البحث

عبارات مقترحة:

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

فريضة الحج تربية

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الحج
عناصر الخطبة
  1. الأيام الفاضلة والموسم المبارك .
  2. تتعد مَواسِم الخيراتِ عَلَى العِباد .
  3. الحج أحد أركان الإسلام العظام .
  4. أعظم حِكَم الحجِّ وغاياته .
  5. علاقة الحج بسلوك العباد .
  6. الحج عبادة فريدة تحقق المساواة الشاملة .
  7. تنوع منافع فريضة الحج وكثرتها .
  8. الحج والذنوب. .

اقتباس

الحج حدث فريد لا نظير له في العالم، تأتي ملايين من المسلمين من كل بقاع الأرض، وفودًا إلى الله في مقدساته، ليجتمعوا في مكة والمدينة المنورة وعلى صعيد عرفات، وذلك مؤتمر جامع للأمة الإسلامية يسوده الوئام والشعور الحقيقي بالوحدة والأخوة الإسلامية، فهذا هو المغزى والمكسب الحقيقي للحج إلى جانب أدائه كفريضة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل البيت العتيق مثابة للناس وأمناً، وأكرمه بالنسبة إلى نفسه تشريفاً وتحصيناً ومناً، فرض علينا حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الظمآن،  جعله -سبحانه- علامة تواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، واختار من بين خلقه سماعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا موقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعد مغفرته، جعله تعالى للإسلام علَماً، وللعائذين حرماً، فرض حجه، وأوجب حقه، وكتب علينا وفادته. والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وسيد الأمة محمد بن عبد الله ورسوله وصفيه وخليله.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله تعالى جعل الأوقات والشهور تتكرر على العباد لتقوم وظائف الطاعات، وتنشط النفوس على الخيرات، فكلما مضت مواسم الخير أعقبتها مواسم أخرى، ولما انتهى شهر الصيام، أعقبه الله بشهور الحج إلى بيته الحرام، وكما أن من صام رمضان وقامه غُفرت له جميع الذنوب والآثام، فمن حج البيت أو اعتمر غفرت ذنوبه فضلاً من الملك العلام، فما يمضي على المؤمن وقت من الأوقات، إلا ولله عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فإذا قام بها ووفاها كان من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات الذين أعدّ الله لهم الخيرات والقصور العاليات، نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنّه وفضله.

عباد الله: اختص الله تعالى عشر ذي الحجة وجعل فيها من الأجر والقوة ما ليس في غيرها، فعَشْر ذي الحجَّة هي من أفضل الأيام عند الله تعالى، وللعمل الصالح فيها مزيَّةٌ عن غيرها من الأيام، فعشر ذي الحجَّة؛ هي الأيام الفاضلة والموسم المبارك والأوقات الثمينة، والعاقل الحصيف يدرك أن المواسم قلَّما تتكرَّر، وجزما لا تعوض، وأنَّ للموسم فرصته التي قد تفوت على البطَّالين وأهل الكسل.

أرأيتم يا عباد الله لو أن صاحب محلٍّ تجاريٍّ يبيع الملابس الجديدة، وإذا قَرُبَ العيد أغلق محلَّه وتفرَّغ للبِرِّ والسَّفر، ماذا سيقول عنه الناس؟! ولو أنَّ صاحب مكتبة أدوات مدرسية يغلق متجره قُبَيْل ابتداء العام الدراسي بأيام، ولا يعود إلى افتتاحه إلا بعد بدء الدراسة بأسابيع، بماذا سيصفه الناس؟! وهل مثل هذا أَهْلٌ للتجارة والمكاسب في عرف التجَّار؟ ومثله لو أن صاحب مطعم لا يفتح مطعمه إلا وقت العصر ويغلقه قبل الليل، وقِسْ على ذلك سائر المِهَن والتخصُّصات؛ فلكلِّ بضاعةٍ موسمٌ لا يفوت؛ بل إن غالب التجار إنما يستفيد ويربح من أيام المواسم؛ ينتظر مواسمه بفارغ الصبر وقوة التحري؛ يعلق عليها آماله.

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي  -صلى الله عليه وسلم-: "مَا الْعَمَلُ فِي أيَّامٍ أفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ" قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ؟ قَالَ: "وَلا الْجِهَادُ، إلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ" [البخاري (969)].

عباد الله: إن مَواسِم الخيراتِ عَلَى العِباد تترَى، فَما أن تنقَضِيَ شعيرة إلاَّ وتتَراءَى لهم أخرَى، وها هِيَ قلوبُ العبادِ أمَّت بيتَ الله العَتيق ملبِّيةً دعوةَ الخليلِ -عليه السلام-: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27]، بَيتٌ جعَلَه اللهُ مَثَابَةً للنّاسِ وأَمنًا، حَولَه تُرتَجى مِنَ الكريمِ الرَّحماتُ والعطايَا، حرمٌ مبارَكٌ فيه خَيرَاتٌ وَآياتٌ ظاهِراتٌ، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97]، حَجُّه مِن عِمادِ الإسلام، قال -عز وجلّ-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97].

وجاءَ الشَّرعُ بالأَمرِ بِبلوغِ رِحابِه لأدَاءِ فريضةِ الدِّينِ، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاةُ والسلام-: "يا أيّها الناس، قد فرَض الله عليكُم الحجَّ فحُجّوا" [مسلِم (1337)]، وفي الحج بذلٌ وعَطاء وعَناء وفيه في المقابل أجر وثوابٌ ووفاء، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- سئِل النبيُّ: أيُّ العمَلِ أفضَل؟ قال: "إِيمانٌ باللهِ ورَسولِه"، قيل: ثمّ ماذَا؟ قالَ: "الجهادُ في سبيلِ الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حجٌّ مبرور" [البخاري (26) ومسلم (85)].

عباد الله: والحج أحد أركان الإسلام، شرعه الله تعالى وأوجبه لما فيه من خير العباد ومصلحتهم، ومَنْ تأمَّل في شعائر الحجِّ وحِكَمه التي يشتمل عليها رأى الحِكَم الباهرة، والعِظات البالغة، والمقاصد النافعة للفرد والمجتمع.

الحج يوثّق العلاقة بين الحاج وبين رب العزة؛ فحينما يؤدي الحاج شعائر الحج يستشعر أنه في معية الله في بيته، في هذه الأثناء تمحى له سجلات سيئاته، وتُرفع عنه أوزاره، وبطبيعة الحال لو أن إنسانًا أكرم آخر، فإن الذي وقع عليه الكرم يحاول أن يتقرب إلى من أكرمه ليزيد في كرمه، فما بالك إذا كان هذا الكرم من رب العباد -جل في علاه-، لذا فإن المسلم الصادق في حجه تراه بعد الحج أصبح شخصًا جديدًا في تصرفاته مع الآخرين في معاملاته؛ لأنه يستشعر بعظم ما مَنَّ الله عليه من فضل، وما خصه من إحسان، لا يريد أن يضيعه.

إنك قد تتساءل: لماذا يتجرد الحجاج من زينة الحياة الدنيا؟ ذلك حينما يرى الحاج جموع الحجيج يؤدون مناسك الحج متكاتفين بعضهم مع بعض، فإنه يتذكر موقف الحشر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ومن ثم فإنه يعمد إلى أن يعد العدة لهذا اليوم فهو اليوم في وقت السعة، ولربما استطاع أن يستدرك معاصيه في الدنيا فأنى له ذلك في الآخرة خاصة وأن الجميع يقف حفاة عراة ليكون هذا اليوم أشبه بيوم الحشر.

ولاستفتاح سورة الحج بالحديث عن القيامة أكبر دليل يكشف هذه الحكمة البالغة، قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1، 2].

وهذا من أعظم حِكَم الحجِّ وغاياته التي تظهر للمتأمِّل: تذكُّر الدَّار الآخِرة، فالحاجُّ يغادر أوطانه التي أَلِفَها ونشأ في ربوعها، وكذا الميِّت إذا انقضى أجله غادر هذه الدنيا، والميِّت يجرَّد من ثيابه، وكذا الحاجُّ يتجرَّد من المَخِيط طاعةً لله تعالى، والميِّت يغسَّل بعد وفاته، وكذا الحاجُّ يتنظَّف ويغتسل عند ميقاته، والميِّت يكفَّن في لفائفَ بيضاء هي لباسه في دار البرزخ، والحاج يلبس رداءً وإزارًا أبيضَيْن لمناسكه، وفي صعيد عرفات والمِشْعر الحرام يجتمع الحجيج، وفي يوم القيامة يُبعَث الناس ويُساقون إلى الموقِف: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6]، إلى غير ذلك من الحِكَم والمقاصد والعِبر التي تَعِظ وتذكِّر العباد.

عباد الله: والحج له علاقة قوية بسلوك العبد؛ ذلك أن الحاج يعلم علم اليقين أنه حتى يصح منه الحج عليه أن يترك مساوئ الأخلاق، فهو يُعين على الصبر والتواضع واللين والامتناع عن الكذب وحسن الخلق والكرم، والتعاون والعمل الجماعي المنظم، وترك الخصومات والغيبة والنميمة، ويتعود الحاج على هجر الرفث والذي يطلق على كل كلام فيه لغو أو همز أو لمز، ويجتنب أيضًا الفسوق وهو اسم لكل معصية تُرتكب قد نهى عنها رب العزة -سبحانه وتعالى0، ويهجر الجدال وهو كثرة المراء والفجور في الخصومة.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" [البخاري(1521)]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أمُّهُ" [مسلم(1350)].

عباد الله: إن فريضة الحج الفرصة السانحة العالمية ليتعارف الإنسان بأخيه الإنسان، واختلاطهم ببعض؛ ذلك لأننا مهما بذلنا من جهد فإننا لن نتمكن من حشد هذا الكمّ الهائل الضخم من شتى دول العالم على اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم وتوجهاتهم إلا أثناء فترة الحج، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].

ففي الحجِّ يجتمع المسلمون على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم، وتنوُّع بلدانهم ولغاتهم، فتتوحَّد وجهاتهم وأفعالهم في زمانٍ واحد ومكان محدَّد، لا يتميَّز فيه قومٌ عن قومٍ، ولا لون عن لون، والخطاب للجميع دون استثناء: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: 199]، فتلتقي القلوب، وتتقارب الأجساد، وتزداد المحبَّة، ويوجد الائتلاف، ولو استُغِلَّ هذا الجَمْع في تحقيق المقاصد العظيمة من مشروعية الحجِّ؛ لرأى المسلمون عجبًا.

فليس من المفترض من كل جماعة من أبناء الأمة الإسلامية أن تظل منغلقة على نفسها، وإنما المفترض أن يتعارف أصحاب المهن واللغات والثقافات والعادات المختلفة بعضهم على بعض وصولاً إلى انتشار كل جديد ومثمر وبنّاء بين الأمة بأكملها.

وحيث ينبغي ذلك، فلن يجد المسلمون مكانًا أفضل من الذي تؤدى فيه شعائر الحج لحل ما بينهم من خلافات، ونبذ ما بينهم من فُرقة أرهقت الأمة لسنوات طوال، وكانت سببًا في تمكن أعدائها منها.

نسأل الله تعالى أن يحملنا إلى بلده الحرام حجاجًا ومعتمرين، وأن يتابع لنا بين الحج والعمرة، إنه جواد كريم وهو حسبنا ونعم الوكيل، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله مُعزّ من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، فتح أبواب الخيرات لمن أراد رضاه، وأغلق باب السوء عمن أقبل عليه وتولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا إله سواه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم عليه ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فاتقوا الله -أيها الناس- وأخلصوا له العمل، واحرصوا على طهارة قلوبكم، ووحدوا صفوفكم، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يتكبر أحد على أحد، واعلموا أن الحج عبادة فريدة تحقق المساواة الشاملة بكل معانيها، فالملك والرئيس والخادم وما بينهما يقف كلهم أمام الله -عز وجل- في رداء واحد وثياب واحدة ومكان واحد لممارسة شعائر واحدة، الكل هنا سواسية قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، فالعبرة إذًا بالتقوى وليس بغيرها من منصب أو جاه أو ما ماثل ذلك، وبالتالي فالتساوي في الظاهر ينبغي أن يجر إلى التساوي في الباطن، ويعيش المسلمون بهذه النفسية العالية الكريمة، وتستقر في قلوبهم، ومن اقتصر في تساويه بالآخرين في الظاهر فقط، وظن في قلبه أنه أكبر أو أفضل فإن الله عليم خبير، عليم بما في النوايا، خبير بصدق الأعمال.

عباد الله: شعيرة الحج لا يقتصر نفعها على الدار الآخرة، أو الدينية؛ بل منافعها متعددة تشمل المنافع الدينية والمنافع الدنيوية كالتجارة وغيرها، قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) [الحج: 28]، أي: لينالوا ببيت الله منافع دينية، من العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية، من التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية؛ لأن الناس حينما يجتمعون ويتعارفون يتعاونون فيما بينهم في تبادل السلع يحققون السوق المشتركة التي يكون لها أثرها البناء في تعاون المجتمع الإسلامي في شتى بقاع الأرض.

قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: 198]، فإنه -سبحانه- لما أمر تعالى بالتقوى، أخبر أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره، ليس فيه حرج إذا لم يشغِل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالاً منسوبًا إلى فضل الله، لا منسوبًا إلى حذق العبد، والوقوف مع السبب، ونسيان المسبب، فهذا هو الحرج بعينه.

أيها الأخوة: الحج سر من أسرار الله تعالى القوية في استئصال الذنوب، ودفع مسبق لشراء سلعة الله  الغالية، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي  -صلى الله عليه وسلم-: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ" [البخاري (1773) ومسلم(1374)].

إن فريضة الحج وموسمه غنيان بأيام كلها طهر ونقاء، وبركة وصفاء، ولو لم يكن فيه إلا اليوم العظيم؛ يوم المباهاة، يوم الكرم، يوم العطاء، يوم العتق من النار؛ إنه يوم الوقوف بعرفة، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي  -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ يَوْمٍ أكْثَرَ مِنْ أنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أرَادَ هَؤُلاءِ؟" [مسلم(1348)].

عباد الله: الحج حدث فريد لا نظير له في العالم، تأتي ملايين من المسلمين من كل بقاع الأرض، وفودًا إلى الله في مقدساته، ليجتمعوا في مكة والمدينة المنورة وعلى صعيد عرفات، وذلك مؤتمر جامع للأمة الإسلامية يسوده الوئام والشعور الحقيقي بالوحدة والأخوة الإسلامية، فهذا هو المغزى والمكسب الحقيقي للحج إلى جانب أدائه كفريضة تمثل الركن الخامس في الإسلام.

إذا دخلت أشهر الحجّ فلن تسمَع في الكون إلاّ ذلك النِّداء العظيم الّذي رفع به سيّدنا إبراهيم -عليه السّلام- فصار صوته يبلغ إلينا على مرِّ الشّهور وعلى كل الدهور، فإذا اصغت القلوبُ المؤمنةُ إلى ذلك الصَّوت، لبَّتْ ولبِستْ ثيابَ الإحرام وقطعت تلك المسافات؛ لأنّها تخشى أن يقطع هادمُ اللّذّات بينها وبين تلبيةْ النّداء.

الحجّ جهاد الضعيف والمرأة، فهو جهادٌ وبذلٌ ومرابطة في ميدان الأجر، فعن أمّ المؤمنين السيّدة عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، ألاَ نغزوا ونجاهدْ معكم؟ فقال: "لا، ولكن أحسنُ الجهاد وأكملُه حجٌّ مبرورٌ"، فقالت عائشة: فلا أدع الحجّ بعد إذ سمعتُ هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. [البخاري (1861)].

فبُشْرى لحجّاج الله الحرام كلّما أهلّوا وكبّروا, بُشرى بالرحمة والجِنان، والعفو والغفران، فقد ثبت من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ"[صحيح الجامع (5569)].

إنّه الحديث عن وفود الله تعالى وزوّاره الّذين نزلوا بساحته، فلمّا كانوا وفدَ الله وكانوا أضيافاً في ساحة الله، فهم في ضمان الله وفي حِرْز منه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثَةٌ فِي ضَمَانِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَرَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَرَجُلٌ خَرَجَ حَاجًّا" [صحيح الجامع (3051)].

فيا مُريد الجنّة، ويا عاشق الحور، يا قاصد القصور، لا تخف من الفقر، ولا تقنط من رحمة الله، وتابع بين الحج والعمرة تُكفى همك ويغفر ذنبك، ويوسع الله عليك ويغنيك، وتأمل معي ما صح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكثير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا في الجنة". [الترمذي (810) وصححه الألباني].

فهنيئاً للحجّاج كلّما لبّوا وكبّروا، عن سهل بن سعد الساعدي، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مُلَبٍّ يلبّي، إلا لبّى ما عن يمينه وشماله، من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض، من هاهنا وهاهنا" [صحيح الجامع (5770)].

فيا حجاج بيت الله الحرام: بُشراكم وأنتم تسعون بين الصفا والمروة، وشريط الذِّكريات يمرّ عليكم، هنا هاجر، وهنا إسماعيل، وهنا مرّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-, الحجُّ رحلة لها بداية وليس لها نهاية، والعاقل من يستغل موسمه ويغتنم خيره ويكتسب فضله.

والعمرة لها نصيبها في الذكر والفضل، وخصوصا في رمضان؛ فمن عظيم أجرها وقوة أدائها في رمضان، ما ورد من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-ما قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سنان الأنصارية -رضي الله عنها-: "مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ"؟ قالتْ: أبُو فُلانٍ، تَعْنِي زَوْجَهَا، كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ حَجَّ عَلَى أحَدِهِمَا، وَالآخَرُ يَسْقِي أرْضاً لَنَا. قال: "فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أوْ حَجَّةً مَعِي" [البخاري(1863)].

فاحرصوا -أيها الإخوة- على هذه الأجور العظيمة، ولا تفرطوا في مواسم الخير والبر، نسأل الله التوفيق للخير، والنجاة من الشر، وأن يحملنا إلى بلده الحرام حجاجًا ومعتمرين، وألا يحرمنا من حج بيته، ولا من زيارة حرمه.

اللهم تابع لنا بين الحج والعمرة، ولا تجعلنا من المحرومين، اللهم يا حي يا قيوم، يا عظيم المن، يا كريم العطايا، يا واحد يا أحد، يا ذا الجلال والإكرام نسألك صحة في إيمان، وعافية في حسن خُلق، ونعوذ بك اللهم من أن نَضِل أو نُضل، أو نَزِل أو نُزل، أو أن نجهل أو يُجهل علينا.