الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
عليكم بخشية الله والبحث عن أسبابها, فالعلم والتعلم ودراسة القرآن ومجالس الذكر تنزل الرحمة وتغشى السكينة وتحف الملائكة ويذكر الله أهلها فيمن عنده, وهم قوم لا يشقى بهم جليسهم, فربما رحم معهم من جلس إليهم وإن كان مذنبا, وربما بكى فيهم باك من خشية الله فوهب أهل المجلس كلهم له وهي رياض الجنة, وعليكم بصحبة الأخيار ومجالستهم فهم يذكرونكم بالغفار ويجعلونكم تخشونه وتخافون عقابه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله فطر القلوب على محبته وخشيته والإنابة إليه, أحمده -سبحانه- وأشكره على نعمه العظام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته, جل عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير, (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11], وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير الورى وأفضل الأنام, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام, وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي دليل الخشية وطريق المراقبة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون: إن الله -سبحانه وتعالى- فطر الناس موحدين وخلقهم لعبادته, وأرسل لأمة محمد رسولا مبشراً ومنذراً وناصحاً ومحذرا، فنصح الناس, وكان سببا في هدايتهم وجعله الله رحمة للعالمين به يهتدي الناس ويقتدون (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21],
فاتباع النبي واجب وهو هدى, فنتبعه ونهتدي به, فلقد كان أخشى الناس وأتقاهم لربه فكان يخاف الله ويخشاه حق الخشية, فإن رأى ريحا خاف وقام وقعد, وسأل الله خيرها وإستعاذ من شرها, وإن قام الليل كان خائف يبكي ويردد (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118].
أيها المسلمون: إن خشية الله عبادة لله لا يجوز صرفها لغير الله (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة: 150], وعمل من أعمال القلوب به ينعم العبد ويأمن؛ لأن خشيته لله وخوفه نجاة وأمن وراحة وسعادة واطمئنان.
قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21], قال القرطبي -رحمه الله-: "حث على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة، أي متشققة من خشية الله. والخاشع: الذليل. والمتصدع: المتشقق. وقيل: خاشعا لله بما كلفه من طاعته. متصدعا من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه".
أيها الإخوة: الخشية تبعث على التقوى والصلاح والمراقبة لله في السر والعلن والانقياد والخوف من الجبار (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19]، وقال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 28], قال القرطبي: "العلماء الذين يخافون قدرة الله، فمن علم أنه -عز وجل- قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) قال: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير. وقال الربيع بن أنس: "من لم يخش الله تعالى فليس بعالم". وقال مجاهد: "إنما العالم من خشى الله -عز وجل-. وعن ابن مسعود: "كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "سبعة يظلهم الله: ... ورجل ذكر الله ففاضت عيناه". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم". وعن أبي أمامة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله".
عن أبي رجاء قال: "كان هذا المكان من ابن عباس مجرى الدموع، مثل الشراك البالي من الدموع". وعن شقيق بن سلمة، قال: "دخلنا على خباب نعوده، فقال: في هذا التابوت ثمانون ألفا، ما شددتها بخيط ولا منعتها من سائل، فقالوا: علام تبكي؟ قال: "مضى أصحابي، ولم تنقصهم الدنيا شيئا، وبقينا حتى ما نجد لها موضعا إلا التراب", وعن ابن أبي مليكة، قال: "رأيت عبد الله بن عمرو وهو يبكي فنظرت إليه فقال: أتعجب أبكي من خشية الله، فإن لم تبكوا حتى يقول أحدكم: ايه، ايه، إن هذا القمر ليبكي من خشية الله تعالى".
وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: سمعت كعبا، يقول: "لأن أبكي من خشية الله تعالى حتى تسيل دموعي على وجنتي؛ أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبا، والذي نفس كعب بيده، ما من عبد مسلم يبكي من خشية الله حتى تقطر قطرة من دموعه على الأرض فتمسه النار أبدا، حتى يعود قطر السماء الذي وقع إلى الأرض من حيث جاء ولن يعود أبدا".
أيها المتقون: إن البكاء من خشية الله موكل بعيون الخائفين كلما همت بفتح طرف لتنظر إلى طرف من طرف الدنيا طرفته دمعة, قال -عليه السلام-: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرس في سبيل الله". قال الحسن: "لو بكى عبد من خشية الله لرحم من حوله ولو كانوا عشرين ألفا", وقيل لثابت البناني: "عالج عينيك ولا تبك", فقال: "أي خير في عين لا تبكي".
يا عبد السوء: كم تعصي ونستر، كم تكسر باب نهي ونجبر، كم نستقطر من عينيك دموع الخشية ولا يقطر، كم نطلب وصلك بالطاعة، وأنت تفرّ وتهجر، كم لي عليك من النعم، وأنت بعد لا تشكر, خدعتك الدنيا وأعمال الهوى وأنت لا تسمع ولا تبصر, سخّرت لك الأكوان وأنت تطغى وتكفر، وتطلب الإقامة في الدنيا وهي فنظرة لمن يعبر.
عباد الله: عليكم بخشية الله والبحث عن أسبابها, فالعلم والتعلم ودراسة القرآن ومجالس الذكر تنزل الرحمة وتغشى السكينة وتحف الملائكة ويذكر الله أهلها فيمن عنده, وهم قوم لا يشقى بهم جليسهم, فربما رحم معهم من جلس إليهم وإن كان مذنبا, وربما بكى فيهم باك من خشية الله فوهب أهل المجلس كلهم له وهي رياض الجنة, وعليكم بصحبة الأخيار ومجالستهم فهم يذكرونكم بالغفار ويجعلونكم تخشونه وتخافون عقابه.
إخواني: ما هذه السِّنة وأنتم منتبهون؟ وما هذه الحيرة وأنتم تنظرون؟ وما هذه الغفلة وأنتم حاضرون؟ وما هذه السكرة وأنتم صاحون؟ وما هذا السكون وأنتم مطالبون؟ وما هذه الإقامة وأنتم راحلون؟ أما آن لهل الرّقدة أن يستيقظوا؟ أما حان لأبناء الغفلة أن يتعظوا؟.
واعلم أن الناس كلهم في هذه الدنيا على سفر، فاعمل لنفسك ما يخلصها يوم البعث من سقر.