المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
كم مِن الآيات المُفزعات، والعظات الزَّاجرات، والعِبر المتتابعات، والمنذرات المتعاقبات، تمُرُّ علينا في هذا الكون المترامي الأطراف من أرض وسماوات، لا يَخاف عندها قلب، ولا تدمع لها عين، ولا يحصل حينها توبة، ولا معها وبعدها إكثار مِن طاعة، وإقلاع عن معصية، وقد حذَّرَنا ربنا – جلَّ وعلا – أن نكون كالكافرين في الإعراض عن آياته الحادثة والمشاهدة,...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا يبقى إلا وجهه ولا يدوم إلا ملكه له الحكم واليه ترجعون.
قالَ الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: "ما مِنْ يومٍ ينشقُّ فجرُهُ، إلا وينادي: يا ابنَ آدمَ، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِكَ شهيدٌ، فتزوّدْ منّي، فإني إذا مضيتُ لا أعودُ إلى يومِ القيامةِ".
تزَودْ من التقوى فإنكَ لا تدري | إذا جنَّ ليلٌ هلْ تعيشَ إلى الفجر؟ |
فكمْ من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علةٍ | وكمْ من عليلٍ عاشَ حينًا من الدهرِ |
وكمْ من صغارٍ يرتجى طولَ عُمْرَهْم | وقدْ أُدْخِلَتْ أجسادَهُمْ ظُلمَة القبرِ |
وكمْ من عرُوسٍ زَينوها لِزَوجها | وقدْ قُبضَتْ أَرْواحَهُم ليلةَ القدرِ |
وكمْ من فتىَ أمسى وأصبحَ ضاحكًا | وقدْ نُسِجَتْ أكفَانَهْ وَهوَ لا يدري |
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسوله بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين, هدى الله به البشرية, وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية.
لمّا أراد الله جل جلاله | أن يخرج الدنيا من الظلماتِ |
أهداك ربك للورى يا سيدي | فيضاً من الأنوار والنفحاتِ |
الحق أنت وأنت إشراق الهُدَى | ولك الكتاب الخالد الصفحاتِ |
من يقصد الدنيا بغيرك يلقها | تيهاً من الأهوال والظلماتِ |
فيا رب صلِّ وسلم على هذا النبي العظيم وعلى آله وصحبه الغرّ الميامين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد: عباد الله: الشمس والقمر آيتان من آيات الله العظيمة الدالة على كمال قدرته وعظيم خلقه -سبحانه وتعالى-؛ ولذا نجد أن الله يذكرهما دائمًا في كتابه العزيز عند ذكر الآيات العظيمة الدالة على أنه الإله الحق المتفرد بالخلق، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: 37].
ولما حاجَّ إبراهيم -عليه السلام- النمرود ذكر له من خصائص الله التي لا ينازعه فيها أحد تسيير الشمس وتحريكها، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 258].
وإن اختلال نظام هاتين الآيتين من الدلائل العظيمة على قرب القيامة ونهاية هذا العالم، فطلوع الشمس من المغرب من علامات الساعة الكبرى التي لا ينفع بعدها صلاح أو عمل كما صح بذلك الخبر عن رسول الله، كما أن ذهاب الشمس والقمر دليل على قيام الساعة، قال تعالى: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) [القيامة: 7-10].
قال السعدي -رحمه الله-: "(وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ذهب نوره وسلطانه، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) وهما لم يجتمعا منذ خلقها الله تعالى، فيجمع الله بينهما يوم القيامة، ويخسف القمر، وتكور الشمس، ويقذفان في النار؛ ليرى العباد أنهما عبدان مسخران، وليرى من عبدهما أنهم كانوا كاذبين".
ومن الظواهر التي كثرت في هذا الزمان الكسوف والخسوف، والتفسير العلمي لهاتين الظاهرتين، حسي وشرعي، فالحسي هو أن الخسوف اختفاء القمر أو بعضه في أثناء مرور الأرض بينه وبين الشمس، أما الكسوف فهو اختفاء الشمس أو بعضها في أثناء مرور القمر بينها وبين الأرض.
وقد يسأل سائل: كيف يغطي القمر قرص الشمس، مع أنه أصغر منها بأربعمائة مرة؟ والجواب: أن الشمس أبعد عن الأرض من القمر بأربعمائة مرة، وهذا ما يجعلهما يظهران بالحجم نفسه، لذلك يمكن للقمر أن يحجب أشعة الشمس كليًّا إذا مر بينها وبين الأرض.
أما الشرعي لكسوف الشمس وخسوف القمر فهو ما بينه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بقوله: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده" (متفق عليه).
قال أهل التحقيق من أهل العلم: "ولا تعارض بين السبب الشرعي والسبب الحسي الذي يدركه أهل الفلك وهو حيلولة القمر بين الشمس وبين الأرض في كسوف الشمس، وحيلولة الأرض بين القمر وبين الشمس في خسوف القمر؛ لأن سبب الكسوف الحسي ليس من أمور الغيب وقد يدركه البشر، ولكن كل هذا إنما يكون بأمر الله -عز وجل- وبقضاء الله وقدره والله -عز وجل- يقضي ذلك من أجل أن يخوِّف العباد، وهذا هو السبب الشرعي، وهو أمر ليس للبشر الإحاطة به، والذي يجب على المؤمن هو العناية بالسبب الشرعي كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان السبب الحسي مهماً لأشار إليه -صلى الله عليه وسلم-.
لذا فكل الظواهر الطبيعية من زلازل وبراكين، وفيضانات وشهب، ونيازك، وكسوف الشمس وخسوف القمر تتعدى مفهوم الظاهرة الطبيعية عند المسلمين، لتصبح آية من آيات الله -سبحانه وتعالى- ينذر بهما عباده، فيسارعون إلى التوبة خوفًا من عذاب أليم، ورجاء في رحمة الله ومغفرته ونيل رضوانه، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم، فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفًا. قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا".
لذلك أخبرنا ربنا -سبحانه وتعالى- في القرآن في قصة نبيه نوح -عليه السلام- أن ابنه لم يؤمن به ولم يتفق معه، فماذا كانت النتيجة؟ ولماذا؟ (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود: 42، 43].
لقد كان نوح -عليه السلام- يرى الطوفان من أمر الله، فركب السفينة، ولكن ابنه رأى الطوفان أمرًا مناخيًا، وظاهرة من ظواهر الطبيعة، كما يزعم الماديون والعلمانيون، فهرع إلى الجبل، فكانت النتيجة أن نوحًا -عليه السلام- نجا لأنه آمن أن ذلك من أمر الله، وأن ابنه هلك وابتلعته أمواج الطوفان، لأنه آمن بالظاهرة الطبيعية وكفر بأمر الله –تعالى-.
معاشر المسلمين: إن في ظاهرة الكسوف والخسوف أمرًا ينبغي أن يلتفت إليه المؤمن، إذا كان غيره لا يلتفت إليه وهو التذكير بقيام الساعة، وانتهاء هذا العالم، فإن مما ثبت في القرآن الكريم أن هذا الكون الهائل سيأتي عليه يوم ينفرط فيه عقده، وينتثر نظامه، فإذا سماؤه قد انفطرت، وكواكبه قد انتثرت، وشمسه قد كورت، وجباله قد سيرت، وأرضه قد زلزلت، وأخرجت أثقالها، وبدلت الأرض غير الأرض والسموات، وبرز الخلق لله الواحد القهار.
كذلكم إن الشمس والقمر ليسا أبديين، بل هما ككل شيء في العالم يجريان إلى أجل مسمى معلوم عند الله، خفيٍّ مجهول عند الناس، ولكن المؤمن يوقن به ولا يغفل عنه، فإذا شاهد الكسوف والخسوف انتقل قلبه من اليوم إلى الغد، ومن الحاضر إلى المستقبل، وخصوصًا إذا تذكر قول الله: (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النحل: 77]، منبهًا على الارتباط بين حدوث هذا الأمر وارتكاب الناس للمعاصي.
عباد الله: كم مِن الآيات المُفزعات، والعظات الزَّاجرات، والعِبر المتتابعات، والمنذرات المتعاقبات، تمُرُّ علينا في هذا الكون المترامي الأطراف من أرض وسماوات، لا يَخاف عندها قلب، ولا تدمع لها عين، ولا يحصل حينها توبة، ولا معها وبعدها إكثار مِن طاعة، وإقلاع عن معصية، وقد حذَّرَنا ربنا – جلَّ وعلا – أن نكون كالكافرين في الإعراض عن آياته الحادثة والمشاهدة، فقال سبحانه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [يوسف: 105- 107].
ووجب على العباد وهم يرون هذه الآيات تترى في زمانهم حينا بعد حين أن يعودوا إلى الله بتوبة نصوح وعمل صالح ونية خالصة، مع العزم على إصلاح الأوضاع ورد المظالم وصفاء القلوب، وتوحيد الكلمة، وصيانة الدماء والأعراض، وتوجيه الطاقات والقدرات لتعمير الأرض، ونشر الإسلام وإرساء العدل، وتربية النفوس على القيم العظيمة، واللجوء إلى الله والتضرع بين يديه، وتذكر الآخرة والاستعداد لها، لذلك لما كسفت الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فزع وفزع معه المسلمون فزعاً شديداً.
وخرج -عليه الصلاة والسلام- مسرعاً إلى المصلى حتى أن رداءه سقط من عليه ولم يشعر به من شدة فزعه وخوفه وهول تلك الآية العظيمة، وعندما وصل المصلى نادى مناد بالناس "الصلاة جامعة"، فاجتمع الناس رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، فصلى بهم صلاة غريبة لغرابة واقعتها، والناس يصرخون ويبكون خوفاً من الله تعالى، ولقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الصلاة الجنة والنار ورأى أموراً جساماً، فرأى النار، فقال: ما رأيت منظراً أفظع منها -اللهم أجرنا من النار-، ثم بعد الصلاة خطب الناس خطبة بليغة وعظهم وذكرهم بربهم سبحانه.
وثبت في الصحيحين وغيرهما من عدة طرق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا يكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا الله حتى يكشف ما بكم».
وفي حديث آخر عند البخاري: «هذه الآيات التي يرسلها الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوِّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره». وفي حديث آخر: «فافزعوا إلى الصلاة».
وفي حديث آخر: «فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا». وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: لقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعتاقة في كسوف الشمس، فهذه سبعة أشياء أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بها عند الكسوف وكلها ثابتة وهي: الصلاة، والدعاء، والاستغفار، والتكبير، والذكر، والصدقة، والعتق، ولو نظرنا إلى الاستغفار وحده، لعلمنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما يرشدنا إلى التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي التي جُلبت هذا التخويف الإلهي، ومعلوم لدى الجميع أن الاستغفار مشروع في كل حين، ولكن في التأكيد عليه هنا وفي هذا الوقت دلالة واضحة وظاهرة على أن ذنوب العباد هي التي جلبت هذا التخويف.
ومن الأدلة كذلك حديث ابن عمرو في صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكسوف: "فجعل ينفخ في آخر سجوده من الركعة الثانية، ويبكي ويقول: لم تعدني بهذا وأنا فيهم لم تعدني بهذا وأنا فيهم، ونحن نستغفرك" (رواه النسائي في السنن الكبرى، وصححه ابن خزيمة).
وفي رواية عند أحمد: "وَجَعَلَ يَنْفُخُ فِي الْأَرْضِ وَيَبْكِي وَهُوَ سَاجِدٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَجَعَلَ يَقُولُ رَبِّ لِمَ تُعَذِّبُهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ رَبِّ لِمَ تُعَذِّبُنَا وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ" يشير بأبي هو وأمي إلى قول الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانَ فِيهِمْ أَمَانَانِ نَبِيُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالاِسْتِغْفَارُ، قَالَ: فَذَهَبَ نَبِي اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبَقِيَ الاِسْتِغْفَارُ"، والشاهد أنه -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه ويستغفره في سجوده في صلاة الكسوف حتى لا يعذب أمته بذنوبهم التي أوجبت غضبه.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وتولى أمرنا وردنا إلى دينك رداً جميلاً..
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المسلمون: لقد عُرض للنبي -صلى الله عليه وسلم- في مقامه بصلاة الكسوف مِن أمور الآخرة ما يزيد المؤمن مِن ربه خوفًا ورهبًا، ورجاء فيما عنده وطمعًا، وحبًّا له وإجلالًا وتعظيمًا، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- تصديقًا وتسليمًا وانقيادًا، ومِن ذلك:
أولًا: أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى الجنة والنار، حيث صحَّ أن الصحابة –رضي الله عنهم– قالوا: "يَا رَسُولَ اللهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ".
وثانيًا: أنه -صلى الله عليه وسلم- رأي بعض الناس يُعذَّبون في النار، حيث صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ".
وثالثًا: أنه أوحي إليه -صلى الله عليه وسلم- بفتنة الناس في قبورهم، حيث صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي القُبُورِ مِثْلَ – أَوْ قَرِيبَ مِنْ – فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ أَوِ المُوقِنُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا، وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ المُرْتَابُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ".
أيها المؤمنون: عودوا إلى ربكم وتوبوا إليه، وأحسنوا أعمالكم، وقوموا بواجباتكم، وأكثروا من الأعمال الصالحة، أنشروا ثقافة الحب والأخوة فيما بينكم، أملئوا قلوبكم بالإيمان والتقوى، صفوا قلوبكم من الحقد والحسد والبغضاء والشحناء، صونوا أعراضكم ودمائكم وأموالكم، التزموا بتعاليم دينكم، عمروا هذه الدنيا بالخير والعدل والعمل والجد، واستعدوا لآخرتكم بكل ما يقربكم إلى الله، وخذوا الدروس من أحداث الزمان ومن هذه الظواهر الكونية، عند ذلك يدفع الله عنكم الشرور والبلايا والمصائب، قال الله –تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2- 3]
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].