الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | حسام بن عبد العزيز الجبرين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد |
قال الدقاق: "مَن أكثَرَ ذِكر الموت، أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة؛ ومن نسي الموت ابتُلي بثلاث: تسويف التوبة، وترْك الرضا بالكفاف، والتكاسُل في العبادة". ويا ترى: إلى متى التسويف والغفلة، ونحن نرى كثرة موت الفجأة؟.
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر: 22]، أحمده -سبحانه- وأشكره، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلَق الموت والحياة وإليه النشور، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله، أرسله الله بالهدى والنور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: معاشر الكرام، فإن العبودية لله غايةٌ شريفة، ثمارها يانعة في العاجل والآجل، فالإكثار من القربات، وترك المحرَّمات، من أعظم أسباب السعادة والتوفيق في الدنيا والأخرى، وحريٌّ بالمسلم أن يسلك ما يوصله إلى صلاح قلبه وزيادة طاعته.
إخوة الإيمان: أمرٌ ذُكر في الكتاب المجيد، وورد في السنة النبوية من قوله -عليه الصلاة والسلام- وفعله، أمر يحثُّ القلوبَ، ويسهِّل عليها التزودَ من العبادات، أمر يساعد على إخماد نيران الشهوات المحرمات، حقيقة طالما غَفَلنا عنها، لحظات حاسمةٌ لا بد أن تلاقينا، إنه الواعظ الصامت الذي لم يدَع غنيًّا ولا فقيرًا، ولا صحيحًا ولا سقيمًا!
وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ | دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ |
أيها المؤمنون الكرام: من هدي نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يتخوَّل أصحابه بالموعظة؛ خشيةَ السآمة عليهم، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" أخرجه مسلم.
نشيع بين حين وآخر غاديًا إلى الله، قد قضى نَحْبه، وانقضى أجله، في صدع من الأرض، قد سكن التراب، وتركه الأحباب، وواجه الحساب.
الموت -عباد الله- لبعض الخلق نقطة تحوُّلٍ إلى السعادة الأبدية والنعيم السرمدي، وبعض الخلق نقطة تحوُّل إلى شقاء وعذاب قد يطول وقد يقصر.
أيها المصلُّون: يكون الموت أحيانًا على بعض الناس سهلاً يسيرًا، وجاء وصف قبض روح المؤمن: "فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء"، وكم سمعنا عن أناس فارقوا الحياة وهم في جلسة أو في صلاة!.
ويكون الموت أحيانًا شديدًا عسيرًا، ويكون في هذا تكفير وتمحيص للمؤمن، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أكْثروا ذكر هاذم اللذات"؛ أخرجه أحمد والنسائي وغيرهم، وصححه الألباني، قال الإمام القرطبي: قال علماؤنا: قوله -عليه السلام-: "أكثروا ذكر هاذم اللذات"، كلام مختصر وجيز، وقد جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة. اهـ.
أخي المبارك: ذِكر الموت ليس مرادًا لذاته، وإنما لما يترتب عليه؛ إذ إن في تذكُّر الموت فوائدَ، منها أنه يحث على الاستعداد للموت قبل نزوله، وأنه يبعث على محاسَبة النفس، وثمرة المحاسَبة تزود من الخيرات، وندم وانكفاف عن المحرَّمات، وأن ذكر الموت يدْعو إلى الطاعة، وأن ذكره يهوِّن على العبد مصائبَ الدنيا، وأيضًا يحثُّ على التوبة واستدراك ما فات،
ذِكْر الموت يرقِّق القلوب، ويُدمِع الأعين، ويجلب باعث الدين، ويطرد باعث الهوى. ذكر الموت يدْعو إلى سلِّ السخائم، ومسامحة الإخوان وقبول أعذارهم. تذكُّر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي.
عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلَّ الثرى، ثم قال: "يا إخواني، لمثل هذا فأعدُّوا" أخرجه أحمد، وابن ماجه، وحسنه الألباني.
قال الدقاق: "مَن أكثَرَ ذِكر الموت، أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة؛ ومن نسي الموت ابتُلي بثلاث: تسويف التوبة، وترْك الرضا بالكفاف، والتكاسُل في العبادة". ويا ترى: إلى متى التسويف والغفلة، ونحن نرى كثرة موت الفجأة؟.
تَزَوَّدْ مِنَ التَّقْوَى فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي | إذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلَى الفَجْرِ |
فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ | وَكَمْ مِنْ سَقِيمٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ |
وَكَمْ مِنْ صَبِيٍّ يُرْتَجَى طُولُ عُمْرِهِ | وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوُ لاَ يَدْرِي |
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم إنا نسألك حسن الختام، وفردوس الجنان، واستغفروا الله؛ إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي تفرَّد بالحياة والبقاء، وكتب على عباده الموت والفناء، والصلاة والسلام على من خُتمت به الرسل والأنبياء.
أما بعد: إخوة الإسلام، فبحلول الموت يُختَم العمل، ولا تُقبَل التوبة؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يَقبل توبة العبد ما لم يُغرغِر" أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني.
عند الموت يتكشف للإنسان خطؤه وصوابُه، وتتضح له عاقبته، فالمؤمنون عند الموت تتنزَّل عليهم الملائكةُ (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32].
أيها المبارك: زيارتك المقبرة، أو تصوُّرك لحالك إذا حُملتَ على الأكتاف، ليس ليتنغص عيشك، ولا لهم قلبك؛ بل -واللهِ- ليطيبَ عيشُك، وتصلح حالك، فإن القائل: "أكثروا ذكر هاذم اللذات"، هو القائل: "حُبِّب إليَّ من دنياكم النساءُ والطِّيب"، وهو القائل أيضًا: "وفي بُضع أحدكم صدقة"، قالوا: أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".
ولكنَّ المقصود أن يتدارك المرء نفسَه فيما كان مقصرًا فيه، ويداوم ويزداد فيما كان محسنًا فيه، ما دام في زمن العمر والمهلة؛ إذ إننا اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، والعاقل مَن يستعدُّ للقاء ربه، وقدّم لنفسه، فأنا وأنت الرابح أو الخاسر.
لاَ دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوْتِ يَسْكُنُهُا | إِلاَّ الَّتِي كَانَ قَبْلَ المَوْتِ يَبْنِيهَا |
فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهَا | وَإِنْ بَنَاهَا بَشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا |
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].
اللهم إنا نسألك حسن الختام، وأعالي الجنان، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، اللهم ارزقنا عيش السعداء، وموت الشهداء، اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنة...