الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المنجيات |
المُسابقةُ إلى الخيرات خُلُقٌ عظيمٌ، ومسلَكٌ كريمٌ لا يتَّصِفُ به إلا الجادُّون المُشمِّرون، والمُسارعةُ إلى أعمالِ البِرِّ طبعٌ لا يتخلَّقُ به ولا يُهدَى إليه إلا مَن وهَبَه الله علُوَّ همَّة، وقُوَّةَ عزيمَة، مع سلامةِ قلبٍ، ورَجاحَةِ عقلٍ، وانشِراحِ صَدرٍ.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله له الحمدُ في الأولى والآخرة، أحمدُه - سبحانه - وأستَغفِرُه يغفِرُ كبائِرَ الإثمِ وصغائِرَه، وأشكرُه على جَزيلِ آلائِه ونِعمِه الباطِنةِ والظاهِرةِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له شهادةً تُهدَى بها القلوبُ الحائِرة، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أعزَّ الله به الدِّين وأقامَ به المِلَّةَ فكسَرَ أعناقَ الأكاسِرَة، وقصَّرَ آمالَ القياصِرَة، وجمَعَ القلوبَ المُتنافِرَة، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه النُّجُوم الزَّاهِرة، والبُدُور السَّافِرَة، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مَزِيدًا.
أما بعد: فأُوصِيكم - أيها الناس - ونفسِي بتقوَى الله، فاتَّقُوا اللهَ - رحِمَكم الله -؛ فخَيرُ النَّاسِ مَن تواضَعَ عن رِفعةٍ، وعفَا عن قُدرة، وأنصَفَ مِن قُوة، وزَهِدَ عن غِنًى.
عرَفَ حقَّه فلم يطلُب أكثَرَ مِنه، وعرَفَ ما عليه فلم يُقصِّر فيه، يُحبُّ لأخِيهِ ما يُحبُّ لنفسِه، إذا غابَ غائِبٌ تفقَّدَه، وإذا مرِضَ مريضٌ عادَه، وإذا احتَاجَ مُحتاجٌ ساعَدَه.
دينُه النَّصِيحة، وخُلُقُه الأمرُ بالمعروف، والنَّهيُ عن المُنكَر، يعلَمُ أن العُمر قصير، والباقِيَ مِنه يسير، لا يُضيعُ نَفِيسَ عُمره بغَير عملٍ، ولا يُذهِبُ أيَّامَه مِن غَير عِوَض، (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: 3- 8].
أيها المسلمون: المرءُ بحُسن عملِه لا بطُول عُمره، ولقد عوَّضَ اللهُ أمةَ الإسلام عن قِصَر أعمارِها بركَةَ أعمالِها، ومواسِمَ خيراتٍ مِن نفَحَاتِ دَهرِها، في نفَحَاتٍ ومُناسبَاتٍ لا تتناهَى.
يخرُجُ المُؤمنُ مِن عبادةٍ ليستَقبِلَ أُخرى، ومَن لا يُطيقُ عبادةً يَنتَقِلُ إلى غيرها، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) [البقرة: 148].
والمُؤمنُ كيِّسٌ فَطِنٌ، يعلَمُ أن أنفاسَهُ معدُودة، وأيَّامَه محدُودة، والحياةَ فُرَص فمَن أحسَنَ اغتِنامَها فازَ وسعَد، ومَن ضيَّعَ وفرَّط فلا يلُومنَّ إلا نفسَه.
وفي الحديث: «اغتَنِم خَمسًا قبلَ خَمسٍ: شَبابَك قبلَ هَرَمِك، وصِحَّتَك قبلَ سَقَمِك، وغِناكَ قبلَ فَقرِك، وفَراغَكَ قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ مَوتِك»؛ أخرجه الحاكم، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخَين".
معاشِرَ المسلمين: المُسابقةُ إلى الخيرات خُلُقٌ عظيمٌ، ومسلَكٌ كريمٌ لا يتَّصِفُ به إلا الجادُّون المُشمِّرون، والمُسارعةُ إلى أعمالِ البِرِّ طبعٌ لا يتخلَّقُ به ولا يُهدَى إليه إلا مَن وهَبَه الله علُوَّ همَّة، وقُوَّةَ عزيمَة، مع سلامةِ قلبٍ، ورَجاحَةِ عقلٍ، وانشِراحِ صَدرٍ.
أيها الإخوة: المُسارعةُ والمُنافسةُ إقدامٌ، ومُبادرةٌ، وسَبقٌ، وخِفَّةٌ، وجِدٌّ، ورَغبةٌ، ومَن بادَرَ في طلبِ شيءٍ سَهُلَ عليه تحصِيلُه.
المُسارعةُ والتنافُسُ مُجاهدةُ النَّفس للتشبُّه بالأفاضِل، واللُّحُوق بالأخيار، مِن غير إدخالِ ضررٍ على أحدٍ، أو النَّيلِ مِن حقِّ أحدٍ.
واعلَمُوا - رحِمَكم الله - أن الأمرَ بالاستِباقِ إلى الخيراتِ قَدرٌ زائِدٌ على الأمرِ بفعلِ الخيرات؛ فإن الاستِباقَ إلى الخَيراتِ يستَدعِي فِعلَها وتكمِيلَها على أكملِ الهيئاتِ والأحوالِ، مع المُبادرةِ في ذلك والمُسارَعة.
معاشِرَ الأحِبَّة: ومما يُعينُ على التنافُس في الصالِحات، والمُسارَعة إلى الخَيرات: معرفةُ قَدر الدنيا بالنسبةِ للآخرة.
حتى قال بعضُ السلَف: "لو كانت الدُّنيا من ذهبٍ يَفنَى، والآخرةُ مِن خَزَفٍ يَبقَى، لكان المُتعيِّنُ على العاقِل أن يُؤثِرَ الخَزَفَ الذي يَبقَى على الذَّهَب الذي يَفنَى، فكيف والآخرةُ هي الذَّهبُ الذي يَبقَى، وهي خيرٌ وأَبقَى".
ومما يُعينُ كذلك - أيها الإخوة -: صُحبةُ الأخيار، وعَدمُ التوسُّع في المُباحات، والحَزمُ والعَزمُ، وأخذُ الكتاب بقُوَّة، والإكثارُ مِن العباداتِ وقتَ الفراغِ.
وإذا كان التأنِّي والتمهُّلُ مطلُوبًا في أمورِ الدنيا، فإن أعمالَ الآخرة مطلُوبٌ فيها المُسارَعةُ والمُبادرةُ والمُسابقةُ، قال - عزَّ شأنُه -: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
وقد ورَدَ في الأثر: "التُّؤدَةُ في كلِّ شيءٍ إلا في عملِ الآخرة".
ويقولُ الإمامُ أحمد - رحمه الله -: "كلُّ شيءٍ مِن الخير يُبادَرُ إليه".
معاشِرَ الأحِبَّة: وأمامَكم شهرٌ كريمٌ، مَيدانٌ للمُسابقات والمُنافسات، مَن تقرَّبَ فيه بنافِلة كان كمَن أدَّى فريضةً فيمَا سِواه، ومَن فطَّر فيه صائِمًا كان له مثلُ أجره ولو فطَّرَه على تَمرةٍ أو مَذقةِ لَبَنٍ.
فيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألف شَهر، مَن قامَها إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبِه، ومَن صامَ شهرَ رمضان وقامَه إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبِه.
وكان نبيُّكُم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أجوَدَ النَّاس، وكان أجوَدَ ما يكونُ في رمضان، والجُودُ ليس مقصُورًا على بَذل المال، بل جُودٌ في كل أعمالِ الخير والبِرِّ والطاعاتِ والقُرُبات.
والخَيراتُ لا تُحصَرُ أنواعُها، ولا تُحدُّ أبوابُها؛ مِن صلواتٍ، وزكَواتٍ، وصدَقاتٍ، وصِيامٍ، وقراءةِ قُرآن، واعتِكافٍ، وتفقُّد ذَوِي الحاجاتِ والأرامِل والمساكِين وذوِي القُربَى ممَّن لا يسأَلُون النَّاسَ إلحافًا.
ولا تنسَوا زِيارةَ المريض، والإحسانَ إلى الجار، وطلَبَ العلمِ، والدعوةَ إلى الله، وإغاثَةَ الملهُوف، وإنصافَ المظلُوم، وكفَّ الظالِم، ورِعايةَ الأولاد والأُسَر، وإعمارَ المساجِد، والقِيامَ بالمسؤوليات، وأداءَ الواجِبات، وكلَّ قولٍ حسنٍ وفِعلٍ حسنٍ.
ثم تأمَّلُوا - حفِظَكُم الله - صِفاتِ المُسارِعين والسَّابِقين، يقولُ - عزَّ شأنُه -: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57- 61]، ويقولُ - عزَّ شأنُه -: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 113- 115].
وقد سألَت عائشةُ - رضي الله عنها - رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء الذين يُؤتُون ما آتَوا وقلوبُهم وَجِلَة، "هل هُمُ الذين يسرِقُون ويَزنُون ويشرَبُون الخَمرَ، وهم يخافُون الله؟!"، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يا ابنَةَ الصِّدِّيق، ولكنَّه الذي يُصلِّي ويصُومُ ويتصدَّقُ، وهو ويخافُ اللهَ».
لماذا - يا عباد الله -، لماذا كان هذا الجوابُ؟! لأن في النُّفوسِ مَن هي عامِلةٌ ناصِبة، تَصلَى نارًا حامِية، وفِيهم مَن عملُه كسَرابٍ بقِيعةٍ، أو كرَمادٍ اشتَدَّت به الرِّيحُ في يَومٍ عاصِفٍ. نعُوذُ بالله من الخُذلان.
نعم - حفِظَكُم الله -، مَا حمَلَ هؤلاء الصالِحين على المُسارَعَة والمُنافسَة إلا خوفُهم ووجَلُهم وإشفاقُهم، وعظيمُ يَقِينِهم باليومِ الآخر، وأن المرجِعَ إلى الله، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) [البقرة: 148]، (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
معاشِرَ المسلمين: وانظُرُوا إلى هذه النماذِج العجِيبة مِن صحابةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -:
فهذا أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه وأرضاه - في مُبادراتِه ومُسارعاتِه؛ فقد سألَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه: «مَن أصبَحَ مِنكم صائِمًا؟»، فقال أبو بكرٍ: أنا، فقال: «مَن تبِعَ مِنكم اليومَ جنازةً؟»، فقال أبو بكرٍ: أنا، فقال: «ومَن عادَ مِنكم مريضًا؟»، فقال أبو بكرٍ: أنا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتَمعنَ في امرِئٍ إلا دخلَ الجنَّة» (رواه مسلم).
وعندما أرادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الخروجَ لقِتالِ الرُّوم في غزوةِ تبُوك، دعَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ إلى تجهيزِ الجَيشِ، وحضَّ على الإنفاقِ والبَذل، ولاسيَّما أهلُ الطَّول واليَسار، وقد كان لهذه الغَزة ظُروفُها مِن بُعد المسافَة، والحرِّ الشديد، والعدُوِّ الكثير، والمُنافِقِين والخالِفين والقاعِدِين.
فسارَعَ عُمرُ - رضي الله عنه - وقال في نفسِه: "اليوم أسبِقُ أبا بكرٍ إن سبَقتُه يومًا" فجاءَ بنَصفِ مالِه، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أبقَيتَ لأهلِك؟»، فقال: "مِثلَه يا رسول الله"، وأتَى أبو بكرٍ بكلِّ ما عِندَه مِن مالٍ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أبقَيتَ لأهلِك؟»، فقال: "أبقَيتُ لهمُ اللهَ ورسولَه"، فقال عُمر: "لا أُسابِقُك إلى شيءٍ أبدًا".
أما عُثمانُ - رضي الله عنه - فكان أكثَرَ الصحابة مالًا، وأيسَرَهم حالًا، فلما سمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يحُثُّ على تَجهِيزِ الجيشِ، قامَ فقال: "يا رسولَ الله! علَيَّ مائةُ بَعيرٍ بأحلاسِها وأقتَابِها في سَبِيلِ الله"، ولما كرَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحضَّ على النَّفقَة، قال عُثمانُ - رضي الله عنه -: "علَيَّ مائةُ بَعيرٍ بأحلاسِها وأقتَابِها"، وأعادَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الحضَّ والدعوةَ، فقال عُثمانُ: "علَيَّ ثلاثُ مائةِ بَعيرٍ بأحلاسِها وأقتَابِها في سَبِيلِ الله"، فدعَا له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «اللهم ارضَ عن عُثمان؛ فإنِّي عنه راضٍ».
ثم ذهبَ عُثمان - رضي الله عنه -، وجاء بألفِ دينارٍ وصبَّها في حجرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقلِّبُها بيدِه ويقولُ: «ما ضَرَّ عُثمان ما عمِلَ بعد اليوم!».
وتتجلَّى صُورةُ المُبادَرة في هذا التوجيهِ الكريم؛ فقد جاء رجُلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ الله! أيُّ الصَّدقةِ أعظَمُ أجرًا؟ فقال: «أما وأبِيكَ لتُنبَّأنَّه! أن تصَدَّقَ وأنت صَحيحٌ شَحيحٌ تخشَى الفقرَ وتأمَلُ البقَا، ولا تُهمِل حتى إذا بلغَت الحُلقُوم قُلتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كذا، وقد كان لفُلانٍ كذا» (متفق عليه).
بل يتجلَّى ذلك أكثرُ وأكثرُ في قولِه - صلى الله عليه وسلم -: «بادِرُوا بالأعمالِ فِتنًا كقِطَع الليلِ المُظلِم، يُصبِحُ الرجُلُ مُؤمنًا ويُمسِي كافِرًا، ويُمسِي مُؤمنًا ويُصبِحُ كافِرًا، يَبِيعُ أحدُهم دينَه بعَرَضٍ مِن الدنيا» (أخرجه مسلم).
وفي الخَبَر الآخر: «هل تنتَظِرُون إلا فَقرًا مُنسِيًا، أو غِنًى مُطغِيًا، أو مرضًا مُفسِدًا، أو هرَمًا مُفنِدًا، أو مَوتًا مُجهِزًا، أو الدجَّال فشرُّ غائِبٍ يُنتَظَر، أو الساعة والساعةُ أدهَى وأمَرُّ»؛ أخرجه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ غريب".
عباد الله: وما معنى: «بادِرُوا بالأعمالِ فِتنًا»؟ أي: سارِعُوا قبلَ وقوعِ الفِتَن، وما هي الفِتَنُ - رحِمَكم الله -؟ هي كلُّ ما شغَل عن طاعةِ الله، أو أوقَعَ في معصِيةِ الله، ولعلَّ حالَ أهلِ العصرِ وما شغِلُوا به من هذه المُشغِلات والآلات والأدوات مِن أعظم الشواهِدِ والمُخِيفات.
ولهذا عظُمَت العبادة زمن الفِتَن؛ لصُعُوبتها ومشقَّتها، كما في حديث مقِل بن يسارٍ - رضي الله عنه -: «العبادةُ في الهَرجِ كهِجرةٍ إلَيَّ».
قال النوويُّ - رحمه الله -: "وسبَبُ كثرةِ فضلِ العبادة زمنَ الفِتَن: لأن النَّاس يغفلُون عنها، ولا يتفرَّغُ لها إلا الأفراد".
فلله أقوامٌ يُبادِرُون الأوقات، ويَحفَظُون الساعات، ويُلازِمُون الطاعات، ويُسارِعُون في الخيرات؛ فمَن قدَّم شيئًا اليوم قَدِمَ عليه غدًا، ومَن لم يُقدِّم شيئًا قَدِمَ على غير شيءٍ، ومَن خافَ أدلَجَ، ومَن أدلَجَ بلَغَ المنزِل، ومَن جدَّ وجَد، ومَن سهِرَ في طلَبِ المعالِي ليس كمَن رَقَد، ولا مُستراحَ للمُشمِّرين إلا تحت شجَرَة طُوبَى، ومَن صحَّ إلى اللهِ فِرارُه فنِعمَ القرارُ قرارُه.
وبعدُ .. يا عباد الله: إذا همَمتُم فبادِرُوا، وإذا عزَمتُم فثابِرُوا، ومَن هابَ رُكوبَ الأهوال قعَدَ عن إدراكِ الآمال، والعِزُّ لا يكونُ إلا تحت ثَوبِ الكَدِّ، ولا يحصُلُ الخطيرُ إلا بالمُخاطَرة، ولا بَردُ العيشِ إلا بحَرِّ التعَبِ، ولا يُدرِكُ المفاخِرَ مَن رضِيَ بالصفِّ الآخر.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
نفَعَني اللهُ وإياكم بِكِتابِه، وبهَديِ نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخَطيئةٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله جَزيلِ العطايَا، واسِعِ الجُود، أحمدُه - سبحانه - وهو بكلِّ لِسانٍ محمُود، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةً خالِصةً مُبرَّأةً مِن الشكِّ والجُحُود، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صاحِبُ المقامِ المحمُود، والحَوضِ المورُود، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه أشِدَّاءُ على الكفَّار رُحماءُ بينهم، هم الرُّكَّعُ السُّجُود، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى اليوم المشهُود.
أما بعد .. معاشِر المُسلمين: في النَّاسِ نُفوسٌ خيِّرة، وقلُوبٌ طيِّبة، يُحبُّون فِعلَ الخير وأعمالَ البِرِّ، ولكنَّهم يُبتَلَون بالتسوِيفِ والتأجِيلِ، لا ينتَهِزُون الفُرصَ، وليس عندهم خُلُقُ المُبادَرة والمُسارَعة، ولا طبِيعةُ المُسابَقَة والمُنافَسَة.
ولقد قالت الحُكماءُ: "التوانِي إضاعة، وفَوَاتُ الفُرَص غُصَّة".
ومِن المُعِيقات: حُبُّ الراحة والغفلة، والإغراقُ في المُشتهَيَات واللذَائِذ.
وفي الحديثِ: «لا يَزال قَومٌ يتأخَّرُون حتى يُؤخِّرهم اللهُ في النار» (رواه مسلم).
ومِن جَميلِ تعبيرات المُعاصِرين: "كُن مُبادِرًا سبَّاقًا ولا تكُن مُديرَ كوارِث".
معاشِرَ الأحِبَّة: وهذه وَقفةٌ مع مُسابقَةٍ مِن نوعٍ آخر، ومُسارَعةٍ إلى خيرٍ عَميمٍ، فيها عظيمُ الأجر، وسابِغُ الفضلِ لمَن صلُحَت نِيَّتُه، وحسُنَ عملُه.
إنها وَقفةٌ مع هذا الاجتِماعِ المُبارَك الذي يجمَعُ الأشِقَّاءَ والأصدِقاءَ، إنكم تجتَمِعُون في القلبِ النَّابِض للأمةِ العربيةِ والإسلامية: المملكة العربية السعودية، بلاد الحرمَين الشريفَين، حامِلَة لِواء الإسلام والاعتِزازِ بالدِّين، والذي يُؤمِنُ به هؤلاء القادَة مِن العرب والمُسلمين؛ فهي حاضِنةُ مُقدَّساتهم، وخادِمتُها وراعِيتُها والقائِمةُ عليها.
وهي الدَّولةُ التي تنتَهِجُ سِياسَةَ الحَزمِ والعَزمِ وإعادةِ الأمل، وهي سِياسةٌ لا تخدِمُ الأمنَ الوطنيَّ فحسب، ولكنَّها تُمثِّلُ أمنَ العربِ والمُسلمين أجمعين، وهي رافِدُ الاستِقرار للعالَم كلِّه.
أيها القادَةُ المُجتمِعُون! ليس أشدَّ منَعَةً مِن الإسلام؛ لأنه أساسُ شريعةِ هذه الدولة - ولله الحمدُ والمِنَّة - وقوَّتها، والتِفافِ النَّاس حولَها عربًا ومُسلِمين.
في هذه القِمَّة المُبارَكة ينبَغِي أن يكون الطَّرحُ واقعِيًّا، وأن تُوضعُ النِّقاط على الحُروف، والتأكيد على أن التدخُّلات المنطِقة كان لها الأثر السيِّئ في تفاقُم الصِّراعات الطائِفيَّة والدينيَّة والقوميَّة والعِرقيَّة، وغلَبَة المصالِح الجُزئيَّة والأُحاديَّة.
لا بُدَّ مِن لَجمِ هذه الفوضَى المُسلَّحة، والتي يَقُودُها إرهابيُّون، ووَقُودُها شبابٌ أغرارٌ ومِن ورائِهم رُعاةُ الإرهاب، مما ساعَدَ الجماعات ِ المُتطرِّفة على سُهولةِ الاستِقطابِ في مناطِقِ الصِّراع والنِّزاع.
أيها القادَةُ المُحتَرمُون! ينبَغي أن يعلَمَ العالَمُ أن أمةَ الإسلام أمةٌ تعتَزُّ بدِينِها وهويَّتها وقِيَمها وثقافتِها، أمةٌ تُقدِّرُ الإنسانَ وتُكرِّمُه، وتُقدِّرُ العلاقةَ الكريمةَ بين البشَر، انطِلاقًا مِن قولِ الحقِّ - عزَّ شأنُه -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
أمةٌ تُؤمِنُ بالتنوُّع البشريِّ والثقافيِّ والحضاريِّ.
إن أمةَ الإسلام ترَى أن الناسَ شُركاء في عِمارة الأرض، والتعاوُن مطلُوبٌ ومبذُولٌ اقتِصاديًّا وسِياسيًّا وفي كل مَيدانٍ يخدِمُ هذا الهدفَ الكبيرَ النَّبيلَ مِن أجلِ عِمارةِ الأرض، واستِثمارِ مُكوِّناتها ومخزُونها لصالِح البشريَّة جَمعاء.
أيها المُجتمِعُون الكرام! العدلُ، والحقُّ، والصِّدقُ، والسلامُ، والمُساواةُ، والحِوارُ البنَّاء، والوسطيَّةُ، والتعاوُنُ، والتسامُحُ، والتناصُحُ هذه كلُّها هي أُسسُ التعامُل الصحيحِ، الآمِن الراشِد المُصلِح بين الأفرادِ والمُجتمعاتِ والأُمم والدُّول.
أمةُ الإسلام تُريدُ السلامَ والحقَّ، والحريةَ الراشِدة في سِيادتها، وأوطانها، ودُولها، وثرَوَاتها، وتقريرِ مصِيرِها، واستِقلالِها في قرارِها، وتدبيرِ شُؤونِها، ومصالِحها ومُستقبَلها ومُستقبَل أجيالِها.
والعلاقةُ بين الدُّول والأُمم هي النديَّةُ، والاحتِرامُ المُتبادَل، والمُحافظةُ على الأخلاق والقِيَم السَّامِيَة، وسلامة البِيئة، وتحقيق مفاهِيم بشريَّة مُشترَكة تُعظِّمُ المُشترَكات والكليَّات الجوامِع بين البشَر، وتحتَرِمُ الخُصوصيَّات.
ألا فاتَّقُوا اللهَ - رحِمَكم الله -؛ اتَّقُوا اللهَ جميعًا - رحِمَكم الله -، وسارِعُوا كما سارَعَ الصالِحُون، وسابِقُون كما سابَقَ المُوفَّقُون، ونافِسُوا فيما يتنافَسُ فيه المُتنافِسُون، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل: 20].
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على الرحمةِ المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّكُم محمدٍ رسولِ الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم، فقالَ - عزَّ قائِلًا كريمًا -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك: نبيِّنا محمدٍ الحَبيبِ المُصطَفى، والنبيِّ المُجتَبَى، وعلى آله الطيبين الطاهِرِين، وعلى أزواجِه أمهاتِ المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاءِ الأربعةِ الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وإحسانِك يا أكرَمَ الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمُشركين، واخذُل الطغاةَ، والملاحِدَة، وسائرَ أعداءِ المِلَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمُورِنا، واجعَل اللهم ولايتَنَا فيمن خافَك واتَّقاك واتَّبَع رِضاكَ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا وولِيَّ أمرِنا بتوفيقِك، وأعِزَّه بطاعتِك، وأَعلِ به كلمَتَك، واجعَله نُصرةً للإسلامِ والمسلمين، ووفِّقه ونائبَيه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وتَرضَى، وخُذ بنواصِيهم للبِرِّ والتقوَى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمورِ المسلمين للعملِ بكتابِك، وبسنَّةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعَلهم رحمةً لعبادِك المؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ والهُدَى يا ربَّ العالمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم، واحقِن دماءَهم، واجمَع على الحقِّ والهُدى والسنَّةِ كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرَّخاءَ في ديارِهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتَن ما ظهَرَ منها وما بَطَن.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرَأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ونفِّس كُروبَنا، وعافِ مُبتلانا، واشفِ مرضانا، وارحَم موتانا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبَر، والله يعلَمُ ما تصنَعُون.