المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | عبد الله الواكد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لقد حذَّرَ الإسلامُ مِنَ الإسرافِ، ونهى عنهُ وعن مسبباتِهِ؛ لأنَّهُ مجاوزةٌ للحدِّ من غيرِ حاجةٍ، وتبديدٌ للثرواتِ والأموالِ من دونِ فائدةٍ إلا البذخَ ورئاءَ الناسِ، وإهلاكاً للمصالحِ العامةِ والمرافقِ والخدماتِ المشاعةِ، فالمسرفونَ لا يحبهم اللهُ -تعالى-؛ لأنهم...
الْخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ الذي هذَّبَ الأخلاقَ والأعرافَ ونهى عن التقتير والإسرافِ، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شريكَ لهُ القائلُ: (وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]، وأشهدُأنَّ محمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبَارِكْ علَى محمَّدٍ وعلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وأَصْحابِهِ أجمعينَ، والتَّابعينَ لَهُمْ بإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فأوصيكُمْ -عبادَ اللهِ- ونفْسِي بتقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قالَ تعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 - 71].
أيُّها المسلمونَ: إنَّ دينَ الإسلامِ دينٌ يتميَّزُ بالوسطيَّةِ والاعتدالِ فِي كلِّ شيءٍ، فلاَ إفراطَ ولاَ تفريطَ، ولاَ غُلوَّ ولاَ مُجافاةَ، ولاَ إسرافَ ولاَ تقتيرَ.
حياةُ المسلمِ -أيها المسلمونَ- كلُّها اعتدالٌ وتوازنٌ.
ولقد حذَّرَ الإسلامُ مِنَ الإسرافِ، ونهى عنهُ وعن مسبباتِهِ؛ لأنَّهُ مجاوزةٌ للحدِّ من غيرِ حاجةٍ، وتبديدٌ للثرواتِ والأموالِ من دونِ فائدةٍ إلا البذخَ ورئاءَ الناسِ، وإهلاكاً للمصالحِ العامةِ والمرافقِ والخدماتِ المشاعةِ، فالمسرفونَ لا يحبهم اللهُ -تعالى-؛ لأنهم على خَصلةٍ ممقوتةٍ، قالَ اللهُ -سبحانَهُ وتعالَى-: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
وقَدْ حذَّرَ النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- مِنَ الإسرافِ؛ فقالَ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلاَ سَرَفٍ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُرَى نِعْمَتُهُ عَلَى عَبْدِهِ" [رواه البخاري].
فلا خيلاءَ ولا تكبُّرَ، ولا سرَفَ ولا تتقتيرَ.
عبادَ اللهِ: لقد أنعمَ اللهُ على عبادِه بنِعَمٍ كثيرةٍ، فاللهُ -سبحانَهُ وتعالى- أنعمَ علينَا بنعمةِ المالِ، وقدْ أمرَنَا أنْ نستعملَهَا وفْقَ مَا جاءَ فِي شرعِ اللهِ -تعالَى- مِنْ خلالِ اكتسابِهَا وإنفاقِهَا، ونَهَى الإسلامُ عنْ إضاعةِ المالِ فيمَا لاَ فائدةَ منْهُ، قال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ" [رواه أحمد].
فاللهُ -سبحانَهُ وتعالى- يدعوكَ إلى الإنفاقِ بدونِ إسرافٍ، وينهاكَ عن الإسرافِ والتَّقتيرِ، قالَ عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].
أيُّها المسلمونَ: ومِنْ مظاهرِ الإسرافِ الَّتِي نعاني منْهَا ونراها في كلِّ مكان: الإسرافُ في استخدامِ المرافقِ الحيويةِ الَّتِي تقومُ عليْهَا حياةُ النَّاسِ مِنْ ماءٍ وكهرباءٍ، ونحوِ ذلكَ؛ فالماءُ هو قِوامُ الحياةِ، ومدادُ العيشِ، وقدْ قالَ اللهُ -تعالَى- فيهِ: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30]
فينبغِي علينَا أنْ لاَ نُسرِفَ فِي استعمالِهِ، ولاَ نُهْدِرَهُ فيمَا لاَ نفعَ فيه ولا فائدةَ، ولقدْ نَهانا رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- عنِ الإسرافِ فِي استعمالِ الماءِ حتَّى فِي الوضوءِ، فلقد مرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بِسَعْدٍ -رضي الله عنه- وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: "مَا هَذَا السَّرَفُ؟" فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ" [رواه بن ماجة].
والمتأمِّلُ فِي سيرةِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- يجدُ أنَّهُ كانَ يقتصِدُ فِي استعمالِ الماءِ فِي طهارتِهِ، فقد كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، فإذَا كانَ هذَا الاقتصادُ فِي الطهارةِ فمِنْ بابِ أولى غَيرُهَا؟
وكذلِكُم الكهرباءُ فهي لاَ تَقِلُّ أهميةً عَنِ الماءِ؛ فهي نعمةٌ غمرتناَ، ويذكرُ من كانَ منكم عاصرَ تلكَ الأيامِ الخاليةِ بجمالِها، وجمالِ حياةِ أهلِها، رحمَ اللهُ من ماتَ منهُم وموتى المسلمينَ وأسكنَهم فسيحَ جناتِه، كانت الحياةُ على الرغمِ من بساطَتِها وجمالِها إلا أنهَّا كانتْ متعبةً قاسيةً، كانتْ حياةُ الناسِ تُظلمُ معَ الليلِ إلاَّ من سُرُجٍ تتأرجَحُ أضواؤُها مع نسماتِ الهواءِ، وتُشرقُ حياتُهم معَ الصباحِ على أصواتِ الحياةِ الهادئةِ، وتبردُ بالشتاءِ فلا يعرفُ الناسُ على ضفافِ قرسِ الشتاءِ إلا مواقدُ الحطبِ، ويقيظ الصيفُ، فلا يبُردُهُ إلا ظلالُ النخيلِ والأشجارِ وكَنَفِ بيوتِ الطينِ.
لم يعرفْ أهلُ ذلكَ الزمنِ الغابرِ ما نحنُ فيهِ الآنَ من نعمةِ الكهرباءِ، أضواءٌ ومدافئ ومكيفاتٌ نشعِلُها ونُطفؤها بالتحكُّم عن بعدٍ.
نحنُ -واللهِ- لسنا في نعمةٍ فحسب بل في بحبوحةٍ النعمِ، وفي جوفِ الخيراتِ التي أنعمَ اللهُ بها علينا، فاشكروا اللهَ على هذهِ النعمَ شكراً قولياً وفعلياً، أمنٌ وأمانٌ، وبيوتٌ وسياراتٌ، وغذاءٌ وجوالاتٌ، ومياهٌ وكهرباءُ، فلا نكنْ لنعمِ اللهِ جاحدينَ.
والإسراف والتبذير -يا عبادَ اللهِ- من أسبابِ زوالِ النعمِ، فلاَ نتركُ الأضواءَ أَوْ المكيفاتِ تعملُ بغيْرِ داعٍ لها، ولاَ نسرِفُ فِي الإنارةِ، إنما نجعلُهَا عَلَى قدْرِ الحاجَةِ.
أيها المسلمونَ: مفهومُ الإسرافِ أشملُ وأعمُّ من ذلُكُم المفهومُ الذي ينقدحُ في أذهاننِا، فنظنُّهُ الإسرافَ فيما هو مقصورٌ على نملكه نحنُ من أموالِنا وممتلكاتِنا.
الأمرُ -يا عبادَ اللهِ- أشملُ من ذلكَ فنحنُ في هذهِ الحياةِ شركاءُ في المواردِ العامةِ، والمرافقِ العامةِ الحيويةِ، فالماءُ والكهرباءُ وغيرُها ليستْ ملكاً لي لوحدي أتصرفُ بها كيفما أشاءُ، إنما هي من الأمورِ المشاعةِ بينَ الناسِ التي ينبغي على الناسِ جميعاً استعمالهُا بقدرِ الحاجةِ، فضررُ الإسرافِ في ذلكَ كبيرٌ علَى الفردِ والمجتمعِ.
ومِنَ الواجبِ علينَا جميعاً: أنْ نتعاونَ لِمعالجةِ هذَا الضَّررِ، ومِنْ سُبلِ معالجةِ الإسرافِ: الالتزامُ بِمَا جاءَ فِي كتابِ اللهِ وسنَّةِ رسولِهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- من تعاليمٍ تدعو إلى تركِ الإسرافِ والتبذيرِ.
أقولُ قولِي هذَا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُمْ...
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَه لاَ شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى سيِّدِنَا محمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلَمُوا أنَّ الإسرافَ سلوكٌ مذمومٌ، وطريقةٌ ممقوتةٌ، ونهجٌ أرعنٌ، يبدِّدُ الأموالَ والثَّرواتِ، ويمحق البركة في الرزق، فاحذرُوهُ -يا عبادَ اللهِ-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ، وَثَلاثٌ مُنَجِّيَاتٍ... وَأَمَّا الْمُنَجِّيَاتُ، فَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ" [الطبراني].
وكانَ منْ دعاءِ النَّبيِّ –صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى" [رواه النسائي] والقصدُ هوَ: الوسَطُ المعتدِلُ، وهوَ خلافُ الإفراطِ.
ثمَّ إياكُم ورميُ النعمِ، فمنْ فاضَ عندَهُ شيءٌ من طعامٍ وملابسَ ونحوهَا فليبحثْ عمنْ هو بحاجتِها، أو يحملْها لمقرِّ فائضِ الولائمِ، وإنْ كانَ طعاماً فليغلفْهُ بطريقةٍ سليمةٍ، ويضعْهُ في ثلاجةِ المسجدِ إنْ وُجدتْ، يلتقطْهُ بعضُ السيارةِ.
نسألُ اللهَ أنْ يجعلَنا من المتعاونينَ على البرِّ والتقوى.
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رسولِ اللهِ، قالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].