الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبد الله الواكد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فاتقوا الله القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: إن الحج من أفضل العبادات التي شرعها الله -عز وجل-، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله -عز وجل- على عباده، ولكنه سبحانه وتعالى جعله مقرونا بالاستطاعة، قال تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران: 97].
صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
وقال عليه الصلاة والسلام: "من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه".
إن الحج -عباد الله- عبادة بدنية، يطلب من العبد فعلها بنفسه إن استطاع ذلك، وإن لم يستطع، فقد جاءت السنة بجواز الإستنابة فيه، وذلك في الفريضة، وفي حال اليأس من فعلها، وذلك لما ورد في البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع.
وفي حديث آخر: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم"، قال: "اقضوا حق الله، فالله أحق بالوفاء".
ولا فرق بين ما كان أصلا في الشريعة، وما أوجبه الإنسان على نفسه بنذر أو نحوه، وهذان الحديثان يدوران حول حجة الفريضة، وحجة النذر، وهو ما أوجبه العبد على نفسه بنذره.
وهنا انتبهوا -أيها المسلمون- لا بأس بالإنابة في الحج في حجة الفريضة وحجة النذر فقط، وأما حج التطوع وهو الزائد عن الفريضة فلا ينبغي الإنابة فيه، فجدير بمن كان قادرا على الحج بنفسه أن يحج، ولا يصح له أن يوكل من يحج عنه؛ لأن شرط الاستطاعة متحقق عنده.
ولقد تساهل كثير من الناس في التوكيل في حج التطوع، وخصوصا في زماننا هذا، حتى صارت هذه الأيام موسما لتعاطي الحجج، فإن من يستطيع الحج تطوعا عليه أن يحج بنفسه، وقد منع الإمام أحمد -رحمه الله- في إحدى روايتين عنه، من توكيل القادر شخصا آخر يحج عنه تطوعا.
ولا يصلح التساهل في ذلك -أيها المسلمون- فإما أن يحج تطوعا بنفسه، أو يبذل المال الذي يريد الحج به لمن لم يحج.
يا أخي: اعط هذا المال لأخيك المسلم الذي لم يحج فيكون لك مثل ماله من الأجر والثواب، دون أن ينقص ذلك من أجره شيئا.
ولقد رأيت الناس -أيها الأحبة- تفاوتوا في هذا الأمر تفاوتا عجيبا، فمنهم من هو كثير المال صحيح البدن، ومضى به الكبر حتى بلغ العتي، ومع ذلك لم يحج، حجة الفريضة لم يحجها، أليست هذه مشكلة ومصيبة ومعضلة؟ ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعجلوا الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له".
وفي مقابل ذلك تماما شخص يحج كل سنة، ويذهب كل عام، ولم يحسب ولم يحتسب لمشقة الناس والإزدحام، وضيق المشاعر، أي حساب واحتساب، نحن لا نقول في حجه شيء؛ لأن الحج من أفضل الأعمال، ولكن الاحتساب في التوسيع على المسلمين طالما أنه حج حجة الفريضة، وحج تطوعا مرة أو مرتين، وهنا يكون توسيعه على المسلمين من ناحيتين:
الأولى: أنه أفسح المكان لغيره، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) [المجادلة: 11] فإن كان هذا في حق آداب المجالس عموما، فمن باب أولى أن يكون في آداب الأماكن المزدحمة التي يترتب عليها أداء الفرائض.
والناحية الثانية: أنه وسع على المسلمين بدفع ذلك المال الذي يزمع الحج به إلى من يحج به فريضته، أو إلى الفقراء واليتامى والمساكين، سيما وأنهم بأمس الحاجة إلى المال في أيام عشر ذي الحجة، ولمستلزمات العيد والإضحية؛ لأن القربات المتعدي نفعها للآخرين خير من القربات اللازمة، وذلك في غير الفرائض.
الحج -أيها المسلمون- عبادة، ركن من أركان الإسلام، لا يصرف ذلك إلى أمر دنيوي، ولا تكسب مادي؛ لأن هناك من يأخذون هذه الحجج، ويبحثون عمن ينيبهم، وذلك كله من أجل المال فقط، فهذا حرام عليهم؛ لأن الحج ليس سلعة وليس عملا دنيويا، كبناء بيت، أو إقامة جدار، يقصد به التكسب والتجارة، بل إن من هؤلاء من يكاسر على الحجة، ويتشكى من قلة المال المدفوع، حتى صارت العبادة حرفة وصنعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد حفظ الإمام مالك -رحمه الله- عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: "لا يشترط على النسك من جهة المال".
وقد صرح الحنابلة -رحمهم الله- بأن تأجير الرجل الرجل ليحج عنه غير صحيح.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "من حج ليأخذ المال، فليس له في الآخرة من خلاق" ا. هـ.
لكنه إذا أخذ الحجة، ومقصوده نفع أخيه، وذلك بالحج عنه، وليحصل له الدعاء والذكر والمنافع الأخرى في موسم الحج، وكانت نيته سليمة، فلا بأس في ذلك، والمال الذي يدفعه المستنيب صاحب الحجه يكون كله للوكيل، إلا أن يشترط عليه صاحب الحجة أن يرد له ما بقي من المال، وتكون العمرة والحج لصاحب الحجة لثبوت ذلك في أعراف الناس، إلا أن يشترط الوكيل أن تكون العمرة له، ويقبل الموكل ذلك، ولا يجوز للوكيل أن ينيب غيره إلا برضى صاحب الحجة، وما زاد عن الحجة المتفق عليها من دعاء وطواف وصلاة، وتطوع خارج النسك فهو للوكيل.
وعلى الوكيل أن يقول عند الإهلال بالنسك عند الإحرام: "لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج عن فلان بن فلان" لمن كانت له الحجة.
وعند الحج: "لبيك حجا عن فلان بن فلان".
وإن نسي اسمه نوى ذلك بقلبه.
وينبغي للوكيل أن يتقي الله، وأن يجتهد في إكمال النسك الموكلة إليه، وأن يتحرى الإخلاص في أداء تلك الأمانة.
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إخوة الإسلام: اشتهر عند كثير من الناس، وخصوصا في مجتمعاتنا أن يكون من حق الوالدة، أو الوالد على أولاده إذا مات أن يحجوا عنه، وهو قد أدى الفريضة، وربما حج تطوعا أكثر من مرة، وهذا العمل ليس عليه دليل إنما هو اجتهاد في غير محله، ولو دفعت هذه الأموال لمن لم يحج ليحج وينوي بذلك الأجر لوالده أو والدته لأدرك فضائل شتى، وأجورا كثيرة، ولو دفع ذلك المال لأولي القربى الضعفة، واليتامى والمساكين، ونوى أجر ذلك لوالديه؛ لكان في ذلك خير كثير، وبر عظيم.
كذلكم فإن بيت الله الحرام يمر بمشروع توسعة ضخمة، وينبغي على من حج أن يستشعر إفساح المجال لغيره، وعدم التضييق على المسلمين، فسبحان الله، لكأن سبل الخير وأبوابه أوصدت إلا من خلال هذا الباب، فما أكثر الفقراء والمساكين التي توسع عليهم قيمة هذه الحجة شهر ذي الحجة كاملا بإضحيته، وملابس العيد، ومستلزمات فرحته، ودواعي الكفاف بقدومه.
فنسأل الله أن يوفق المسلمين لما يحبه ويرضاه.
هذا، وصلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].