الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح الدحيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحج |
أيها المسلمون: إن هذه البهيمة التي يأكلها الإنسان قد سخرها الله له، وهي مطيعة لله -تعالى- لا تعصيه، وهي مسبحةٌ له قانتةٌ: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) [الإسراء: 44]. بل ربما كانت البهيمة التي في يده أكثر منه ذكرا لله -تعالى-، وفي المسند عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: "رب بهيمة خيرٌ من راكبها، وأكثر منه ذكرًا". إنه لمشهدٌ عظيم وشيء عجيب أن ترى الكون كله بسماواته وأراضيه، وكواكبه ونجومه، وجباله وأشجاره، وحيواناته ونباته، أن تراه كله...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله -تعالى- وراقبوه، واشكروا نعمه وأطيعوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أخرج الإمام مسلم عن نبيشة الهذلي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-".
وأيام التشريق هي: اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر؛ من ذي الحجة.
وسميت بذلك؛ لأن الناس يشرقون فيها لحوم الأضاحي والهدي، أي: يقددونها وينشرونها للشمس.
"أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله -عز وجل–".
في الحديث سرٌ عجيب، وملخص جميل، وهو: أن الإنسان مرتبط بعبوديته لربه في كل حال من أحواله، وفي كل زمان من الأزمنة، فليس هناك وقت ينفك فيه المسلم عن عبوديته لربه.
فكما أنه يتعبد لله -تعالى- في الامتناع عن الأكل والشرب حال الصيام، فإنه في هذه الأيام يتعبد لله -تعالى- في الأكل والشرب لأمر الشارع له بذلك، إذ لو صام هذه الأيام لكان مأزورا غير مأجور، اللهم إلا من كان متمتعًا ولم يجد الهدي، ففي صيامه هذه الأيام خلاف مشهور بين أهل العلم.
أيها المسلمون: وفي الحديث إشارة أخرى: إلى أن الأكل والشرب في أيام الأعياد يستعان به على طاعة الله -تعالى-، لا على معصيته؛ لأن المأكول والمشروب من نعم الله.
ونعم الله تحتاج إلى شكر المنعم، وشكر الله يتنافى مع معصيته، بل يلزم في الشكر طاعة المنعم، قال ابن رجب -رحمه الله-: "وفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إنها أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله -عز وجل-".
إشارةٌ إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على الطاعات.
وقد أمر الله -تعالى- في كتابه بالأكل من الطيبات، والشكر له، فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله، وبدلها كفرًا وهو جدير أن يُسلبها؛ كما قيل:
إذا كنــت في نعمة فارعها | فإن المعاصي تزيل النعم |
وداوم عليها بشكر الإله | فشكر الإله يزيل النقم |
أيها المسلمون: إن هذه البهيمة التي يأكلها الإنسان قد سخرها الله له، وهي مطيعة لله -تعالى- لا تعصيه، وهي مسبحةٌ له قانتةٌ: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) [الإسراء: 44].
وإنها أيضًا تسجد لله؛ كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ) [الحـج: 18].
بل ربما كانت البهيمة التي في يده أكثر منه ذكرا لله -تعالى-، وفي المسند عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: "رب بهيمة خيرٌ من راكبها، وأكثر منه ذكرًا".
إنه لمشهدٌ عظيم وشيء عجيب أن ترى الكون كله بسماواته وأراضيه، وكواكبه ونجومه، وجباله وأشجاره، وحيواناته ونباته، أن تراه كله يسير في نسق واحد، وخطٍ مستقيم، وكلها تسبيحٌ لله، وتحميدٌ وتمجيد، وسجود وتعظيم، وإذا بالإنسان تجاه هذا الطريق على قسمين:
قسم يسير على الفطرة، يسير مع هذه الكواكب تسبيحًا وتمجيدًا وتحميدًا.
وقسمٌ آخر من الناس ارتضى لنفسه العناء والعذاب، فهو يسير في خطٍ معاكسٍ لجميع هذه المخلوقات، فهو الشاذ النشاز في هذا الكون، وغيره ممن أطاع الله هو الأصل: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)[الحـج: 18].
أي: ممن سار في الخط المعاكس، وعصى الرب -جل وعلا-؛ ولذلك حقت عليه الذلة والمهانة: (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)[الحـج: 18].
إذًا لا كرامة إلا بإكرام الله، ولا عزةَ إلا بعزة الله، وقد ذل وهان من دان لغير الدّيان، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية لا يفارق جباههم، إن الله أبى إلا أن يذل من عصاه".
قال بعض العلماء: قسم الله -تعالى- الخلائق ثلاثة أقسام:
فسمٌ خُلِقوا بعقلٍ بغير شهوةٍ، وهم: الملائكة.
وقسمٌ خلقوا بشهوةٍ بغير عقل، وهم: الدواب.
وقسمٌ خلقوا بشهوة وعقل، وهم: بنو آدم.
فمن غلب عقله على شهوته كان مع الملائكة، ومن غلب شهوته على عقله كان مع الدواب.
بل نقول: من تَغَلّب على شهوته وأطاع ربه، فإنه قد يرتقي إلى درجة تغبطه فيه الملائكة، ومن اتبع الشهوة، وضل وأضل نفسه، وغوى؛ فقد يصل به الحال إلى أن يكون أضل من الأنعام: (أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف: 179].
أيها المسلمون: أيام التشريق أيام أكلِ وشربٍ وذكر لله -عز وجل-.
اعلموا -أيها المسلمون-: أن نهاية وقت الذبح للأضاحي هو غروب شمس اليوم الثالث عشر على القول الأرجح.
ولا مانع من التوسع في الأكل والشرب ولا سيما اللحم؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وصفها بأنها أيام أكلٍ وشربٍ، ما لم يصل ذلك إلى حد الإسراف والتبذير أو التهاون بنعم الله - تعالى-، فينتقل الإنسان بهذا العمل من العبودية لله فيه إلى أخوة الشياطين: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) [الإسراء: 27].
أيام التشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله -عز وجل-، قال الأشرفي -رحمه الله-: "وعقب الأكل والشرب بذكر الله لئلا يستغرق العبد في حظوظ نفسه، وينسى في هذه الأيام حقوق الله".
أيها المسلمون: إن هذه الأيام أيام ذكرٍ لله -تعالى-، وذكر الله -تعالى- المأمور به في هذه الأيام أنواعٌ متعددةٌ؛ منها:
أولًا: ذكر الله -عز وجل- عقب الصلوات المكتوبة بالتكبير في دُبرها، وهو مشروع إلى آخر أيام التشريق عند جمهور العلماء.
ومن العلماء من يرى: أن التكبير أيام التشريق ليس مقيدًا بأدبار الصلوات، بل هو مطلق في سائر الأحوال؛ لأن الله -عز وجل- خص هذه الأيام بالذكر، فقال: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ)[البقرة: 203].
وهذا الأمر للحاج وغير الحاج، كما ذكر ذلك القرطبي -رحمه الله-.
وكذلك وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنها أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله -تعالى-.
ويتحقق ذلك واضحًا إذا كان التكبير في هذه الأيام تكبيرًا مطلقًا في كل الأوقات والأحوال الصالحة للذكر: أدبار الصلوات وفي المساجد والمنازل والطريق، وغير ذلك.
قال الشيخ عبد الله الصالح الفوزان: "وهذا قولٌ وجيه".
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، المقصود من كل مكان، يسأله من في السموات والأرض كل يومٍ هو في شأن، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأستغفره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادكم على النارِ لا تقوى، فاتقوا النار ولو بشق تمرة.
ومن ذكر الله المأمور به في هذه الأيام غير ما ذكر:
ثانيا: ذكره -تعالى- بالتسمية والتكبير عند ذبح الهدايا والأضاحي.
ثالثا: ذكر الله -عز وجل- على الأكل والشرب، فإن المشروع في الأكل والشرب أن يسمي الله في أوله ويحمده في آخره، وفي الحديث: "إن الله -عز وجل- يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها".
رابعا: ذكر الله -تعالى- عند رمي الجمار، وهذا يختص به أهل الموسم.
خامسًا: ذكر الله مطلقًا، فإنه يستحب الإكثار منه في أيام التشريق؛ كما يستحب في غيره، وقد استحب كثيرٌ من السلف كثرة الدعاء فيها، قال ابن رجب -رحمه الله-: "وفي الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنى، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها وذكر الله باقٍ، ولا ينقضي منه ولا يفرغ منه، بل هو مستمرٌ للمؤمنين في الدنيا والآخرة".
وفي الحديث: "لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله".
أيها المسلمون: الذاكر لله -تعالى- منشرح الصدر، مستنير القلب، مطمئن النفس، له شهودٌ في الدنيا يشهدون بذكره، ويعرف صوته في الملأ الأعلى لذكره، قال ابن مسعود –رضي الله عنه- : "إن الجبل ينادي الجبل: هل مر بك رجلٌ يذكر الله؟ فإن قال: نعم استبشر".
الله أكبر! حتى الجبال تفرح بذكر الله –تعالى-! وقال بعض السلف: "إن المسلم إذا مات بكى عليه مصلاه وموضع سجوده".
ولم لا يبكي عليه وقد فقد ذكرًا ودعاءً وصلاةً وسجودًا؟!
ويكفيك للذكر شرفًا قوله تعالى كما في الحديث القدسي: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه".
فالله -سبحانه- في علاه يذكر الذاكر له في الأرض.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.