المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبد الرحيم المثيلي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
دين عظيم، تؤجر فيه على السلام والزيارة والهدية والابتسامة، والكلمة الطيبة، كم دخل في الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين بحسن المعاملة من مسلم عرف حقيقة الإسلام؟ وكم صُد عن الدخول في الإسلام بسوء المعاملة من رجل مسلم، لكن ما عرف حقيقة الإسلام؟
الخطبة الأولى:
الحمد لله شرح صدور أهل الإسلام بالهدى, ونكت في قلوب أهل الطغيان فلا تعي الحكمة أبدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها أحدا فردا صمدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ما أكرمه عبدا وسيدا, وأعظمه أصلا ومحتدا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه غيوث الندى، وليوث العداء، صلاة وسلاما دائمين من اليوم إلى أن يبعث الناس غدا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
عباد الله: إن دين الإسلام دين كامل ينتظم حياة الأفراد والمجتمعات، وما يكون به استقامة حياتهم في الدنيا, ونجاتهم في الآخرة.
كثير من الناس -اليوم- يظنون أو لسان حالهم ينطق بذلك: أن الدين صلاة وصيام وزكاة وحج فقط، وهذا فهم قاصر لدين الإسلام.
لذلك تجد فصاماً مقيتاً في تطبيقهم للدين في حياتهم، فهم يحافظون على أداء العبادات من صلاة وصيام وحج وغيرها، بل ويجتهدون في فعل النوافل كالسنن الرواتب وصلاة الضحى وصيام الأيام التي يستحب صيامها وتكرار الحج والعمرة، وهذا كله أمر طيب، لكنك حين تنظر إلى حالهم في التعامل مع الناس في أسواقهم وفي خصوماتهم وفي جميع شؤون حياتهم.
تجد العجب العجاب غش في البيع والشراء, وفجور في الخصومة, وغيبة وبغي, وكذب وبهتان، نكران للجميل، وغدر بالعهود, وحسد وبغضاء, وأذية للقريب والبعيد, وقطع للأرحام، وعقوق للوالدين, وغياب للعدل والإنصاف، وشح وطمع, وتعاون على الإثم والعدوان، أين الإسلام؟ أين الإيمان؟ أين الإحسان؟! هل عرف هؤلاء حقيقة الإسلام؟ كلا والله، من هذا حاله ما عرف حقيقة دين الإسلام الذي جاء به خير الأنام -صلى الله عليه وسلمَ-!
إن المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام لا يكذب؛ لأنه يعلم أن الكذب يهدي إلى الفجور، وأن الفجور يهدي إلى النار.
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام لا يؤذي جاره؛ لأنه وعى حديث النبي -صَلى الله عليه وسلم- حين قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن", قيل: من يا رسول الله؟ قال : "الذي لا يأمن جاره بوائقه" [البخاري] من لا يأمن جاره من شره يقسم الصادق المصدوق أنه لا يؤمن!
وعن أبي هريرة -رضي َالله عنه- قال: قيل للنبي -صَلى الله عليه وسلم-: "إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتصدق وتفعل، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "لا خير فيها، هي من أهل النار"، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتصدق بأثوار -يعني من أقط- ولا تؤذي أحدا، فقال رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "هي من أهل الجنة" [الأدب المفرد].
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، لا يغش ولا يخادع ولا يغدر؛ لأنه يعلم أن هذا ليس من صفات أهل الإسلام، مرّ رسول الله في السوق على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال: يا رسول الله أصابته السماء –يعني المطر-، قال: "أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟!" وقال: "من غشنا فليس منا" [مسلم]، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جمع الله -عز وجل- الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء, فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان" [البخاري ومسلم]، والغادر: كل تارك للوفاء، ناقض للعهد.
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، لا يحسد أحدا ولا يبغض أحدا؛ لأنه رضي بما قسم الله له, ولأنه يعلم أن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون المتحابون، عن الزبير بن العوام -رضَي الله عنه-: أن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- قال: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، وهي الحالقة أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، ألا أدلكم على ما تتحابون به؟ أفشوا السلام بينكم" [الترمذي].
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، لا يحب الانتقام من أحد و يصفح عن من أساء إليه؛ لأنه يرجو ما عند الله، قال الله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى: 40]، وقال جل وعلا: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43]، وعن سهل بن معاذ عن أبيه: أن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- قال: "من كظم غيظا -وهو قادر على أن ينفذه- دعاه الله -عز وجل- على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور ما شاء" [سنن أبي داود].
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، يصون لسانه عن فاحش القول وبذيئه؛ لأن إيمانه بربه وخوفه من غضبه ومقته يمنعه من ذلك، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء" [أبو داود والترمذي]، والفحش: كل ما قبح من قول أو فعل.
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام، عدلٌ في حكمه حتى مع من يبغضه, منصف من نفسه قبل غيره؛ لأنه يمتثل قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8] في بيته يعدل بين أولاده، ويعدل بين زوجاته، في عمله يعدل بين من هم تحت يده، ينصف الناس من نفسه قبل أن يُطالب بالعدل والإنصاف ذلك هو المسلم حقا! المؤمن يقينا وصدقا! المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام يجتنب البخل والشح, ويؤثر إخوانه المسلمين على نفسه ولو كان به فقر وفاقة؛ لأنه يعلم عاقبة الشح والبخل, وعاقبة الإيثار في الآخرة والدنيا، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: خطب رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- فقال: "إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا, وأمرهم بالفجور ففجروا" [أبو داود]، وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم" [مسلم]، وقال صَلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع الشح والإيمان في قلب مسلم أبدا" [النسائي]، وكان صَلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الشح [النسائي].
والشح -عباد الله- هو: البخل مع شدة الطمع والحرص.
ولقد مدح الله الأنصار -رَضي الله عنهم- فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام لا يؤذي مسلما، ولا يقطع رحما، ولا يسعى بين الناس بالنميمة، بل يسعى بالإصلاح بين الناس، عن أبي هريرة -رضي َالله عنه- قال: قال رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" [الترمذي والنسائي، وأوله في الصحيحين]، وعن ابن عباس قال: "مرّ النبي -صَلى الله عليه وسلم- بقبرين، فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول, وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"، وعن حذيفة: أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث، فقال حذيفة سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "لا يدخل الجنة نمام" [مسلم].
وإنما نهي عن النميمة؛ لأنها توغر الصدور، وتفرق القلوب، وتحمل الأنفس على العداوة والبغضاء والتنازع والاختلاف، وكفى بذلك شرا, وكفى به إثما عظيما، فالمسلم حقا يسعى لجمع الكلمة، وتآلف القلوب بالإصلاح بين الناس، قال تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].
والمسلم الذي ما عرف حقيقة الإسلام هو الذي يسعى لتحل اللعنة على المجتمع يسعى بالنميمة بين المسلمين، ويشعل نار العداوة والقطيعة بين الأرحام، والله يقول: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد: 22 - 23].
أيها المسلمون: المسلم الذي عرف حقيقة الإسلام وآمن بما جاء عن الله وعن رسول الله يقينا من قلبه يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه, يعامل الناس بالذي يحب أن يعاملوه به، عن عبد الله بن عمرو قال: قال صَلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" [مسلم].
دين الإسلام دين الرحمة والرفق والسلام والأخوة والتعاون على الخير، دين السماحة والصدق والمحبة والاجتماع، دين الرحمة بالصغير، وتوقير الكبير، والعطف على الأيتام والمساكين، قال النبي -صَلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا" [الترمذي].
دين عظيم، تؤجر فيه على السلام والزيارة والهدية والابتسامة، والكلمة الطيبة، كم دخل في الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين بحسن المعاملة من مسلم عرف حقيقة الإسلام؟ وكم صُد عن الدخول في الإسلام بسوء المعاملة من رجل مسلم، لكن ما عرف حقيقة الإسلام؟
حقاً: إن الدين المعاملة، وهذا ليس بحديث عن النبي -صَلى الله عليه وسلم- ولكنه قول صحيح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [البقرة: 83]، (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء: 53].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ المعزِّ مَن أطاعه واتَّقاه، والمذِلِّ لمن خالَف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له لا إلهَ سواه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبدُه ورسوله اصطفاه ربه واجتباه، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
قال صَلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ يحرم كل قريب هين لين سهل" [الترمذي]، والمعنى: سهل الخلق، كريم الشمائل، طلق، حليم، لين الجانب، هين من الهون وهو السكون والوقار، فلله ما أعظم الجزاء, وما أيسر الثمن!
وقال صَلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر" [البخاري ومسلم]، والعتل: الغليظ الجافي الذي لا ينقاد إلى الخير, والجواظ: المنوع المختال في مشيته.
نعوذ بالله من النار وما قرب إليها من قول وعمل!
عباد الله: إن السماحة والسهولة والتواضع ولين الجانب من أعظم صفات أهل الجنة, وإن الغلظة وجفاء الطبع والكبر والقسوة من صفات أهل النار.
فكن -أخي المسلم- سمحا هينا لينا سهلا قريبا لتكون من أهل الجنة؛ عن عائشة -رَضي الله عنها- قالت: قال صَلى الله عليه وسلم: "إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره" [البخاري ومسلم], وفي رواية: "اتقاء فحشه".
ألا وصلوا وسلموا -عباد الله- على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].