الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إن ما يحدث في هذا الكون من تقلبات وتغيرات ورياح مرسلات وغبار وتراب تذروه الرياح الشديدات، وحوادث وكوارث مزعجة، وأمراض متنوعة مستعصية، وما نشاهده الآن من تقلب الجو وتغير الحال بين الفينة والأخرى، ولقد شاهدنا وشاهد غيرنا تلك الأتربة التي كالجبال والرياح، شديدة الانفعال، كل ذلكم -عباد الله- لحكم وأسرار، وناتج من الذنوب والمعاصي وانتشار الفساد في القرى والبوادي.
الخطبة الأولى:
الحمد لله مرسل الرياح، أحمده سبحانه بالغدو والمساء والصباح، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ)، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرشد إلى الوقاية عند هبوب الرياح، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ما غرد قمري وناح.
أما بعد:
فاتقوا الله بطلب الفلاح والنجاة والصلاح، واستعدوا -بارك الله فيكم- لما ينتظركم الموت الذي منه مستريح ومستراح.
أيها المسلمون: إن ما يحدث في هذا الكون من تقلبات وتغيرات ورياح مرسلات وغبار وتراب تذروه الرياح الشديدات، وحوادث وكوارث مزعجة، وأمراض متنوعة مستعصية، وما نشاهده الآن من تقلب الجو وتغير الحال بين الفينة والأخرى، ولقد شاهدنا وشاهد غيرنا تلك الأتربة التي كالجبال والرياح، شديدة الانفعال، كل ذلكم -عباد الله- لحكم وأسرار، وناتج من الذنوب والمعاصي وانتشار الفساد في القرى والبوادي.
يقول ابن القيم في كلامه القيم: "ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفاتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحوط والجدوب وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصان أمور متتابعة منها يتلو بعضها بعضاً، فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتفِ بقوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم:41]، ونزّل هذه الآية على أحوال العالم، وطابِق بين الواقع وبينها وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل، كل وقت في الثمار والزروع والحيوانات، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمات بعضها آخذ برقاب بعض، وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم -تبارك وتعالى- من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم وأهويتهم ومياههم وأبدانهم وخلقهم وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم؛ ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكبر مما هي اليوم، كما كانت البركة فيها أعظم، وقد روى الإمام أحمد بإسناده أنه وجد في خزائن بعض بني أمية سرة فيها حنطة كأمثال النوى".
ثم قال -رحمه الله-: "وأكثر هذه الأمراض والآفات التي تعم إنما هي بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم حكماً قسطاً وجزاءً عدلاً وقضاءً نافذاً، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا بقوله في الطاعون: "إنه بقية رجزٍ أو عذابٍ أُرسل على بني إسرائيل".
وكذلك سلّط الله تعالى الريح على قوم سبع ليالٍ وثمانية أيام، ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام، وفي نظيرها عظة وعبرة، وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفجور مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاءً لابد منه، فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغيث من السماء وسبباً للقحط والجدب، وجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم، فإن الله -سبحانه بحكمته وعدله- يُظهر للناس أعمالهم في قوالب وفي صور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم وآلام وغموم، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم...". انتهى المراد من زاد المعاد.
فالذنوب -عباد الله- لها خطرها الوخيم وشؤمها العميم، بل قال -رحمه الله- في الداء والدواء -وهو من الكتب النافعة للقلوب وشفاء-: "فمما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا بد أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببها الذنوب والمعاصي!! فما الذي سلّط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت عليهم من ديارهم دمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم حتى صاروا عبرة للأمم...". إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
أيها المسلمون: في هذه الأيام توالت علينا رياح شديدة وأتربة متصاعدة وأجواء مختلفة، حصل منها الضرر، وبان عجز البشر، وظهر ضعف الإنسان عن دفع ما يؤذيه، فكانت هذه الأتربة والرياح الشديدة تدخل في كل مكان مع إغلاق النوافذ وغلق الأبواب ووضع الحواجز، وأثرت في أمراض الصدر.
أيها المسلمون: إن الريح جند من جند الله، أرسلها الله على قوم عاد لما عتوا وقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، أرسل عليهم الريح العقيم وسماها سبحانه عاتية: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [الحاقة:6].
والرياح -عباد الله- جند من جنود الله ينصر بها أولياءه كما في غزوة الخندق؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا)، يقول مجاهد: "هي الصبا، كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم". وفي الصحيحين عن سيد الثقلين: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ".
أيها المسلمون: عندما أظلت قوم صالح سحابة ظنوا أنها غيث وهم بأمس الحاجة كانوا إلى المطر، لكن لم تكن كما في الحسبان: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف:24].
والرياح مسخر مدبر، وخلق من خلق الله، يتصرف فيه كيف يشاء، سخرها لسليمان -عليه السلام-: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)، (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) [الأنبياء:81].
إن مما يشاهد ويسمع -حينما تضرب الرياح والأعاصير- نسبة الرياح إلى الظواهر الطبيعية، كما يسميها بعضهم: هذا غضب الطبيعة، أو لها أسباب ولا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم، أو التناسي أنها مدبرة لعباد الله للرجوع إليه والتوبة، أو الاعتماد على الأسباب الحسية أو المظاهر السيئة أو الأجواء السيئة، ولا ينكر أن لها أسبابًا لكن من أوجد هذه الأسباب؟! ألا له الأمر: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ).
عباد الله: إن من الناس من يرى الرياح والغبار يتذمر ويسخط على قضاء الله وقدره، ويرسل الكلمات الخطرة فيسب تارة ويشتم تارة أخرى ويحيل ذلك إلى الطبيعة والأرصدة وإهمالهم، وكذا تصديق الفلكيين، وكأن قولهم معصوم، وعدم إقران ذلك بمشيئة الله النافذة.
هذا؛ ومن العلاج: ما ثبت عند أحمد والترمذي ما يقول الإنسان طلبًا للسلامة: "لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ".
ونأخذ بأسباب النجاة كالبعد عن مواطن الغبار والتعرض للرياح وإهمال الصغار وعدم أخذ الحيطة من إغلاق النوافذ والأبواب، وكذا من بهم أمراض الصدر والربو والحساسية، ولا بأس بلبس الكمامات إلا حال الصلوات فلا تلبس، وكذا استخدام الأقنعة الواقية في مواقع العمل لمن يتعرضون للأتربة، فالوقاية خيرا من العلاج، ومن القواعد: "الدفع أسهل من الرفع".
وفي صحيح مسلم من حديث أبي حميد قال: انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة, فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله, فهبّت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء".
والتنبيه وأخذ الحذر وطلب السلامة والحفاظ على الصحة أمر مطلوب، وسعي مرغوب، وفي الوقت نفسه إرسال هذه الرياح لحكم وأسرار، فلا ينبغي التأفف والتسخط، بل في طيات الكون حكم وأسرار.
وقد ذكر ابن خلدون أن الأرض بعد تقلب الفصول من فصل الشتاء إلى فصل الصيف تبدأ بلفظ أمراض وحشرات لو تركت لأهلكت العالم، فيرسل الله الغبار ليقتلها: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ).
هذا؛ وما انتشر عند بعض الناس بالدعاء: "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا". فهو حديث ضعيف لا يصح.
ولنا -عباد الله- مع هذا الغبار تفكر واعتبار ودروس باختصار، منها عجز الإنسان وضعفه، وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ومنها عظمة العظيم وقوته الباهرة وقدرته القاصمة ومشيئته النافذة وعزته الباهرة.
ومنها: إنذار وإعذار توبة وادّكار، ومنها: أن ما يقع بسبب الذنوب والمعاصي، ومنها: أنّ تحرك الغبار وإرسال الرياح إنما هو بتدبير الله له وأمره وعلمه وإحاطته وتصريفه سبحانه.
ومنها: تعظيم الواحد القهار؛ فمن نظر إلى ما تحمله تلك الرياح من أمطار وأخطار وتقلبات بالليل والنهار أورده ذلك تعظيم الله ومحبته وطاعته ورجائه والخوف من عقابه.
ومنها: ضعف التوكل والاعتماد على الله وضعف الإيمان، فالواجب قوة الإيمان والتوكل الصادق على الرحيم الرحمن وتحقيق التوحيد والإيمان بأسمائه وصفاته.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
أيها المسلمون والإخوة المؤمنون: كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- إذا كان يوم الريح والغيث عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سري به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال: "إني أخشى أن يكون عذابًا سلط على أمتي". رواه مسلم.
فهل -عباد الله- أخذنا درسًا من هذا؟! فإذا هبت الرياح وتمايلت الأشجار واهتزت الأغصان وانتشر الغبار رجعنا وخفنا واستغفرنا وتبنا؟! أم العكس!! وكلٌّ لا يزال على ذنبه عند القنوات الهابطة والصور الماجنة وتضييع الصلوات وأكل الربا ولحوم المؤمنين والمؤمنات ومعاكسة النساء وشرب المخدرات، ولا تسمع إلا أصوات الغناء والمزامير وإسبال الثياب وحلق اللحى وشرب الخبائث الدخان، وكذا الظلم وانتشاره والسخرية بالعلماء والحط من قدرهم وتحريف النصوص والسعي لنشر الرذيلة وإشاعة الفاحشة وزعزعة الأمن والأمان، والشهادة الباطلة في الأيمان، وتنوع الحيل وضعف الأمانة وكثرة الخيانة وانتشار الكذب والغيبة والنميمة في المجالس.
أما ترون عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام!! أما ترون من رواد القنوات وأصحاب الفضائيات إن سلم أحدهم من فيلم ساقط وقع على رقص حابط، وإن سلم من طعن في الدين واستهزاء بتعاليمه وعلماء الدين وقع في شهوات إلى الجبين.
إن وقوع هذه الفتن والزلال والكوارث والأعاصير والقلاقل لا تحسبوه -عباد الله- سدًا أو عبثًا، بل وقوع هذه الآيات عظة وذكرى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) [الإسراء:59]، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأحقاف: 27]، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأحقاف:27].
إنها نذر لتلين القلوب القاسية والجوارح العاصية، ولتدمع العيون الجامدة، ولقد توعّد الله من عصاه وخالف أمره واتبع هواه: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك:17]، فليس بيننا وبين ربنا واسطة.
أيها المسلمون: إن هذه العواصف الترابية والرياح المتتالية، إن المؤمن الحصيف حينما يشاهد مثل هذه التغيرات ليلجأ إلى الله بالتوبة النصوح، والخوف من الجليل، والاستعداد ليوم الرحيل، ومحاسبة نفسه قبل حلول رمثه.
إننا نشاهد هذا ونراه بأم أعيننا، فلا نغير حالنا وكأن الأمر لا يعنينا، فإلى متى نظل على معاصينا؟! إلى متى الغفلة فلا نخاف عند حدودها ولا نغير عند نزولها، وكأن الأمر يُعنَى به غيرنا.
هذا؛ وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا.