما قضى سعيه أمر من لم يسق الهدي من أصحابه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة ، ثم سار بمن معه حتى نزل بالأبطح شرق مكة وهو مكان فسيح واسع يشمل اليوم ما يسمى العدل والمعابدة إلى الحَجون، فنزل بالناس وأقام بهم أربعة أيام ، يومَ الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء.
فلما كان ضحى الخميس اليومِ الثامن يومِ التروية ، ركب صلى الله عليه وسلم إلى منى ، وخرج معه الصحابة الذين كانوا قد حلوا مهلين بالحج ، وفي منى صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر يقصر الرباعية ركعتين، ويصلي كل صلاة في وقتها، وكأنما كان هذا النفير تهيئةً وإعداداً للنفير الأكبر إلى عرفات.
وبات صلى الله عليه وسلم بمنى ليلة التاسع ، فلما أشرقت شمس اليوم التاسع ، خيرِ يوم طلعت فيه الشمس، يومِ الجمعة يومِ عرفة، سار الركب الشريف من منى إلى عرفات، حتى وصل إلى نَمِرة فإذا قبة قد ضُرِبت له هناك، فجلس فيها حتى زالت الشمس ، ثم ركب راحلته القصواء، ونزل بها إلى بطن وادي عُرَنَة ، فاجتمع الناس حوله في بطن الوادي، وهو على راحلته ، وأشرف للناس ليخطُبهم خُطبة عظيمة، جمع فيها معاقد الدين، وعصم الملة، وعظّم الحرمات، فدوى صوته بين أهل الموقف، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا... دماء الجاهلية موضوعة... ربا الجاهلية موضوع... اتقوا الله في النساء... تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتابِ الله.
ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على هذه الجموع يستشهدهم شهادة عظيمة، شهادة البلاغ والأداء ويقررهم بالجواب إذا سئلوا: أيها الناس، إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟.
ألا ما أعظم السؤال! وما أعظم المَقام! ثلاثة وعشرون عاماً قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ والدعوة، والصبر والمصابرة، والجهد والجهاد، ومع ذلك يَسأل ويَستشهِد على بلاغه لأمته، فأجابته الجموع بفمٍ واحد: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وأديت الذي عليك، فرفع صلى الله عليه وسلم إصبعه الشريفة إلى السماء، وجعل ينكتها إلى الناس وهو يقول:" اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد".
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خطبته، أذن بلال وأقيمت الصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر قصراً وجمعاً، ثم ركب راحلته ودفع إلى عمق عرفة ليقف عند الصخرات مستقبلاً القبلة رافعاً يديه داعياً وملبياً.
وظن أصحابه أنه قد صام يومه ذلك ، فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشرب منه والناس ينظرون إليه.
وينزل الروح الأمين جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي من ربه في هذا الموقف العظيم بهذه الآية العظيمة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها على الناس معلناً كمال الدين وتمام النعمة، فلما سمعها عمر رضي الله عنه فَقِهها ، واستشعر من معناها أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتهت ، فاستعبر باكياً وهو يقول: ليس بعد الكمال إلا النقصان.
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية يوم عرفة في حال من التضرع واللهج بالدعاء والثناء على الله ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ولما كان آخرَ النهار دعا صلى الله عليه وسلم بأسامة بن زيد، ليكون رديفه، هذا الشاب الأسود الأفطس الأجعد هو الذي حظي بشرف إرداف النبي صلى الله عليه وسلم ، وكأنه صلى الله عليه وسلم بهذا الانتخاب والاختيار يعلن تحطيم الفوارق بين البشر، ويدفن تحت مواطئ راحلته كل النعرات الجاهلية، والنزعات العنصرية، فلا فضل لعربيٍ على أعجمي، ولا لأبيضَ على أسودٍ إلا بالتقوى.
فلما غربت الشمس أشار صلى الله عليه وسلم للناس قائلاً:" ادفعوا على اسم الله" ، فدفع الناس معه، وهو صلى الله عليه وسلم في حَطْمَتهم وغمارِهم، وقد رفع يمينه المباركة يشير إليهم بسوطه قائلاً: "رويداً أيها الناس، السكينة السكينة، إن البر ليس بإيجاف الركاب"، يقول ذلك وقد شَنَق راحلته وكبح زمامها، حتى إن رأسها ليصيب مَورك رحله ، فلما وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء جمع تأخير ، ثم نام صلى الله عليه وسلم ليلته تلك إلى السحر، بعد يومٍ طويلٍ ، حافلٍ بالأعمال العظيمة.
وفي صباح اليوم العاشر ، قام صلى الله عليه وسلم مسارعاً إلى صلاة الفجر، فصلاها في غاية البُكور في أول الوقت، ثم ركب راحلته وتوجه إلى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ورفع يديه، يدعو ويلبي، ويكبر ويهلل حتى أسفر جداً، وقاربت الشمس أن تطلع، فدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس مخالفاً هدي المشركين، وأردف ابن عمه الفضل بن العباس بن عبد المطلب، وأمره أن يلقط له حصى الجمار، فالتقط له سبع حصيات صغار بحجم حبة الحمص أو أكبر قليلاً ، حتى إذا وصل وادي محسّر ، بين مزدلفة ومنى ، أسرع قدر رمية بحجر.
وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى ، فبدأ بجمرة العقبة فاستقبلها جاعلاً منىً عن يمينه، ومكةَ عن يساره، فرمى الجمرة بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، وكان في شأنه كله متواضعاً لله ، معظماً لشعائره، وازدحم الناس حوله فقال: "يا أيها الناس لا يقتلْ بعضكم بعضا ، وإذا رميتم فارموا بمثل حصى الخذف، ولتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".
ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنحر لينحر هديه، فلما قُرِّبت إليه الإبل لينحرها إذ بها تزدلف إليه وتتسابق أيُّها ينحره بيده الشريفة.. إذا كان هذا هو شعور الحيوانات العجماوات فكيف بقلوب المحبين التي امتلأت حباً وشوقاً لمحمد صلى الله عليه وسلم.
نحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، بعدد سني عمره المبارك، ثم أمر علياً بنحر ما بقي منها، وأن يقسم لحومها وجلودها بين الناس.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحلاق ليحلق رأسه ، فجاء معمر بن عبد الله ومعه الموسى، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه، ثم قال له ملاطفاً: "يا معمر، قد أمكنك رسول الله من شحمة أذنه وفي يدك الموسى" فقال معمر: والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعمة الله علي ومنِّه، قال: (أجل) ، ثم دفع شعر رأسه الأيمن للصحابة ، قم قال: أين أبو طلحة؟ أبو طلحة الذي كان بيته كأنما هو بيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم خدمةً وعناية وحفاوة ، فجاء أبو طلحة، فدفع إليه شعرَ رأسِه الأيسرِ كلَه ، فانطلق أبو طلحة بشعره ، وكأنما أعطي كنزاً من كنوز الأرض.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً ، فقال: "اللهم ارحم المحلقين" ، ثم قال: "والمقصرين".
قال مالك بن ربيعة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك وأنا يومئذ محلوقُ الرأس ، فما يسرني بحلق رأسي حمرَ النَّعَم.
وبعد أن حلق صلى الله عليه وسلم رأسه ، نزع إحرامه ، وطيبته عائشة رضي الله عنها بأطيب ما تجد من الطيب، ثم ركب إلى البيت ، فلما وصل الكعبة طاف راكباً يستلم الحجر بمحجن كان معه، فلما فرغ من طوافه ذهب إلى سقاية عمه العباس، فاستسقى من أوعيتهم ، فقال العباس:يا فضل اذهب إلى أمك ، فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها فأبى صلى الله عليه وسلم ، وقال: "لا حاجة لي فيه، اِسقوني مما يشرب منه الناس" ، قال يا رسول الله: إنهم يضعون أيديهم فيه، قال: "اسقني" فسقاه العباس مما يشرب منه الناس.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر ، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر ، والصلاة والسلام على خير من حج واعتمر، ووقف بعرفة والمشعر ، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر ، وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: وبعد أعمال يوم النحر ، عاد صلى الله عليه وسلم إلى منى، فصلى بالناس صلاة الظهر، ثم مكث بها يومه يصلي الصلوات قصراً في أوقاتها ، ويعمر وقته بذكر الله ، فكان يكبر في قُبَّته ويكبر أهل منى بتكبيره حتى ترتج فجاج منى بالتكبير.
فلما زالت الشمس في اليوم الحادي عشر توجه إلى الجمرات ماشياً فبدأ بالصغرى فرماها بسبع حصيات يكبر الله مع كل حصاة ، ثم تقدم حتى أسهل بعيداً عن زحام الناس، فرفع يديه واستقبل القبلة ودعا وتضرع طويلاً، ثم قصد الجمرة الوسطى فرماها كما رمى الصغرى، ثم أخذ ذات الشمال واستقبل القبلة ورفع يديه داعياً متضرعاً وأطال الوقوف، ثم رمى جمرة العقبة ولم يقف عندها. وهكذا صنع في رمي الجمار في اليوم الثاني عشر والثالث عشر.
لقد كان صلى الله عليه وسلم سمحاً في إقامة المناسك ، فرخص للرعاة أن يرموا يوم النحر ثم يدعوا يوماً ثم يرموا من الغد، ورخص للعباس أن يبيت بمكة لأجل سقايته، وكان يقول لمن قدم وأخر: افعل ولا حرج، فما سئل عن شيء يومئذ إلا قال: افعل ولا حرج.
ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج من منى ، تذكر أيام الدعوة الأولى التي شهدتها هذه الأماكن ، فقال: " نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ ".
لقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم خيف بني كنانة لنزوله؛ ليظهر جميلَ صنع الله وصدقَ موعوده، فهذا المكان هو الذي تحالفت فيه بنو كنانة مع قريش عَلَى إِخْرَاج النبي صلى الله عليه وسلم وَبَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب مِنْ مَكَّة إِلَى هَذَا الشِّعْب , وَكَتَبُوا بَيْنهمْ الصَّحِيفَة الْمَشْهُورَة ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فها هو محمد صلى الله عليه وسلم ينزل في ذات المكان وقد أظهره الله على الدين كله، ونصره وأعزه، وفتح له فتحاً مبيناً.
فلما رمى في اليوم الثالث عشر نفر إلى خيف بني كنانة المسمى بالمحصَّب ، فصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم نام حتى كان آخر الليل فاستيقظ وسار بمن معه إلى الكعبة، فطاف طواف الوداع، وصلى بالناس صلاة الصبح يترسل في قراءته بسورة الطور، وكانت هذه آخر صلاة صلاها أمام الكعبة.
ثم خرج صلى الله عليه وسلم من مكة من أسفلها من ثَنيَّة (كُدَي) وهي المعروفة اليوم بالشُّبَيكة، وتفرقت الجموع التي كانت معه في فجاج الأرض ، وما علمت أنه وهو يودعها كان يودع الدنيا، وأن كان في الأيام الأخيرة من حياته ، فلم يمض إلا شهران وأيام حتى لحق بالرفيق الأعلى والمحل الأسنى، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...